اعلم بأن كل روح من الأرواح الإنسانية قبل التعلق بالأجساد كان من المقربين في حضرة رب العباد، لا يزال الرب يسقيه بكاسات الشراب السلسبيلي شرابا طهورا، ويملأ صدره بالمزاج الزنجبيلي لذة وسرورا على أيدي سواقي أسمائه وصفاته في مجلس الحضرة الإلهية وذاته فطورا يسكره شراب تجليات الجمال وطورا يطربه حسن النغمات، ألست بربكم المتعال، فمرة يصبح في مشاهدة جمال الذات هائما، وأخرى يمسي لحق جواب الله قائما سالما عن الأتراح بذي سلم السلامة والأفراح مزدحما في جيرانه من الأرواح، مجتنيا ثمار روضة الوصال، ناظرا إلى نضارة رياحين الكمال، ومتشمما شمائم أزهار الحدائق، ومتنسما نسائم أنوار الدقائق، مستطلعا طوالع شوارق الهداية ومستلمعا لوامع بوارق العناية، ولما ورد الأمر الإلهي بالهبوط عن تلك الحضرة العليا إلى محل طوارق الآفات والبلايا ما كان يرضي بمفارقة الوطن المألوف، وما كان يتحمل مباعدة المشغوف وكان يقول لجيرانه:
أَحِنّ وَما فارَقتُكُم غَيرَ لَيلَةٍ ... فَكَيفَ إِذا سارَ المَطِيُ بِنا شَهرًا
نعم إذا كان الشخص في وطنه مرفّه الحال، وفي منزله فارغ البال، لا يميل إلى المسافرة، ولا يرضى بمقاساة الشدايد والمجاهدة، سيما إذا كان ما إليه السفر فاسد الهوى غير عذب الماء إلى غير ذلك من موجبات النفرة وأسباب الدهشة، فأطلعه الله على بعض حكم هذا السفر الشاسع، وألهمه أسرار قطع ذوي هو لرسالة المراسي واسع، ثم نبأه عن سر المعية بقوله وهو معكم أينما كنتم، وأزال عنه توهم المفارقة بإشارة فأينما تولوا فثم وجه الله ومع هذا وهو متوحش عن مفارقة الوطن كارهًا وصاله إلى بلقع البدن كما أخبر عنه الرئيس بقوله:
هَبَطت إِليكَ مِنَ المَحَل الأَرفَعِ ... وَرقاءَ ذاتَ تَعَزُزٍ وَتَمَنُعِ
مَحجوبَةٌ عَن كُلِ مُقلَةٍ عارِفِ ... وَهيَ الَّتي سَفَرَت وَلَم تَتَبَرَقعِ
وَصَلَت عَلَى كُرهٍ إِليكَ وَرُبَما ... كَرِهتُ فَراقَكَ وَهِيَ ذاتُ تَفَجُعِ
وهاهنا نمسك عنان القلم لما أردنا من تقديمه ونعود إلى المقصود المرجو من فضل اله سبحانه حسن تفهمه وتفهيمه فنقول: قال المولى العلامة بل الله بوابل الرضوان زمامه:
هَديُهُ وافَت إِلى صَنعاءَ اليَمَن ... تَخُصُ أَربابَ العُلومِ وَالفِطَنِ
الهدية في اللغة ما يتحف به جمعها هدايا، ووافت: وافت من الموافاة بمعنى الوصول، وصنعاء اليمن: مدينة معروفة والإضافة فيها من إضافة العلم إلى صفته معنى مع بقاء تعريفه كما اختاره نجم الأئمة إذ لا منع من اجتماع تعريفين، العلمية والإضافة، كما اجتمعا في نداء الأعلام ووصفها باليمن للتوضيح إن لم يكن موجودا إلا هي كما في مضر الحمراء، وإنما الشاء، وزيد الخيل أو للتخصيص إذا شاركها غيرها كما قيل إن ثمة بلدة في أرض الشام تسمى صنعاء وجاز الإبتداء بالنكرة هنا لحصول الفائدة التي هي مناط الجواز، كما ذهب غليه المحققون من النجاة، كقولهم: كوكب انقضت ساعة والجملة من قوله وافت خبرها. ويجوز أن تكون هدية خبر.
لمبتدأ محذوف أي هذه هدية والجملة صفة، وقوله تخص يحتمل أن يكون حالا من ضمير الفاعل في وافت أو صفة أخرى لهدية، وأرباب العلوم: الذين لهم اختصاص وملابسة لها حتى كأنها ملك لهم يتصرفون فيها كتصرف المالك بملكه وهي مبني على جواز إطلاق الرب على غير الله تعالى مع تقيده بالمضاف وفي القاموس: رب كل شيء مالكه ومستحقه أو صاحبه.
والفطن: جمع فطنة بالكسر وهي الحذق.
وَتَصطَفي مِن بَينِهِم فُلانا ... لا زالَ في عَينِ العَلى إِنسانًا
تصطفي: مأخوذ من الصفو وهو الخير، معطوف على تخص بكلا واجهية، وفلانا: من أسماء الكنايات عن الأناسي، وكذا فلانة يستعمل فيها مجرا عن آلة التعريف وبهما كناية عن البهائم، يقال: ركبت الفلان، وحلبت الفلانة، وقوله لا زال إلى آخره جملة دعائية لا محل لها من الإعراب:
تَرفُلُ في مَطارِفَ الحَسناءِ ... قَد قَلَدَت مَنطِقَةَ الجوزاءِ
1 / 11