وقال:) في نهارها (لستغرب وجود الظُّلم نهارا، واختار ذلك لمكان القمر، اذ القمر في غالب أمره، لا يكون إلا مع الليل، وهذه البحيرة بالشام وليست البحيرة تصغير بحر، لأن البحر مذكر، فلا تثبت الهاء في تصغيره، إنما هي تصغير) بحرة (! وهو القاع العظيم يُنبت السدر، كقول النمر بن تولب في صفة روضة:
وكأنها دَقَرَى تَخيَّل نبتُها ... أنفٌ يغم الضال نبتُ بحارِها
) ناعمةُ الجسم لا عظام لها ... لها بَنَاتٌ ومالها رحيمُ (
وصف جسمها بالنعمة لأنه ماء، والنعمة إنما تكون في النامي، وهما الحيوان والنبات، وأما الماء؛ فلا يقبل نماء. وإنما كثرته بعد القلة كمية لا كيفية. لكن لما كان الناعمُ صافي البشرة، وكان الماء صافيًا، استعار له النعمة، كما يقال في البرود ذوات الدُّور والفرائد: ناعمة. وأنما هو على الاستعارة.
) لها بنات وما لها رحبمُ (: أغرب بذلك؛ لأن البنات مولودة، ولا تلد إلا الرحم، فهذه ذات بنات بغير رحم ولدتهن. وعنى بالبنات: سَمكها؛ كأنه لما ربين فيها وغتذين، صرن لها بنات.
وإن شئت قلت: إن الماء للسمك كاللبن للمولود. فلما غذتها هذه البحيرة بما فيها، صارت كالوادة الكرضعة. وقد ألم التنبي في هذا بقول ابن الرومي يستهدي سمكا:
وبناتُ دجِلة في قبائِكُمُ ... مأسورةُ في كل مُعتركِ
إلا أن المتنبي زاد عليه بقوله:) وما لها رحمُ (، فأغرب.
) يُبْقرُ عَنْهن بطنُها ابدًا ... وما تشكى وما يسيلُ دمُ (
يُحاجي بذلك، لأن شق البطون الحيوانية يُشكى ويدُمى. وهذه البحيرة يُشق بطنها عن سمكها، فلا تشتكي ولا تدمى بعدمها الحيوانية.
) وقد توإلى العِهَادُ منه لكُمْ ... وجَادَتِ المَطَرةُ التي تَسِمُ (
الوسى: أول المطر، لأنه يسم الارض بالنبات. والعهدة: المَطْرة تاتي بعد الوسمى، تعهد الارض بالنبات.
واعتيادُ الشعراء الاعتداء على الملوك بتكرر مدحهم فيهم، وتمهيدهم بذلك الحقوق عندهم، كقول أبى تمام:
لها أخوات غيرُها قد سمعتها ... وإن تَرُغْ بي مُدًة فستمع
فيقول: هذه القصيدة الثانية من جملة العهاد التي تتعهد الارض، وأما القصيدة الأولى التي كانت كالوسمى فقد جادتْ.
وله ايضا:
دارُ الملم لها طيفٌ يُهدِّدُنى ... ليلًا فما صدَقت عيني ولا كَذَباَ
أي تهددني الطيفُ بالهجر؛ كما كانت رؤويته في اليقظة، والحلم جار على عاداته في اليقظة، فما كذب الطيفُ فيما تهددني به، لأن الهجر واقع. وما صدقت عيني في رؤية الخيال، لأنه زور لا حقيقة. والألف واللام في) الملم (للمراة، والفعل للطيف ولها. والام فيها للاستحقاق لا للملك لأن الطيف غير مملوك، وإنما هي مستحقة له من حيث كان إياها في المعنى.
) عُمْر العدُوِّ إذا لاَقَاه في رَهَجٍ ... أقلُّ من عُمْرِ ما يَحوي إذا وَهَباَ (
ليس الموهب بمحوى فيصح قوله: أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا، لأن ما فارقه بالهبة، فليس في ملكه، وإنما عنى: إذا أراد أن يهب. فاكتفى بالمعلول الذي هو الهبةُ عن العلة التي هي الإدارة.
) وَتغبِطُ الارض منها حيث حلَّ به ... ونحَسُدُ الخيلُ منها أيَّها رَكِباَ (
غبطت الرجل: إذا تمنت مثل ماله من النعمة، ولم تُرد زوالها عنه. وحسدته: إذا تمنيت ماله بزواله عنه. فجعل الارض تغبطُ، لأنها جرم واحد متصل. والذات الواحدة لا يريد بعضها ببعض كراهة، وجعل الخيل تُحسد لأنها جمع غير متصل الأجزاء، ولا مُتداخلها، وإنما هي اشخاص مفترقة، وان ضمها نوع فهي متغايرةٌ بالشخص، ومشتركة بالنوع، والاشخاص متشاكلة ومتعادية. فمن المألوف أن يُحب بعضها بعض.
و) أيها (: منصوب بركب، ولا يكون بتحسد، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا أن يكون حرف جرٍّ.
) بكُل أشْعَث يلقى الموت مُبتسمًا ... حتى كأن له في قتله أرَبا (
أي أنه يستبشر بالنية إذا كانت في سبيل المعالاة، لأن ذلك يُعقبه ذكراُ رفيعًا، ومثله كثير، كقول الشاعر:
إذا قتلوا أقرائَهم لم يَروهُمُ ... وإن قُتلُوا لم يقشعرُّوا من القتلِ
إلا أن أبا الطيب أغرب بقوله:) مبتسما (، فهو أبلغ في قلة المبالاة بالمنية من قوله:) لم يقشعروا (. وقال أبو تمام:
يَسْتعذبُون مناياها كأنهمَ ... لابَيْأسون من الدنيا إذا قُتلُوا
1 / 19