كلمة الإهداء
تصدير وتصوير
سر الزعامة
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
الشخصية البارزة وصفاتها ومختلف مظاهرها
قوة الإرادة وضبط النفس
اللباقة والروح المرحة
الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها
Halaman tidak diketahui
الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي
المرأة والزعامة
الزعامة في الشرق
الثورة المصرية في أدوارها الأولى
سعد زغلول في دور التكوين
زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس
مصطفى النحاس نشأته وتكوينه
مصطفى النحاس في حياته العملية
مصطفى النحاس في عهد الثورة
سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور
Halaman tidak diketahui
مصطفى النحاس
مصطفى النحاس في الكفاح للدستور والاستقلال
مصطفى النحاس وتوافر صفات الزعامة فيه
كلمة الإهداء
تصدير وتصوير
سر الزعامة
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
الشخصية البارزة وصفاتها ومختلف مظاهرها
قوة الإرادة وضبط النفس
Halaman tidak diketahui
اللباقة والروح المرحة
الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها
الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي
المرأة والزعامة
الزعامة في الشرق
الثورة المصرية في أدوارها الأولى
سعد زغلول في دور التكوين
زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس
مصطفى النحاس نشأته وتكوينه
Halaman tidak diketahui
مصطفى النحاس في حياته العملية
مصطفى النحاس في عهد الثورة
سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور
مصطفى النحاس
مصطفى النحاس في الكفاح للدستور والاستقلال
مصطفى النحاس وتوافر صفات الزعامة فيه
مصطفى النحاس
مصطفى النحاس
تأليف
عباس حافظ
Halaman tidak diketahui
كلمة الإهداء
إلى الأمة المصرية التي أنجبت سعد زغلول، والتي أنبتت مصطفى النحاس، والتي أخرجت صحبه وزملاءه القادة الأبرار المخلصين.
أقدم هذه الرسالة الصغيرة الموجزة، منبعثة من أعماق صدر وطني مؤمن بهؤلاء الأبطال الأمجاد المغاوير الصادقين. •••
وإلى الأجيال القادمة، والغد المؤمل، والمستقبل الوارث للحاضر وعمله.
أزجي هذه الصورة الدقيقة المصغرة، من ريشة صادقة، ساذجة، غير حاذقة ولا ماهرة.
لتكون رسما للحاضر في صلته بالماضي المنشئ، والغد المستثمر، في حقل الحياة، على دورة الدهر، وكرة السنين.
عباس حافظ
تصدير وتصوير
ليس هذا الكتاب ترجمة حياة؛ لأن البطل الذي تناول بطولته بالبحث، والزعيم الذي شمله بالتحليل والدراسة - حي بيننا، نرجو بقاءه، وندعو الله أن يطيل في فسحة عمره ليخدم الأمة أكثر مما خدمها، ويفيض عليها بأغزر مما أفاض. ولا تكون التراجم ومدونات الأعمال وإقامة أدق الموازين، إلا بعد أن ينتقل الأفراد الخلقاء بها إلى ذمة التاريخ، ولا يزال لهذا البطل الذي انتوينا دراسته غد مرقوب، وحياة قادمة مرجوة الخير، وعمل عظيم طيب الغرس، حسن المجتنى، منتظر القطاف، موعود الثمر.
وإنما النية في هذه الفصول المحدودة، والأبواب المتعددة، تصوير البطولة من المعالم، ورسم الزعامة من الخطوط التقريبية، وتعيين النبوغ الوطني من ناحية رفعة مادته، وصدق معدنه وخاصيته، على ضياء ما ظهر من مزاياه وجملة موهبته، وبسبيل النجاح الأخير لجهوده في قضية الحرية والاستقلال.
Halaman tidak diketahui
ونحن فيما نصفه من عمل هذه البطولة وجهدها، إنما نصف الجيل الحاضر المندمج فيها، ونسجل آثار الماضي المشتمل عليها، الدافع إليها، وندون المزايا والمواهب التي اجتمعت لديها؛ ليكون هذا الكتاب فاصلا بين الترجمة والتاريخ، ووسطا بين التقرير والتسجيل والتدوين.
وما هو في الحق إلا تحية للفوز المكسوب، والنجاح المربوح، وتصوير للتقدير العام، والإيمان الشامل بالزعامة التي بلغت بالأمة هذا النصر المبين.
وقد جرينا فيه على نمط من التناول جعلنا مفتاحه البحث في معاني الزعامة وحدود البطولة، ثم تطبيق موجباتها ومطالبها على زعامتنا، والتماس نواحيها في أبطالنا وقادتنا، جلاء لحقائق البطولة عامة، وتصويرا لمظاهرها ومظانها ومواقفها في بطولتنا الوطنية خاصة، حتى يكون الكتاب درسا وتطبيقا، وبحثا وتحقيقا، وتعريفا وتصديقا، ومعالم ومقتضيات، وعبرا مواثل وعظات، ومرشدا للمستهدين والمسترشدين.
وقد جعلنا شخصية مصطفى النحاس ومبلغ بطولته ومحل زعامته من الزعامات، مقدمة الدرس ونظريته، والتمهيد للبحث ونقطته؛ لأنه الشخصية التي استحوذت على إعجاب الجيل ومحبته، والعظمة الصادقة التي وجدت الملايين من الناس بها مؤمنين.
وفي الحق إن عظماء الأمة وزعماءها هم المرائي البلورية التي يرى الناس على صفحاتها الشفافة وزجاجاتها الصقيلة الملتمعة، خواطر أذهانهم، وحقائق أنفسهم، وأطياف أخيلتهم، بل إن كل فرد منا مدفوع بفطرته إلى التماس العظمة عند غيره ليرقد تحت ظلالها، ويستريح من هم الحياة ومتاعبها تحت شجرتها، والناس من قديم الزمان عشاق البطولة، رواد الفضيلة، منتجعو نجعات النبوغ والتفرد والاستباق، فكلما جاءتهم نباغة أكبروها، فإذا ارتفعت مراتبها إلى الدرجات العليا احتشدوا حولها، وأسلموا أنفسهم إليها حيارى من أمرها، معجبين بقوة تركيبها، مبهوتين يتساءلون كيف تهيأ لها أن تبلغ هذا الأفق البعيد، وهم يتحاملون ليصعدوا، وتلهث أنفاسهم وهم لها طالبون.
ولكن البطل العظيم إنما يفتح عينيه فيرى الأشياء على حقائقها، منكشفة على أنواره المسلطة عليها، ظاهرة الأسباب، واضحة المعالم، مجلوة الأجزاء والدقائق والمفردات، على حين يذهبون هم يلتمسون رؤيتها فلا يبصرونها، ويفتحون أعينهم على سعة أحداقها فلا يرونها، ثم هم لا يسلمون من الخطأ وإن حرصوا؛ لأنهم يحاولون كل شيء، والعظمة لا تحاول شيئا، كما لا يحاول السكر أن يكون حلوا، ولا الملح أن يكون أجاجا؛ ولأن العظيم هو الذي خرج من مصنع الطبيعة جاهزا مفصلا على قد الزمن الذي ظهر فيه، ووفق مطالب العصر الذي احتاج إليه.
