إلا أن الابتسام أبلغ من الاستعذاب، لأن الابتسام مُشعر بلذةٌ نفسانية.
وله ايضا:
) بأبى الشَّموسُ الجانحاتُ غواربا ... الَّلابِسَاتُ من الحرير جلاببا (
الشموس هنا: النساء والجانحات: الموائلُ للغروب. فإن شئت قلت: إنه شبههن بالشموس في هذه الحال، لأنه لقيهُن، فأظهرن الخَفَر، أو خَفَرْن فَسَتَرْن بعض محاسنهن، وأبقين بعضا: إما للمُباهاة، وإما لأنهن لم يمكنهن إلا ذلك، فجعلهن كالشموس التي أخذت في الغروب، فخفى بعضها، وبقي بعضها، كقول قيس بن الخطيم:
تَراءتْ لنا كالشَّمس تحت ... غمامة بَداَ حاجبٌ منها وضَنَّتْ بحاجبِ
وإن شئت قلت: إن هؤلاء النساء غبن في الخدور والهوادج، فكأنهن شموس غوراب. هذا قول ابى الفتح، وليس عندي بقوىّ، لأنهن إذا غبن في الخُدور والهوادج، فهن غير محسوسات، والشمس إذا جنحت للغروب فبعضها محسوس، وبعضها غير محسوس. ولم يقل الشاعر: بأبى الشموسُ غواربا فُيتأول أنه عنى النساء اللواتي أخفتهن الخدور، وإنما قال: الجانحاتُ، والجنوح لا يقتضي كُلية الغروب.
فإن قلت: فقد قال:) غواربًا (، فأشعر ذلك بغروب كُلي، قلنا: قد أثبت الجنوح قبل ذلك. وإنما قال: غواربًا، وهو يذهب إلى أنه آخذه في الغروب ولما تغرب بعدُ. كقولهم في العليل إذا يئس منه: هو ميتٌ؛ وإن لم يُمت بعدُ. وقد يجوز أن يوقع غواربا على الكُل حين غرب الجزء تجوزًا لا حقيقة.
وله ايضا:
) سلامٌ فلولا الخوفُ والبخلُ عنده ... لقلتُ أبو حفصٍ علينا المُسلم (
أي إنى ارتحت بسلام هذا الطيف عليَّ، كارتياحي بسلام هذا الممدوح، فكأن سلامه علىّ تسليم إبى حفص علىّ. لكن الفرق بين الخيال وتسليم أبى حفص أن تسليم الخيال يتخلله بتمام الوصل وتحقيقه، والخوف من فراقه، وألم معاتبته على بطعم الغُمض بعده. فتسليمه كَدِرٌ بهذه الآفات وتسليم أبى حفص لا يلحقه بخل ولا خوفٌ، بل هو الشرف السابغ الهنىء.
) وأغربُ مِن عَنقاءَ في الطيرِ شَكْله ... وأغْوزُ من مُستَرْفدٍ منه يُحرَمُ (
ليس الشكل هنا: الصورة لأن صورته موجودة، وعنقاء مُغرب معدوم البتة. فلا يقال في موجود إنه أغربُ من معدوم. والشكل هنا: المثل، أي أن شكله اسم واقع على غير مُسمى، أي لا شكال له، كما أن العنقاء اسم لغير مسمى. وإنما يوجد الشكل ملفوظا به في نفي الشكل عنه، أعنى في قولك: ماله شكلٌ، فتفمهه، فإنه معنى منطقي.
) وأعوزُ من مُستَرْفدً منه يُحرم (: أي أن نظيره عدم، كما أن مسترفدًا منه محروما عدم.
وقال:) أعوز (وإنما هو أشد إعوازًا، لأنه جاء به على حذف الزائد. هذا قول أبى الفتح. وليس على حذف الرائد كما قال، لأنه يقال: عازه الأمر وأعوزه. فأعوز في بيت المتنبي على) عاز (، لا على) أعْوز (.
وإنما يتوهم حذف الزائد إذا لم يوجد عنه مندوحة، كقولهم: ما أعطاه للدرهم وآتاهُ للجميل وأولاهُ للمعروف، فإن هذه كلها على حذف الزائد. والمسترفدِ: طالب الرفد، لأن باب استفعل في غالب الأمر، إنما هو للطلب والمحاولة، كاستخرج واستسمن واستجاد.
قال سيبويه: وقالوا مرَّ مستعجلا، أي مرّ طالبًا ذلك من نفسه، متكلفا إياه.
وله ايضا:
) أركائِبَ الأحْباب إنَّ الأدْمُعَا ... تَطِسُ الخُدود كما تَطِسْنَ اليَرْمُعا (
أي أن الدمع يؤثر في الخدود تأثير كُن في اليرمع، وهو الكذان.
وتطس: تكسر، وليس هناك كسر، إنما بالغ في التأثير، فكنى عنه بالكسر، للتكثير.
) نظِمَت مواهبهُ عليه تَمَائِمًا ... فاعتَادَها فإذا سَقَطْن تَفَزَّعَا (
أي اعتقاده في مواهبه أنها تقيه المذام كاعتقاده في التمائم انها تقيه السوء، فاذا خلا منهن تفزع، كفَزعَ ذى التمائم إذا سقطت عنه. وإنما ضرب ذلك مثلا. ولو قال: فلو سَقَطن تَفزعا: لكان سقوطها إنما يكون لعدم مالٍ أو انقطاع سؤال، فهذا توجيه قوله:) فإذا سقطن (، و) تمائمًا (منصوبة على الحال، وإن كانت اسما، لأن فيها معنى حَوَارِس، وقد يكون الاسم الجامد حالًا، على توهم الصفة، كقوله تعالى:) هَذِهِ نَاَقةُ الله لَكُمْ آيةً (. قال سيبويه:) وسمعنا من العرب من يقول: العجبُ من بُرً مررْنا به قبلُ، قفيزًا بدرهم قفيزا بدرهم (فقيزا بدرهم حال، وهذا واسع كثير.
1 / 20