ومن الحق بل من الواجب أن يكون عبء الإثبات ومهمة التدليل على صلاحية الزعامة وطيب نوعها وحكمة اتجاهها واقعا في الجماعات الديمقراطية على الزعيم نفسه، فهو الذي ينبغي أن يبرز حقيقته للناس في عمله، ويدلل على نوع زعامته بمسلكه وتصرفاته.
وينبغي ألا ننسى أن الشعوب الديمقراطية العريقة قد تلقت دروسا تاريخية في هذه الناحية، ووجدت العبر المواثل لها في ماضي حياتها، فأضحت بحق تخشى قيام الطغاة والجبابرة، وتشفق من النزعات الاستبدادية التي طالما خلقت من قبل أسرات متحكمة، وأرستقراطيات وراثية، وبغاة مطلقي السلطان.
ومن ثم قد أصبحت هذه الشعوب تطلب - ولها الحق فيما تطلب - من كل زعيم يتولى قيادتها أن يبرر وجوده، ويثبت استحقاقه لمكانه، ويدلل على شفيعه لاحتلال موضعه، بأن يظل أبدا راعيا لحقوق الأمة وسلطتها، ذاكرا حقوق الأفراد وآمالهم، وأمانيهم ومطالبهم، مخلصا لبلاده، متفانيا في وطنه، بعيدا من نزوات الشهوة والمآرب والأغراض.
وليس هذا بناف ما للزعماء من سمو المواهب، ورفعة النفوس، وبعد البصيرة، وأصالة الرأي، وما هو باعتراض على وجود هذه الملكات والصفات فيهم، ولكنه بالعكس يدلل على وجوب توافرها، مثبت لضرورة اجتماعها؛ لأنها هي المعوان لهم على مجانبة الخطأ، والبعد من إغراءات السلطان.
وسوف يظل الزعيم الصادق العظيم الخليق بموضعه هو الفرد الرفيع العلي، المكين في الجماعة؛ بل سوف يظل خير من يتولى القيادة بفضل هذه المواهب وقوة هذه الملكات وجلال هذه الصفات، وإنما العبرة في الطريقة التي يستخدم بها تلك المواهب، والأسلوب الذي يتخذه في إبراز تلك الملكات والغايات والأغراض والمقاصد التي يتوخاها باستغلال تلك الصفات والميزات جميعا، فإن ذلك هو في الحق والواقع امتحان الزعامة ومبتلى فضلها ومقياس شأنها؛ إذ على كيفية الانتفاع بالمقدرة والحذق والمواهب التي تتوافر في الزعيم لخير المجموع وصالح الشعب وفائدة الجماهير، يتوقف مكانه عند الناس، ومحله من النفوس، ونجاح زعامته في البلاد، وتوفيقه إلى ما يصون هذه الزعامة من السوء، ويحفظ لها الموضع ويطيل لها في البقاء.
المارشال بلسودسكي - زعيم بولونيا.
ومن هنا كان من حق الزعامة أن ترتفع بمكانها عن مواضع الصفوف، بل من واجب الصفوف أن تسمو بزعيمها عن مكانها هي ومحلها، وتقيمه في المحل الأرفع، وتقدسه تقديسا، وتمجده كل التمجيد؛ لأنها إنما ترعى فيه رمزها، وتنظر فيه إلى مثلها الأعلى ونبراسها، وتعتبره مجتمع آمالها وأمانيها وصورة فذة مفردة من صور نفوسها، وخوالج مشاعرها، وما يعتمل منها في القلوب والأذهان.
نعم هو إنسان مثلها، وبشري كما هم بشر مثله، ولكن المثل العليا تحتاج إلى هذا التقديس؛ لأنه إنما يتوجه إلى المبادئ التي تتمثل فيه، ويراد به المعنى الجليل الذي يطل منه، وليس في ذلك ريح الوثنية، ولا ظل لمعنى العبودية؛ لأنه ليس عن خوف، ولا هو من رهبة، ولكنه احترام ذاتي، احترام الأمة لكرامتها، وإدراك نفسي عميق لقيمتها، وهو مظهر عزة الناس بأنفسهم، وتقديرهم وإيمانهم بما يعتنقون من مبادئ وتعاليم، وما يبتغونه من مقاصد سامية ونبيل غايات، ومراتب رفعة وكمال.
ومن أكبر الخطر على الزعامة نفسها أن تنزل بأقيستها وأغراضها إلى مستوى الجماعات التي تتولى قيادتها، فإن ذلك ذاهب بجلالها، مضعف لشأنها، مفقد لسلطانها العظيم، وإنما ينبغي للزعيم أن يكون أعرف وأخبر بأتباعه وأنصاره وأشياعه وجماهيره منهم هم بأنفسهم، وأن يكون نظره إليهم وتصوره لهم وعمله ومجهوده من أجلهم مقترنا بالواقع، ملازما الحقيقة، متطلبا الخير، متطلعا إلى التقدم بهم إلى الأمام، فإن مهمة الزعامة أو واجبها الأول هو أن تحمل الناس على الولاء والتفاني في أغراض ومقاصد عظيمة خليقة بهم كأفراد أحرار مسئولين، وجماعة مستقلة تريد أن تحتل بين الشعوب مكانا عليا.
وفي الحق إن الأمم في الاستجابة إلى زعمائها والاستماع إلى أصوات قادتها، إنما تستجيب لما هو أحسن في نفوسها، وتستمع إلى ما هو أنقى وأسمى في أدوارها ومشاعرها وحواسها، وهذا وجه آخر من قولنا إن سريان الشخصية واتساع مدى سلطانها وترامي حدود نفوذها، وهو السريان الذي يساعد الزعيم على إيجاده عند التابعين له والسائرين في أثره، إنما يتلاقى في وقت واحد مع أكبر آمالهم في العيش، وأعز أمانيهم في الحياة؛ بل إن هذه الوحدة التي يجتمع الزعيم مع أنصاره وجماهيره عندها، وحدة الشعور، ووحدة الأماني والآمال والمطالب والدوافع، هي أكبر مبرر لوجود الزعامة، وخير مدلل على وجوبها في النظام الديمقراطي؛ إذ ليست الديمقراطية سوى العلاقة النفسية التي تربط أفراد المجتمع، والصلة الروحية التي تشد بنيانهم العام، والآصرة المعنوية من الرخاء والمساواة في الحقوق، والاشتراك في الجهاد للمثل العليا التي تتطلع المجاميع إلى بلوغها، وليس الزعيم الديمقراطي في الواقع سوى الوسيط أو المعوان الذي يساعد الجماعة على الارتباط بهذه الصلة، والتزام هذه الرابطة، والتضافر على بلوغ تلك الأمثلة.
Halaman tidak diketahui