وكذلك كان مصطفى النحاس فينا عظيما، بل كذلك اتصل هو بنا واتصلنا نحن به، إذ وجدنا عنده شرح حياتنا، وبلاغ آمالنا، وبيان ما يعتمل في نفوسنا، ونحن فقد لا نعرف كيف نتحدث إلى الدنيا بما نريد، ولا نبين عما نقصد، ولا نجيد شرح ما يضطرب في أعماقنا، ولكن العظيم لا يلبث أن ينبري ليكفينا متعبة الإبلاغ، ويريحنا من مشقة التأدية، ويغني عنا مجهدة التفسير والبيان؛ لأنه قريب من نفوسنا، متصل بدقائق شعورنا، محتل موضعه من إحساسنا ووجداننا، وكل الذي هو طيب بفطرته، كبير في تأثيره، حسن في تقديره، واجد مكانه، مصيب موضعه، مقتعد مطمأنه، وإن التفاحة الصالحة لتخرج بذورها، وأما الفاسدة فلا تخرج شيئا؛ وإنما تخدم مع ذلك التفاح الطيب الصالح؛ لأنها تدل عليه، وتشير إلى الفارق بينها وبينه، ويوم يجلس الرجل منا في رحاب الحياة مكانه، ويقعد مقعد الصدق الذي أعد له؛ يروح الخصيب، ويمضي الباني المنشئ، ويغدو المحدث الفاعل المنتج، وإذا كان النهر العظيم هو الذي يخط بمجراه ضفافه، ويقيم شاطئيه، فإن طيبة الرجل العظيم هي التي تجد مصبها إلى النفوس، وتشق عباب الحياة إلى القلوب والأفئدة، ويوم تبلغ الغاية، ويرتفع منها المد، ويتعالى النوء والموج والفيض، هنالك الخصيب العميم، والحقل الناضر، والحراث الشاكر، والمستثمر العريف للصنيع.
ولقد أفاض علينا مصطفى النحاس من طيبة نفسه؛ فطابت به نفوسنا، وجرى إلى أعماقنا مجرى النيل إلى أرضنا، فكان فينا كوثر خير نحن الأعزة به، وكان فيضا روحيا عميقا، نحن به ناعمون.
لقد جاءنا مصطفى بطيبة مخلصة طاهرة، لا تتكلف صنعة ولا تزويرا ولا خبا، فلم نتكلف نحن لها رضى ولم نصطنع لها حبا، هو أعطانا كل نفسه، فأعطيناه نحن صفوة أنفسنا؛ وهو عظمة صراح متجلية على نورها، ظاهرة الجزئيات والكليات من صقل جوهرها، ونحن نبادلها المصارحة في المودة، والمودة في القربى، وكلما اشتد عليه الخطب، اشتد له عندنا الحب، وكلما أصاب النصر في المعركة، التفت حوله الأفئدة صافة مشتبكة، كأن كل فؤاد قد انتصر، وكل إحساس بالفوز ظفر؛ بل إن الشدائد لا تقع عنده جديدة عليه، وإنما هي الجديدة علينا، المباغتة لنا، وقد يفرح هو بها، ونحن نجزع عليه منها، ويوم يخرج منها الفائز المنتصر؛ يعطينا مع الفرحة بانتصاره أبلغ الدروس وأروع العبر.
ولسنا نعلم في نزاهة الزعامة صورة صريحة المعالم، صادقة الأجزاء، خالية من المحسنات، بادية بطبيعة ألوانها، هي أروع من نزاهة زعامة مصطفى وطهارتها، ومن كان للحياة واهبا، فلن يكون العرض الزائل موهوبا، ومن ترك شأن نفسه، مؤثرا شأن الناس عليه، فلن يكون آخذا وهو المعطي، ولن يستطيع أحد في هذا العالم أن يكون عليه متفضلا وهو المانح أعز شيء يملك: روحه التي بين جنبيه، وذلكم هو أكبر العطاء، وأعظم جلاله أنه النزيه الخالص الموهوب لا يسأل عليه أجرا ولا جزاء.
Halaman tidak diketahui
وما مصطفى إلا منحة من الله لمصر، ومن يأت من عند الله للناس منحة، يأت صفيا من الشائبة، لا يجدي عليه ممنوح، ولا تمتد إليه كف بموهبة. ولقد قيل في إبان العهود الغابرة: لقد «ثبتت» بحكم القضاء نزاهته، وما درى الذين قالوا ذلك أن هذه النزاهة نزلت إلى الدنيا بحكم الله «ثابتة» ...
وأعجب ما في هذه الزعامة التي نحن بسبيل تقديرها أنها بناء شاهق من جلال الخلق، وأن قوة الخلق في جلالها وطبيعة خواصها كالحرارة والضياء والشمس والهواء، وعناصر الكون والقضاء، والسر في أنك تحس وجود أحد الناس، ولا تستشعر وجود سواه، كامن في سر الجاذبية، مبثوث في طبيعة المغناطيس، والحق هو قمة الحياة، وأسمى ذروة الوجود، والصدق في القول والإحسان في العمل هما التطبيق للحق، والمعراج إلى قمته، والإسراء إلى ذروته، وإن الطباع البشرية لتتفاوت في درجات هذين العنصرين ومبالغهما، فمن خلصت طبيعته وتطهرت فطرته، جرى من منابعه في أعلى جبال الحق، منصبا في طباع الناس وفطرهم انصباب الماء من الآنية العالية إلى الأوعية المنخفضة، ولن يستطيع في العالم شيء أن يقاوم هذه القوة المكينة في بناء الرجل العظيم؛ لأنه أبدا القوي الغالب، وأنت فقد تلقي بحجر في الفضاء فيرتفع لحظة في الطباق، ولكنه لا يلبث أن يرتد إلى الأرض لا محالة، وكذلك أنت العاجز حيال الشخصية القوية الغالبة، فمهما حاولت أن تحيلها عن طبعها وخيمها، أيأستك من محاولتك، وظلت على طبعها الذي فطرت عليه، بل إنها لتسري في كل من حولها، وتتغلغل خفية إلى أعماق أصحابها وأهلها، وترسل الحياة تدب في أفقها ووسطها، وتشع بنورها على محيطها، وتغمر الفضاء الرحيب بإحساسها، وتتخذ الوادي كله مجالا لروعتها، ومظهرا لآيتها وعظمتها. وإن النفس القوية النقية من أدران الحياة لتتحد مع الحق وتمتزج بالعدل اتحاد المغناطيس مع القطب، وتروح إزاء الذين يبصرونها أشبه شيء بجسم شفاف، صقيل الأديم، رائق الزجاجة، قائم بينهم وبين الشمس؛ فمن أراد منهم إلى الشمس سفرا، اتخذ ذلك الأديم الشفاف إليها مجازا ومعبرا.
وكذلك كان مصطفى النحاس الواسطة بيننا وبين أشرف الغايات، وكان الضمير الحي الذي به نشعر، والوجدان العام الذي به نرتبط.
