وقد يجوز أن يكون اراد. من طاعنى ثُغر الرجال جآذرُ، ومن السلاح دُملجٌ وخلخالُ يذهب في ذلك إلى التعجب. وحذفت الألف التي لفظها الاستفهام، ومعناها هنا الإنكار. لأن اللفظ مُكتفٍ بذاته، لما فيه من معنى التعجب، كقول أبى تمام:
أسربلُ هُجْرَ القول من لَوْ هَجَوْتهُ ... إذن لَهَجاني عنه معروفهُ عندي
أي أأسربلُ، فحذف الألف. ومثله كثير إذا تضمن الكلامُ معنى الإنكار والعجب.
وله ايضا:
) صَغَّرت كل كَبيرةٍ وكَبُرت عَنْ ... لكأنهُ وَعَدَدت سن غُلام (
أي فعلت الصنائع الحسان. فصغرت كل صنيعة جسيمة فعلها غيرُك، بالإضافة إليها. وجللت عن التشبيه بشيء من الأشياء التي لا نظير لها في العالم، كالشمس والبدر والبحر. وعددت سن غلام: أي نلت هذه النهاية، وبلغت تلك الغاية في حد صباك. فذاك أغرب وأشرف.
فقوله) وعددت سن غلام (جملةٌ في موضع الحال. كأنه قال: بلغت كل ذلك غُلامًا، وكان ينبغي أن يقول:) صغرت كل عظيمة (مكان) كبيبرة (لأن الصغر عند الأوائل، إنما يقاله العظم. ولكنه حمله على طريق اللغة، لأن الكبير وإن كُنى به عن المُسن، فقد يكون لعظيم. إلا أن غير المشترك في التقابل، خير من المشترك فتفهمه.
) مَهْلًا ألا لله ما صَنَع الْقَنا ... في عمرِو حَابِ وَضَبَّة الأغتامِ (
اراد عمرو حابي، فرخم المضاف اضطرارا، كقوله أنشده سيبويه:
أودى ابنُ جُلْهم عَبادٌ بصرمته ... أن ابن جُلْهُم أمْسى حية الوادي
قال: اراد بن جُلهمه، والعرب يُسمون الرجل جلْهمة، والمرأة جُلْهم كل ذلك حكاه سيبويه.
والأغتام: جمع أغتم. كسر أفعل على أفعال، وهو قليل. ونظيرة أعزل وأعزال، وهو الذي لا سلاح له، وأغزل وأغزال وهو الذي لم يُختن.
) أحْجارُ ناسٍ فَوَقَ أرضٍ من دمٍ ... ونُجومُّ بِيضٍ في سماءِ قَتَامِ (
لما استعار للدم أرضًا، استجاز تسنية جُثث القتلى أحجارًا وشبه البيض للمعانها في القتام بالنجوم النيرة في الظلام.
) وذِرَاعُ كل أبى فُلان كُنيةٌ ... حالت فَصَاحبُها ابو الأيتام (
أي وفي ذلك المعترك أذرع قطعت من قوم كانوا يُكنون أبا زيد، وأبا عمرو، وأبا عبد اللة، وغير ذلك من أنواع الكنى. فلما قُطعت منهم ماتوا فكنى كل واحد منهم أبو الأيتام.
وله ايضا:
) عَذِيري من عَذَارَى من أمُورِ ... سَكَن جَوانحي بَدَل الخُدُور (
عذارى: أي خطوب أبكار لم تصب أحدًا قبل. هذا معنى العذرة فيهن و) مِنْ (ها هنا للتبيين. أي ليست هؤلاء العذارى من النساء، إنما هي من أمور الدهر، أي أعذرى، أو من عاذرى؟ وقوله:) من أمور (خلص عذارى الخطوب هنا: من عذارى النساء، لا يسكن الجوانح إنما يسكن الخدور. فاقام جوانحه لعذارى الهموم مقام الخُدور لعذارى النساء بدل ظرف. أي مكان الخدور، كما حكاه سيبويه من قول العرب: إن بَدلك زيدا، أي إن مكانك. قال: ويُقال للرجل: اذهب معك بفلان، فيقول: معي بدل فلان، أي يغنى غناء، ويكون في مكانه.
وله ايضا:
) مَناَفِعُها مَاضَرَّ في نفع غيرِها ... تَغَذىَ وتَرْوَى أن تْجُوع وأن تَظما (ذ
أي أن ضُرها لنفسها منفعة لها، إذا جر ذلك نفعا لغيرها تغوثًا بالمجد، واحتساب الأجر، كقوله تعالى:) ويُؤثِرُون على أنْفُسِهم وَلَو كَانَ بِهمُ خَصَاصَةٌ (. أي طلبًا للأجر. ثم فسر قوله:) منافُعها ما ضر في نفع غيرها (. بالنصف الثاني، فقال) تَغذَّى وتَرْوَى أن تجوع وأن تظما (. أي أنها تجوع لتخص غيرها بطعامها، فهي تَغَذى بذلك الجُوع ولا يُثر فيها، بل هو نماء لجسمها. وتعطش لتخُخص غيرها بشرابها، فذلك العطش رى لها، إذا هو في سبيل المجد.
فتلخيص القضية. أنها تغذى بالجوع، وتروى بالعطش. وكان وجه الصنعة - لو استقام له الوزن - أن يقول. تَشْبع وتروي، ليُقابل الجُع بالشِّبع، كما قابل العطش بالري. ولكن لما كان في التغذي ما يُشعر بأنه ربما كان معه الشِّبع، تَسمَّحَ به، وأراد) أن تَطْمَأ (فأبدل الهمزة إبدالًا صحيحًا، حتى ألحقها بحروف العلة، وذلك لحاجته إلى الوصل، لأن الهمزة لا يُصل بها الروي، ولا يطرد هذا في كل شيء.
1 / 29