وهذا هو المراد بما يقال أبدا عند إظهار حسنات الزعامة الديمقراطية وإبراز فضلها والتنويه بخيرها، من أنها هي التي تحدث وقدة النشاط في الجماعة، وتستثير الحمية في النفوس، وتكسب الأمم روح المرح والأمل، وتبعث عاطفة الإيمان واليقين؛ لأنها في الحق، إذا بلغت أشدها وظهرت في رأس الجماعة بخير مراتبها وأحسن درجاتها، أكبر معوان لنا على السمو فوق أنفسنا، وهي لهذا السبب وحده - إن لم يكن لسواه - من أكبر واجباتها لكي تنجح وتعمر في البلاد الديمقراطية أن تعمل في كل ناحية، وتشرف على كل فرع من فروع الحياة، وتوجه الآخرين أحكم توجيه، وترشد الناس جميعا إلى ما ينفعهم. ويرد عليهم أحسن مرد، وهي ليست موكلة كما يظن بالقضايا الخطيرة وحدها، والحركات الكبرى دون سواها؛ وإنما هي - كما قلنا - المشرفة على كل شيء، الباعثة النشاط والسداد والحكمة في كل ناحية، أو هي «الراعي» العام الذي يرتاد للجماعات أطيب مرتاد، ويرعى مرافقها أتم الرعاية ... •••
وأنت قد بدا لك من هذا الذي استرسلنا فيه بسبيل الديمقراطية وموضع الزعامة منها، أن الفرص السوانح للزعامة كثيرة تحت هذا النظام وفي جواره، وأن الخطر الوحيد الذي يخشى على الديمقراطية من ناحية الزعامة هو في فتون السلطان وإغرائه الزعامة بالتناهي فيه، وحب الاستمساك به، والاستحواذ المطلق عليه، ونحن نريد الآن أن نبين لك أن هذا الخطر بالذات قد ظهر في كثير من الديمقراطيات قديما وحديثا على السواء، حتى في أول عهد الإنسانية بالثورات، وإبان استرداد حقوقها الطبيعة من الغشم والمستبدين بالسلطان؛ فقد حشد التاريخ سير زعماء بدءوا مخلصين للجماعات أمناء على حقوق الشعوب، ثم لم تلبث أثرتهم أن طغت على جانب الخير فيهم فبغوا الانفراد بالنفوذ، وراموا الحرص على كل السلطان، وفي سير دانتون ومارات وروبسبيير من زعماء الثورة الفرنسية الكبرى أصدق الصور على هذه الحقيقة الملابسة للديمقراطيات.
دانتون.
مارات.
روبسبيير.
وفي العصر الحديث قد رأينا زعماء مضت خططهم بادي الرأي صالحة لخير المجاميع، ثم ما لبثوا بفعل التخدير الروحي الذي استعانوه على تملك نواصي الجماعات، والأخذ بمقاود الأمم، خلال النشوة المذهلة، والثمل بأحلام المجد والعظمة، وأماني الخير والرخاء، أن انقلبوا مطلقي السلطة، منفردين بالأمر، وإن أبقوا في الديمقراطية على ظل واهن، وتركوا النظام النيابي قائما بهيكله دون جوهره. وقد صبرت الجماعات لهذا التحول الجديد، وارتضت إلى حين هذا الانقلاب الظاهر؛ لأنها ظلت في ثمل بالمجد المنتظر والعلاء المتطلع إليه، والرفعة التي يتحدث لها عنها في لغة من الشعر، وبيان كالسحر، وتصوير يستبي القلوب، ويستحوذ على الوجدان.
وفيما شهدنا من فعال بلسودسكي زعيم بولونيا، وبريمو دي ريفيرا في إسبانيا، وفنزيلوس في اليونان، ومصطفى كمال في تركيا، وهتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، أدلة ماثلة على الديمقراطيات التي تتعرض للخطر الذي أشرنا إليه، وشواهد نواطق عن احتمال اتجاه الزعامات الديمقراطية إلى ما يسمونه السلطان المطلق للخير، أو الدكتاتوريات الخيرة الحسنة القصد الطيبة المراد.
ولكن هذه الأحداث ليست في الواقع كما قدمنا غير هزات عارضة، وفترات قصار، تمر على الجماعات، فتدعها تستسلم لحرمانها من حقوقها، وتسلم كل السلطات وهي مصدرها، تحت تأثير الحلم الذهبي المصور لها، فإذا لم يتحقق، اقتصت من الذين خدعوها، واستعادت سلطانها المغصوب.
ولقد كان القدر الرحيم متلطفا بنا، راعيا لأمرنا؛ فنشأت عندنا الديمقراطية، قبل أن يتوطد لدينا الاستقلال، وكان خصومنا يظنون أننا سوف ننشغل بها عن طلبه، أو ستشغلنا هي بأنفسنا، وتبذر بذور الشقاق والفرقة بيننا، فلا ننصرف إلى استكمال استقلالنا؛ فأطلقوا لنا أولا المشيئة في إقامة الديمقراطية ونظامها، وافتتاح الحياة النيابية ومطالبها، فوضعنا دستورا وأنشأنا برلمانا، ثم وقف خصومنا عن كثب يشاهدون ماذا ترى نحن صانعون ...؟!
ولكن الدستور الذي أريد به أن يكون أذى وبلاء انقلب خيرا ووفاء، بل إن الدستور الذي قصد به أن يروح أداة تفريق، لم يلبث أن استحال أداة توحيد ووسيلة إجماع، ومظهر تكاتف وتضافر والتئام؛ لأنه جاء فغربل الجماعة، ونخل الحياة، ونفى ما لا خير فيه، وأبقى على الخير الصالح وأبرز الطيب الماكث في الأرض، وجعل الزبد جفاء.
Halaman tidak diketahui