وأحسب الميزان الصادق لقياس الرجل العظيم على حقيقته، وقوة شخصيته، وخطر رسالته في هذا العالم ومهمته، هو مبلغ مناوأته للحوادث، ومحاربته للزمان، واستقباله للخطوب، واضطلاعه بالنوب والمحن والشدائد، ففي ذلك جميعا يرتفع الرجل العظيم عن مستوى عامة الناس وأمثالهم؛ لأن أخوف ما يخافونه هو الزمن، وأعدى أعدائهم الدهر، وأكبر دعائهم لله النجاة من المحن، والخلاص من الأحداث الشداد، وأما العظيم فذلكم هو الذي يتخذ ظروف الزمان حاشية له تمشي في ركابه، ويرغم الأحداث على أن تظهر للناس ما بطن من خلقه وسر نفسه ولبه ومبلغ سخريته من المشاق والصعاب والعقبات.
ولقد عرفنا مصطفى النحاس يمتحن بالمحنة وهو الصابر، ويرمى بالخطب المفاجئ، وتحيط به الأزمة المباغتة؛ فلا يني يخرج منا جميعا بفوز، ولا يزال يجالدها حتى يعود من المجالدة بانتصار.
ونحن جميعا في مصر المؤمنون بحقنا، ولكن مصطفى النحاس ظل على الخطوب المترادفة أشدنا به إيمانا، حتى لقد جعل حقوق بلاده في الحرية والاستقلال فكرته التي يقضي عليها نهاره، ويسهد لها زلفا من ليله، وينام بها لمشاهدة أحلامه ومعارض رؤياه، بل لقد ظلت عنده اللغة التي يعطيها أكثر كلامه، والموضوع الذي يحشد له أكبر اعتزامه، بل لقد عاش هذه السنين كلها من أجلها ولها بكليته، ونحن قد عشنا لها بكل جزئياتنا؛ وكانت لها نفسه جميعا، ولنا بجانبها آمال نفوسنا، ومشاغل عيشنا، وهماهم حياتنا وأطماعنا.
وكذلك أعطى الزعامة مواهبها، وأدى لها واجبها، وحشد لها مطالبها، ورفرفت من فوقه روح سعد الذي اصطفاه، يطالعنا منها ومنه بقوتين: قوة الذكرى، وقوة الإيمان ... حتى أدى رسالته، وبلغ طلبته، وحقق لبلاده ما كانت تصبو إليه.
ولا يزال أمامه عمل عظيم، ومهمة خطيرة، وشأن جليل، هو استثمار ما استعاد لوطنه، وحسن القيام على ما استرد لقومه، وإنفاذ وجوه الإصلاح الذي يحتاج إليه العصر، وتوفير مقتضيات الحياة للجيل الحاضر، والبناء للأجيال القادمة، وترك أغنى التراث للمستقبل والذراري المنحدرة في مواكب الزمن وقافلة الأبد ومسيرة الحياة.
وقد يحسن أن نقدم لهذا الكتاب بفصول في تعريف الزعامة وكشف أسرار الشخصية القائدة، وتعيين مطالب العظمة وقيادة الأمم والجماهير؛ لنسير على ضياء هذه المعاني في فهم هذه الشخصية العظيمة التي يحيط بها تاريخ مصر الحديث في مرحلة الجهاد لحريتها المقدسة.
سر الزعامة
Halaman tidak diketahui
الزعيم هو الفرد الذي يصيب نفوذا خاصا وسلطانا معينا على جماعة من الناس، وأكثر الأفراد في هذا المجتمع يصيبون نفوذا على بضعة أفراد على الأقل في نديهم أو جمعهم أو محيطهم، ولكن هذا النحو من النفوذ لا يسمى زعامة، إذ لا يتوافر معنى الزعامة إلا باجتماع النفوذ الخاص، ووجود الجماعات الكبيرة والطوائف الكثر الآحاد.
والزعامة على هذا القياس هي الشخصية الفعالة النافذة في نفوس الجماعات، وهي من هذه الناحية تتألف من معالم خلقية تؤثر وتعمل وتنفذ، ومن معالم خلقية تطيع وتمتثل وتستجيب؛ أو هي التفاعل بين أخلاق وصفات معينة، وبين أخلاق أخرى في الجمع أو الكثير من الوحدان، بحيث تتأثر هذه بتلك، وتنزل على مشيئتها راضية.
ولا ريب في أن الشخصية نوعان: النوع المؤثر والنوع المتأثر، أو القيادة والتبعية، وأن للزعامة صلة وثيقة بالذاتية - أو الفردية الشخصية - وبعنصرها المكمل لها، وهو «الاجتماعية»؛ وأنه إذا كانت الذاتية تشير إلى تلك المزايا والصفات الممتازة البارزة التي تجعل فردا من الأفراد ممتازا عن غيره بينا عن سواه، فإن الاجتماعية هي جملة الصفات ومظاهر السلوك التي تتشابه وتتماثل في الأفراد جميعا.
إن صاحب الصفات الذاتية هو القادر بفضل ذاتيته هذه على تأدية عمل ما من سبيل تختلف، وبقوة أسمى وأعظم من سواه من الناس أو الأفراد المحيطين به، وهو من هذه الناحية الخليق بالزعامة، الجدير بالسيادة والتفوق والقيادة، وإن كان كثير ممن أوتوا هذه الذاتية قد تخلفوا فلم تنتج ذاتيتهم زعامة في الناس ولا سلطانا محسوسا بارزا.
وأما عنصر الاجتماعية فهو الذي يعين الفرد على فهم الناس، والاتصال بهم، والاندماج فيهم، وإدراك حاجات نفوسهم ومطالب أرواحهم وآمال خواطرهم ومختلج أمانيهم، وإيجاد الوسائل والأساليب التي تخرج بهم من المآزق الشداد، والمحرجات الرهيبة، أو تحقق لهم ما يبتغون، وتسير بهم إلى الغاية التي لا يستطيعون وحدهم لها طلبا.
ومن لا تتوافر الاجتماعية له فهو العاجز عن قيادة الناس، والزعامة على الجماهير، والظفر بالسلطان الروحي عليهم؛ وإن كانت الاجتماعية بذاتها لا تخلق زعامة ولا تخرج ممن أوتيها سيدا مطاعا قائدا.
والزعامة من ناحية أخرى هي وليدة حياة الجماعة، وثمرة ما يطرأ على القيم الاجتماعية من التغييرات؛ فكلما اعتدي على قيمة اجتماعية أو هوجمت أو أريد أن تزول؛ نهض لها من يدافع عنها، ويذود عن مستواها، ويحارب في سبيل الحرص عليها، ومن شأن هذا أن يخلق زعامة ويجيء بالقائد المدافع الذواد، كما أن مهاجمة القيم الاجتماعية في سبيل إصلاحها أو القضاء عليها، قد تأتي بالزعيم الخليق بأن يتولى الهجوم وينظم العدوان.
وكذلك يكون قائد الوطن المعتدى عليه زعيما، كما يكون القائد المعتدي المهاجم بدافع الوطنية المستعلية الغازية الفاتحة زعيما، وإن كان الأول في جانب الخير والفضيلة، والآخر مع الشر والسوء.
إن الوطنية لتبتدئ جميلة جليلة زاهية الألوان، ولكنها قد تستحيل في النهاية موحشة مرهوبة ضارية، فهي في أدوار تكوينها تطل على أكثر نواحي الخير والفضيلة وكرائم الأخلاق، وفي مراحل شبابها تبدو حالية بأفخر زينة، متهادية في أفتن مشية، وإن جمالها في هذا الدور من حياتها هو في حدتها وروعة رسالتها، وإيثارها وإبائها، وتفانيها ووفائها، وضحاياها وشهدائها، وتلك هي وطنية الفضيلة الاجتماعية، وفناء الإنسان في الإنسانية القومية، بل وطنية الدفاع عن الوطن في غير هجوم، والذود عن الوطن في غير طمع، والكفاح عن الذمار في غير جشع ولا استكثار ولا استعمار ولا عدوان.
هذه هي وطنية الأمة التي استقلت فرضيت باستقلالها، وقنعت إذا تحررت بالحرص على حريتها، ولم تمدد عينها إلى أكثر مما يصون ذلك الاستقلال، كما هي وطنية الشعب الذي اعتدي على استقلاله، فهو يطلبه ويجاهد في طلبه، ويلهم الأفراد العمل له والسعي في سبيله، وطنية الشعب المستعر الجوانح، الحاضر الحماسة، الباذل التضحية، المستعذب الإيثار، المختفي الأنانية، المقبل على البذل والفداء.
Halaman tidak diketahui
ولكن الوطنية إذ تفرغ من كل هذه المعاني وتستتمها، وتنعم بالاستقلال ومزاياه، ويتزاحم على صدرها المجد وأحلامه، والطمع وتكاليفه، والتوسع ومطالبه؛ قد يحتمل أن تستحيل إلى حاسة باغية عادية، موحشة ضارية، وتصبح وطنية الأقوياء الذين يذهبون يجربون قواهم في غير أوطانهم ولا يقنعون باستكمال حريتهم، فيخرجون للعدوان على حرية غيرهم؛ فتنقلب الوطنية بهم جشعة متمادية، كلما زادوها استزادت، وكلما أكلت طلبت من الطعام زحاما من الألوان.
الوطنية المدافعة عادلة، والوطنية المهاجمة ظالمة، أو نصفها في جانب العدل، ونصفها في جانب الظلم.
والوطنية الأولى فاضلة، والوطنية الأخرى تمادت مع الفضل حتى رذلت، وتناهت مع غرور القوة حتى لتنتهي في الأعم الأغلب إلى التدهور والفناء.
إن وطنية الهجوم باطلة، وهي لذلك لا تعمر.
وإن وطنية الدفاع حق، وهي لذلك باقية ليس لها على الدهر من زوال ولا انتهاء.
ولكن لكل منهما قادة وزعماء؛ وإنما الفارق بين الزعامتين في الناحيتين هو المسافة بين الخير والشر، والفاصل بين الفضيلة والرذيلة، وقد كان نابليون زعيما، كما كان واشنطن محرر أمريكا زعيما؛ والفرق بين زعامتيهما هو في تاريخهما، وإن كانا فيه خالدين، فقد ترك واشنطن صفحات بيضاء نواصع زاهيات، وما ترك نابليون غير كتاب سطوره من دم قان نجيع ولا يزال هذا باديا في جيلنا؛ فإن موسوليني زعيم، وهيلاسلاسي كذلك زعيم، والفارق بين الزعامتين مثل الصبح ظاهر ...
واشنطن - محرر أميركا.
وكم من أفكار طيبة، وآراء سديدة صائبة، ونظريات جميلة زاهية خلابة، وآمال تتزاحم على نفوس الجماعات، وأماني عذاب تتراقص أمام الأذهان، وتبدو فاتنة ساحرة البيان، ثم لا يزال الناس يتمثلونها في سكرات الخيال، وينظرون إليها نظراتهم إلى المحال، ويحسبون تحقيقها ضربا من ضروب الأحلام، فإذا ما ظهر الفرد القوي الشخصية، الباده الخليقة، المستحصد العزم، العميق الإيمان بصواب ذلك ونحوه، وحكمة أولئك وما يتصل بها؛ توثبت النفوس، واستحمت المشاعر، وتوقدت العزمات، وبدأ المسير إليها، وآذن الرحيل وراح الناس ينطلقون نحوها، ويتبعون هذا الحادي القوي الحداء، الجهير الصوت، المفتول الساق، الجلد على طول المسير، وهم مؤمنون مقدما بأنهم بالغو الغاية السامية آخر الجهاد من أجلها والنضال.
ولقد أصبحنا نعيش في عصر الزعامات، فإن الجيل الحاضر قد أضحى يحيا، ويتحرك، ويعتمد في حياته، على المجهود المشترك، ويجد نفسه وسط مجاميع متعاونة؛ وهيئات متآزرة، حتى ما من ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية إلا كان مجهود المجموع هو مظهرها الغالب، وطابعها الظاهر، وصفتها العامة! بل لقد تعدت هذه الظاهرة إلى الناحية الفرحة اللاهية من الحياة، فغمرت الأندية والمجامع الرياضية وفرق الألعاب وجماعات اللاعبين.
الزعيم هو إذن القوة المشرفة على الجماعة؛ لكي تتعاون وتتناصر وتتضافر في سبيل تحقيق غاية معينة، وتنفيذ غرض مشترك، بل هي تلك القوة النفسية المؤثرة في المحيط، النافذة بسلطانها في الأفق والبيئة، الجامعة في يدها لكل قواها وموارد نشاطها ومستودعات مواهبها، الدافعة بها نحو غرض واحد ومطلب عام، العاملة على أن يؤمن كل فرد بأن مصلحة الجماعة ينبغي أن تتقدم مصلحته، وأن المثل الأعلى يقتضي اختفاء الأثرة، ورياضة النفس على الغيرية والإيثار والاستعداد للبذل والتضحية والفداء.
Halaman tidak diketahui
إن الجماعات إنما تعمل وتتقدم وتنجح وتحقق غاياتها وأمثلتها العليا باتحاد الجهود الفردية، واستثمار الرغبة الصادقة المنبعثة من أرواح الآحاد الذين يؤلفونها، واستخدام القوة الخفية الكامنة في الأفراد الذين يكونونها، وهذا يقتضي أن يكون للجماعات روح معنوي دافع ملهم محتث، يجمع جهودهم كلها لتحقيق الغرض العام، ومن مهمة الزعامة أو وظيفتها الاجتماعية في الشعب أو الأمة أن تخلق هذا الروح، وأن تبثه وتنميه وتعمل أبدا على توجيهه؛ وبغير الزعامة لا يمكن أن يكون للروح المعنوي وجود أو حياة.
وإذا صح أن النهضات العامة هي في الغالب ظل رجل واحد، وغراس مجهوده، وثمر زرعه بمفرده؛ فلا ينبغي أن ننسى أن نجاحها وتوفيقها وفوز هذا الزارع الأكبر، والغارس المثمر، هو أيضا فضل من حماسة الجماعة المتأثرة به، وصدق انبعاث النفوس على هداه، وحرارة المشاعر التي ألهبها، والأحاسيس التي ابتعثها، فوجدت في البيئة والمحيط تلبية ومستجابا.
وليست هذه الحماسة في الواقع وليدة الإرشاد فحسب وثمرة التوجيه، ولكنها أيضا نتيجة دعوة عامة واستجماع لكل قوى الرغبة في القيام بعمل صح الاعتقاد بخطره وتم الإيمان بنفعه ومست حاجة العصر إليه، وهي الرغبة التي يغذيها الزعيم ويتعهدها ويسقيها ويرعاها برعيه؛ فتنشأ من ثم هذه الحماسة المتقدة التي تسري في الجماعة وتدفع بها إلى المسير على حداء الإيمان واحتثاث اليقين.
إن مجهود الزعامة ليجد فسيح ميادين ، ويشمل عديد وجوه، ويغمر أفقا واسع النطاق؛ فإن الزعامة هي التي تضع التصميمات، وترسم الخطط وتحدد السياسات، وتعين المناحي والأساليب، وهي التي تنظم جهود الجماعات، وتوزع التبعات والمسئوليات، وتراقب الظاهرات والبوادر والمقدمات، وتشرف على الحركة الإجماعية والتقدم العام، كما تدرب الذين يلتفون حولها على حمل الأعباء، والاضطلاع بالفعال الجسام، بل هي أخيرا التي تبعث قوى الأفراد جميعا وتحفز المواهب الكامنة، والنباغات الهاجعة، والمزايا المستكنة، والكفايات التي بحاجة إلى التشجيع والبروز لتشترك في الغاية العامة، فيغمرها روح واحد ويشملها انسجام تام؛ فإن هذا الانسجام هو خلق جديد في ذاته، لقوات جديدة في نفسها، تروح بمثابة احتياطي ومدخر، ومستودع زاخر، لا ينفد منه المورد ولا ينضب المعين.
إن سلطان الزعامة هو الذي يدفع القوى العامة في الجماعة إلى مستوى رفيع، وهو الذي يرد الموافقة السلبية رضى إيجابيا، ويحيل النفور رغبة، والسكون حركة، والبرودة اشتعالا، والفتور حماسة وسعيرا، وقلة المبالاة اقتناعا ويقينا، والجمود عملا، والخصومة مودة، والعداوة مقلمة الأظفار.
بل إن سلطان الزعامة لأشبه شيء بفتح السيال الكهربائي الذي يحرك مختلف أجزاء الآلة وأجهزتها الدقائق، ومركباتها المتعددة؛ فتؤدي كلها وظائفها، وتبرز طاقتها، وتحدث حدثها المطلوب.
وليس من شك في أن الأفراد في الجماعة إنما يتحركون بالدوافع النفسية والبواعث الروحية، فتنشأ من هذه الدوافع والبواعث قوة إضافية، ومحركات جديدة، وتحتشد قوات أخرى لم تكن من قبل في التقدير والحسبان.
ومن هذا يخلص لك أن الزعامة هي المقدرة على التأثير في الجماعة لحملها على التعاون والتضافر في سبيل تحقيق غاية تدرك هذه الجماعة أنها أصلح شيء لها، وأنها وفق أمانيها، ورمز آمالها، ومجموعة رغباتها ومطالبها في الحياة.
وقد يكون هذا التعريف لسلطان الزعامة وسرها الخفي وأثرها الأكبر جديدا، إذ شاهدت الإنسانية قبل اليوم زعامات من غير هذا الطراز، بل لا نزال نشاهد الآن في بعض البلاد المتحضرة أمثلة لا تندمج تحت هذا التعيين ... زعامات آمرة ناهية، متحكمة طاغية، حتى في الخير وإليه، وحتى بالعنف والحمل عليه؛ أي أنها زعامات خلت من الشرط الأول الذي تتم به الزعامة الهادية المستجاب لها في غير اصطناع، المطاعة في غير غضاضة ولا ألم إرغام، وهذا الشرط هو أن يقابل الزعامة رضوان الجماعة، ويتلاقى عندها الانبعاث الصادق والطاعة، فقد أصبحت فكرة الزعامة في النظام النيابي متركزة في هذا المعنى بالذات، قائمة على هاتين الدعامتين المتقابلتين: رضوان الجماعة، وتوجيه الهداة القائدين.
وتقوم الزعامة عند حاجة الشعب إليها، وتظهر في الوقت الذي يتلفت الناس حولهم باحثين عنها، ملتمسين معونتها وهداها، فقد رأينا أكثر الزعماء يبرزون في مواقف الخطر العام، وساعات الفزع المنتشر، ومنتهى السرعة الواجبة لدرئه، والدافع الملح لمعالجته، ويوم تقتضي الظروف الزعيم المنشئ الباني المصلح القائد السائر بالجماعة إلى أمثلتها العليا؛ ينبري من لدن الطبيعة وبرحمة من الله، الرجل الذي تجد الجماعة فيه مطالبها فترتضيه لها، فإذا ما كان الزمن معه، ظهر ووثب وطفر، وكانت رغبة الشعب قوية متجلية، تقدم ليملأ الفراغ ويحتل المكان.
Halaman tidak diketahui
وفي حياة سعد زغلول ومصطفى النحاس يتمثل هذا بكل جلاله، ويبرز بكل قوته، فقد توافرت في زعامتهما العناصر المناسبة لتكوين الزعامات تلبية لمقتضى العصر وحاجة الجيل ومطالب التوجيه، بل كانت السفينة بحاجة إلى الربان، فاهتدت إلى القبطان ...!
وليس من ريب في أن هناك أمثلة لزعماء متعددي الشكول والصنوف والألوان، ولكن الواقع المشاهد أن كل زعيم هو نتيجة اجتماع ظروف الزمن، ومهيئات الموضع، والمزايا النادرة فيه، والخواص الرائعة التي تصطفيه الجماهير من أجلها وتجتبيه، وليست واحدة من هذه جميعا كافية بمفردها لقيام الزعامة، ولا وجودها كفيلا بإظهارها، وإنما لا بد من التلازم فيها جميعا والاقتران.
الزعيم الخالد سعد زغلول.
وهذا من شأنه أن يجعل الزعيم مولى للشعب، وعلى عهد الجماعة الحريص الأمين، والمرشد الذي يهديهم إلى تأدية الغرض المطلوب، وبلوغ الهدف المقصود.
ومتى اجتمعت في الزعيم قوة الشخصية بقوة النفس الجياشة المتحفزة المعلنة عن ذاتها بسحرها الخفي وجلالها الباده، مع توافر قوة العزم لديه وصلابة التصميم على تأدية الرسالة التي يؤمن بها كل الإيمان، والمجاهدة في سبيل مثل عال يعتنقه أصدق الاعتناق؛ فإنه في الساعة المنتظرة واللحظة الواجبة ليقفز إلى الموضع الخليق به، والمكان المعد له في لوح الأقدار، وسياق الحوادث، ودورة الزمان.
ولكن ينبغي أن نفصل هذا الطراز من الزعماء المفرغين في قوالب البطولة النفسية عن طراز النابليونيين والطغاة والعسفة والجبابرة، أو معاشر الذين استبدت الأثرة بهم، وإن أبرزوا وجوها عديدة من الزعامة، ولكنهم تراموا على إجابة السلطان بالعدوان أو استضعاف الجماهير، والبغي على الجماعات، وانتهاز الفرص، واقتناص السوانح؛ غير أن أكثر هؤلاء - إن لم نقل كلهم - انتهوا إلى فشل ساحق وخاتمة سيئة.
وقد يريد هؤلاء الخير في بداية أمرهم، ويتوخون الصالح العام، ولكن شهوة السلطان وظمأهم إلى الطاعة عند الجماهير، ومخافة ضياع الأمر من أيديهم، تنتهي بهم حتما إلى الأثرة التي دفعت بهم، فيأبون إلا الحرص على السلطان والاحتفاظ بالنفوذ مهما كلفهم ذلك من ثمن، واقتضاهم من تكاليف جسام.
موسوليني - زعيم إيطاليا.
ولا تلبث الجماعة في النهاية أن تسائل نفسها: هل نحن حقا نستمد من هذا البطل القوة الدافعة والخدمة الجليلة التي كنا ننتظرها، والمجد القومي الذي كنا نحلم به؟ وهل هو حقا يخدم غرضنا ومصلحتنا، ولا يخدم أغراضه هو ومصالحه، ويشبع شهوته، ويرضي ذاته على حسابنا؟ وأكثر ما يكون الجواب العملي على هذه النجوى المخافتة قيام الجماهير على هذا الطاغية وإسقاطه من أوج مكانته بعد زوال الحلم الجميل الذي رفعه مكانا عليا.
ومهما تكن الدوافع التي تحفز الجماعات إلى المسير وراء هذا النوع من الزعامة الأثرة الغاشمة، فإن الحركات التي تنشأ منها وتبدو في بعض الأحيان بظاهر من الخير وأغشية من الإحسان، إنما هي هزات وقتية لا تلبث أن تزول فتستيقظ الجماعات من سكرتها على حقيقة مؤلمة، وتعاود سيرتها الأولى، فلا تسلم زمامها إلا في حدود مشيئتها ومطلق رضاها؛ ليكون الزعيم الذي ترتضيه هو رمز أمانيها والفرد الذي تتمثل فيه إرادة الجميع.
Halaman tidak diketahui
ومن ثم كان الزعيم الذي تنتخبه الجماعة بمحض إرادتها وتضع فيه كل ثقتها، أنزع إلى النجاح وأدنى إلى التوفيق في مهمته التي ألقى إليها كل قلبه، وادخر لها كل جهوده، وأفنى في سبيلها عصارة روحه؛ لأن أثره في كل إصلاح بارز، ونفوذه عند الجماعات المخلصة الواثقة به شديد الأثر، قوي التوجيه، بالغ السلطان.
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
يرد العلماء الذين بحثوا في سر الزعامة وتقصوا نشأتها والتمسوا بالمشاهدات والاستقراءات والإحصاءات الاهتداء إلى العوامل والمؤثرات في إيجادها، وتكوين الصفات الواجبة لها، يرد هؤلاء العلماء نشأة الزعامة إلى عوامل مختلفة، ومؤثرات متعددة منوعة، منها الطبيعية؛ وهذه تتصل بالوراثة والبيئة والإقليم، والاستعدادات الفطرية، والغدد والإفرازات، ومنها الاجتماعية كالظروف المهيئة والفرص السانحة، وأثر البداوة والحضارة والمحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية، والأفق المنزلي ونوع الأصحاب والرفقاء والخلطاء واللحظات الموقظة، ونقطة الدوران الفجائية، ومنها الشخصية كالنزعات والأهواء والميول والاتجاهات الخاصة، وقوة النشاط ونسبة الذكاء والأخلاق القويمة من التكوين من نحو حب الاستكمال والقدرة على التمام والرغبة في الإجادة والإتقان، وكقوة الاحتمال، والصبر الرفيع، والتجلد المتناهي، والمثابرة والدأب الملح على الاستمرار، والشجاعة وانتفاء التهيب والمخافة، وقبول تحمل التبعات والاضطلاع بالمسئوليات والإخلاص، وصدق النية والأمانة والنزاهة ونقاء الذمة والعطف على الناس، والثبات على الفكرة أو المبدأ والوفاء للعقيدة، والتصميم على الرأي وقوة العزيمة وعمق الإيمان، وضبط النفس والاتزان والتزام السكينة، ومقاومة الانفعالات واللياقة والكياسة وحسن التصرف، ومعالجة الأمور بالحكمة وفصل الخطاب.
على أن هذا التقسيم التقريبي للعوامل المؤثرة في نشأة الزعامة وخلقها كما ترى لا يزال متداخلا مشتبكا متصلا بعضه ببعض، فما سميناه طبيعيا منها لا يخلو من صلة بما دعوناه اجتماعيا من بينها، كما أن من العوامل الشخصية ما يرتبط بالمؤثرات الطبيعية، ويتولد عنها ويجد منها التعهد والتنمية والغذاء والوراثة والاكتساب.
ولو أردنا أن نتحدث عن كل عامل من هذه العوامل المختلفة في فصل قائم بذاته، وبحث مستقل بمفرده، لترامت حدود هذا الكتاب في مقدماته قبل أن يدخل في تخومه ويعالج الموضوع الرئيسي الذي وضع بسبيله.
ولكن لا ضرر من أن نتناول هذه العوامل في شيء من الإيجاز يكفي لشرحها من حيث اتصالها بالفكرة التي بعثتنا على إخراجه إلى الناس، في عجلة ومبادرة حتى يوافي مناسبته ويلحق وقته، ولو قد استأنينا له ووجدنا الفسحة الواسعة الخليقة به، وتوفرنا عليه دون سواه، واستنفدنا فيه الزمن الطوال، والدراسة المتقصية، والبحث المستفيض، والعلاج المدقق؛ لكان خيرا من هذا وأحسن مردا، وأوفر مادة، وأروع بناء. •••
كان أول من عالج بحث عامل الوراثة في خلق الزعامة وتنشئة الزعماء العالم المشهور فرانسيس غالتون الذي راح يطبق علمه البيولوجي على الحياة الإنسانية، فذهب إلى أن العبقرية أو الحد المتناهي في العقل والذكاء هو أثر فطري حيواني طبيعي، محتوم الأثر، معلن عن ذاته، مهما قامت في وجهه العقبات والظروف غير المساعدة، وأما غياب الصفات الوراثية الرفيعة السامية فلا ينتج تفوقا، ولا يعمل على إيلاد نبوغ وإحداث عبقرية، ولا يخرج نباتا صالحا زكيا.
ولكن الدراسات الحديثة بعد غالتون قد تقدمت شوطا آخر في فهم عامل الوراثة أكثر مما كان مفهوما في بداية البحوث الخاصة به، وأصبح المقرر اليوم أن ناموس الوراثة ليس بالعامل المخيف العنيف المستبد الذي يؤيس الذين لا يكسبون رضاه، ولم تشع على حياتهم من أثره ابتسامته ووميض حظوته.
واليوم إذا أنت سألت كيف ينشأ النبوغ، وتحدث العظمة، ويصيب الفرد السمو والرفعة والقوة الدافعة إلى الصعود والعلاء، أجابك العالم البيولوجي أن النوابغ والأفراد الصالحين السامين المتوفقين هم نتاج اشتراك صفات الأبوين واقتران نطفهما وتلازم عناصرهما، بحيث إذا وجد نقص في أحدهما، استكمل من الآخر نقصه، وبحيث يعمل المؤثران معا؛ أي أن ذلك وليد اتحاد البذرتين وتكاملهما وتفاعلهما في إنشاء الأجنة والتأثير في الذراري والولدان.
وقد يتولد الرفيع أحيانا من الرفيع وأحيانا يأتي من الصغير والضئيل القيمة، كما يبدو ذلك في خليقة شكسبير وظهور كيتس الشاعر ومولد لينكولن، فقد نبت هؤلاء في أسرات صغيرة، ونشئوا كما نشأ عشرات من النوابغ والعظماء في عشيرات دنيا، وإن كانت هذه الظاهرات قد لا تبدو شذوذا إذا نحن استطعنا أن نعرف تاريخ أرومة الفرد وتسلسله وأجداده من أجيال عدة وسلالات كثيرة متعاقبة.
Halaman tidak diketahui
ومن النظريات التي تبدو صحيحة على وجهها ولكن ينبغي ألا تؤخذ بظواهرها فيما يتصل بالزعامة وعامل الوراثة - قولهم إن المثل يولد المثل، والنظير يخلف النظير، فإن النوابغ والعبقريين لا يتحتم دائما أن يولدوا وينتجوا نوابغ وعباقرة مثلهم، بل الواقع المشاهد أنهم أندر ما يفعلون ذلك، وقليلا ما تنحدر منهم أشباههم في هذا الناحية، وقد ينتج الآباء الصغار الشأن ذرية رفيعة نابغة متفوقة، وفي الحق أن كثيرا من عظماء الدنيا ونوابغ العالم كانوا أبناء لآباء أقل منهم شأوا ودونهم مكانة ورفعة، وإذا كان من الخطأ في الحكم أن يقال إن الأفراد الأفذاذ النوابغ لا بد من أن يكونوا نتاج آباء أفذاذ من قبلهم، فإن من الصواب والحق أن يقال مع ذلك إن نسبة كبيرة من النوابغ والمتفوقين كانوا نتاج آباء ممتازين لا من آباء من عرض الجماهير.
ومن النظريات الخاطئة أيضا القول إن ناموس الوراثة هو العامل الأكبر في شئون الناس وبنائهم وخليقتهم، وإنما يصح اتخاذ الوراثة كأحد الاعتبارات في بحث أصل العظيم ومنشأه ومنبته، ولكن لا يصح الغلو في تقدير أثره والاعتماد عليه في البحث والاستقراء كل الاعتماد.
لقد أسرف غالتون في تطبيق نظريته في الوراثة، فلا ينبغي أن نترسم أثره ونغلو غلوه، ولما كان من الأفراد من يولدون وينشئون من الأكواخ، ثم إذا هم يبرزون في الحياة بمقدرة خارقة للمألوف، ومواهب فوق مستوى الناس، كما أن فيهم من ينشئون في القصور، ويتربون في حجور النعماء؛ فمن الخير أن ننظر إلى منابت الزعامة والشخصية البارزة نظرة ديمقراطية، ونعتقد أن النوابغ كثيرا ما ينبتون من العامة وأشخاص الشعب والطبقات الدنيا في الجماعات والأمم والصفوف الخلفية في الحياة. •••
وقد ارتقى الطب الحديث أخيرا من ناحية إدراك علم واسع بأثر الغدد المختلفة في الجسم، وامتد البحث في تأثيرها إلى استقراء مفعولها في إنتاج الزعامة والنبوغ، وذهب العلماء الباحثون إلى أن في الجسم نحو اثنتي عشرة غدة تسمى «الهرمون» أو الغدد المهيجة؛ لأنها تهيج أو تنشط الأجهزة العضوية في البدن، فإذا أحدثت فيه نشاطا خارقا للمألوف، ساعد ذلك على النبوغ والتفوق، وإذا قصرت في إحداثه، أثرت في قوى الفرد ومبلغ نشاطه، كما أن زيادة نشاط الغدد يستتبع زيادة مقدرته على الأحداث وشدة تحمله للمجهود، وتدفع به إلى طريق ضبط النفس وقوة الإرادة والاضطلاع بالأعمال الجسام.
وأشهر هذه الغدد هي الغدة الدرقية، وقد سميت بالدرقية؛ لأنها تشبه الدرقة أو الترس، وإن لها لعاملا غير مباشر - وإن كان خطيرا - في تكوين الزعامة والنبوغ، ويتطلب الجسم مقدارا معينا من إفرازات هذه الغدة ليظل في حالته الطبيعية، فإذا قل أو نقص اضطرب الجسم تبعا لمبلغ القلة ومقدار النقص، وتحطم الزعيم أو النابغة وانهدم كيانه إذا لم يجد لهذا النقص في إفراز هذه الغدة سدادا عاجلا؛ لأنه يجلب الاضطراب العصبي، ويحدث سرعة التأثر والبادرة والهياج والانفعال، كما يفقد قوة الشخصية ويتحيفها ويهدمها هدما، ويعطل ملكة الاتزان التي تعد من صفات الزعامة والنابغين.
ويقرر الطب الحديث أنه لولا الغدة الدرقية، وعملها في الجسم لما كان هناك عمق في التفكير ولا ملكة تقدير الجمال، ولا ذكاء ولا فهم ولا إدراك، بل لا شيء مما تمتاز به النفس الحساسة أو الذهن الذكي الأصمع السريع الشعور.
وهناك غدة صغيرة تتصل بالغدة الدرقية، ومن وظيفتها إمداد الدم والخلايا بالمقادير الضرورية للجسم من الجير، فإذا قل الجير عن تلك المقادير حدث الاضطراب العصبي، وغلبت على الشخص سرعة التهيج والانفعال، ولا خفاء في أن هذه الأعراض والحالات لا تتفق مع صفات الزعامة ومطالبها الأساسية.
وفي الجسم كذلك غدد تسمى الغدد النخامية، وهي مستقرة في قاعدة المخ، وإلى عملها ينسب كثير من المزايا والصفات كقوة الإصرار وشدة العزم، وهما صفتان تبرزان في النوابغ والزعماء، ولإفراز هذه الغدد - وهو البلغم - تأثير مقو منشط لسائر أجزاء البدن كله وكافة أعضائه، ولا شك في أن لجوار هذه الغدد للمخ صلة بالنشاط العقلي ووفرته أو نقصه تبعا لمقدار إفرازها.
وإذا ما قل ذلك أفقد الفرد قوة ضبط النفس، وأحدث لديه نزوعا إلى الكذب والسرقة والإجرام؛ لأن للإفرازات النخامية أو البلغمية عاملا كبيرا في فضيلة الثبات وقوة الشخصية وغيرها من مزايا الزعامة وخواصها المتعددة.
وتعمل الغدد الأدرينالية القائمة فوق الكلية، بما تفرزه من الأدرينالين أو الكنظر، عملا مباشرا في إحداث النشاط والزعامة والنبوغ؛ لأن مادة الأدرينالين في أوقات الخطر، والحاجة إلى مزيد من المجهود، والحمل على النفس بالعمل الملح والدأب المتواصل، تزيد في مقدار السكر الذي يسري في الدم فتنشط الكريات الحمر، وتزيد حركة التنفس وعمل القلب؛ ولذلك يعطي الأدرينالين للمرضى كمنبه قوي في حالات الإغماء والغشية وضعف القلب وخفوت حركته.
Halaman tidak diketahui
وقد يحول بين الفرد وبين بلوغ الزعامة ومكانة الرياسة ومواضع التفوق والسمو والعلاء نقص في إفرازات البنكرياس - وهو غدة كبيرة في الجهاز الهضمي - وهذه الإفرازات هي الأنسولين، فإذا قل الأنسولين في الجسم عن المقدار الواجب له زادت كمية السكر التي في الدم زيادة عالية، وأحدث مرض البول السكري، وهو من الأمراض التي تعوق النشاط وتفقد المرء قوة الجلد على الدأب والإكباب على العمل ومضاعفة الجهود.
وجملة القول في أمر الغدد وأثرها في تكوين الزعامة والنبوغ أن لهذه الغدد فعلا غير مباشر، ولكنه كبير الخطر في تكوين الصفات التي ينبغي أن تتوافر في الزعماء والنوابغ أو تعطيلها، فلا يستطيع الفرد الذي يقل فيه مفعولها أو يختل نظامها أن يجد الطريق إلى البروز في الحياة والنجاح.
وينبغي أن تتوافر للشخصية القوية الفرصة إذا أرادت أن تبلغ مكان الزعامة، كما أن نوع الزعامة ودرجتها يتبعان نوع الفرصة وطبيعتها، فإن الفرص التي تسنح للزعامة في بلد من البلاد أو بيئة من البيئات، لا تتواتى ولا تصلح لمثلها في غيرها من الآفاق والأجواء، وقد كانت الفرص المواتية لخلق الزعامات في عصور الجهل الماضية تختلف عنها في عهود العلم والنور والتحرير والتهذيب.
وفي إيطاليا اليوم تنحصر الفرصة في إملاء الفاشية وتعاليمها، وفي الروسيا تقتصر على حظيرة الشيوعية، كما تنزل في ألمانيا على حكم النازية، وإذا لم يكن مال ولا صحة ولا تحرر من قيود الحياة العائلية وهموم العيش والحاجة وآلام الحرمان، فإن الفرصة لبلوغ مكان الزعامة وموضع الرياسة تروح بعيدة للغاية أو تكاد تكون مستحيلة السنوح، وفي البيئات التي تسودها العصبية الدينية، أو يغمرها الركود العقلي وتغشاها الجهالة، قلما تتواتى الفرصة لقيام الزعماء الأحرار وبروز القادة المتمردين على أجيالهم.
إن طبيعة الفرص هي التي تحدد الاتجاه الذي تسير الزعامة فيه، وهنا يقول غالتون: إن في العالم أفرادا يبلغون النجاح ويبرزون مواهب نادرة وصفات العبقرية في أي ظرف من الظروف مهما كان نوعه أو شأنه أو ما يحيط به.
ولكن الذي لا مراء فيه أنه في البيئة التي يسودها الرق والاستعباد، يندر أن يتاح لأحد الرقيق أن يظفر بمكان الزعيم، ومن قبائل أفريقيا وبين همجها يحول إيمان الزنوج والهمج بالخرافة وغرائب المعتقدات دون ظهور الزعماء؛ لأن كل من ينادي بجديد أو يدعو قومه إلى شيء مستحدث يتهم بالسحر ويحكم عليه بالإعدام.
وقد تتفاوت الأصقاع والبلاد والأقاليم في مبالغ إتاحتها الفرص لظهور النوابغ وبروز الزعماء، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن الحواضر والمدائن أكثر بعثا ودفعا وتنمية لمحصول النبوغ من سواد الريف وآفاق القرى، وأن المدن الصغيرة والبنادر المتوسطة الحال أكثر إخراجا للنوابغ والزعماء من كبريات المدن ومزدحم القواعد والحواضر الكثيرة السكان.
وللتربة أيضا عامل بين الأثر في تكوين الزعامة، وإيجاد الفرص لظهورها، وقد أورد العلماء في ذلك شيئا كثيرا بالنسبة لأنواع التربة ومختلف أحوالها وخواصها وأشكالها وطبائعها، فقالوا مثلا: إن الأصقاع الجبلية والتربة الكثيرة الأنجاد والهضاب أو التربة القاسية العنيفة، تختلف كثيرا عن البلاد الكثيرة السهول والتربة المنبسطة التي يندر فيها الجبال والمرتفعات، والأقاليم التي يجد الفرد فيها مطالب القوت سهلة هينة مأتية بقليل من العمل ومن غير كدح ولا إجهاد.
وليس من ريب في أن الريف يرد على الأجسام، ويملأ الأبدان قوة وبأسا، ويجعل الأعضاء مفتولة شديدة المراس، ومن يعيش في أحضان الطبيعة - كما يقولون - يعيش قويا شديد المحال ذا مرة مليئا بالحياة ...
ومما يعين على تكوين الزعامة أو بلوغ الفرد موضعها أن تتوافر له الفرصة الثقافية؛ أي أن يكون من خلفه تركة غنية من نوع اتجاهه وقبيل صناعته أو استعداده، وفي كثير من الأسرات يبدو التفوق عند عديد من أفرادها، وينبغ من أصلها أكثر من واحد، ويبرز عدة من أعضائها؛ فترى أحد الإخوة نابغة في ناحية ما، وأخا آخر بارزا في صناعة معينة، وأختا بارعة في فن من الفنون، بينما العم والخال والأقارب الآخرون قد نجحوا كذلك في مختلف الميادين.
Halaman tidak diketahui
وقد قال الأستاذ ويل ديورانت في كتابه تاريخ الفلسفة - وهو بسبيل الكلام عن أرسطو - إنه نشأ ونما وسط رائحة الأدوية، فكان ذلك فرصة أعانت على أن يكون له ذهن علمي واتجاه بحث وتفكير، كأنما كان معدا مجهزا من النشأة ليكون مؤسسا للعلم، إذ شب على قوة الملاحظة من الحداثة.
وقد أسلفنا عليك أن الفرد الرفيع المواهب تنقصه الفرصة إذا هو ولد ونشأ في محيط راكد وبيئة جامدة آسنة، وقد تكون الأحوال السياسية أو النظام الاقتصادي في البيئة كاتمة الأنفاس موصدة الأبواب في وجوه سائر الأفكار الجديدة، فلا يصيب الذين يخالفونها ويتمردون عليها غير النفي والتشريد والعذاب الشديد، وقد تقطع السبيل على كل فرصة أمامهم غير فرصة المماثلة بينهم وبين أفقهم والنزول على حكم محيطهم.
إن الفرصة أو الظرف المهيأ المساعد تقتضي بيئة من الأكفاء والنظراء؛ حتى يحتك الفولاذ بالفولاذ، ويشتبك الصلب بالصلب، وتصطدم الآراء وتتعارض الأفكار، ويقوم الجهاد بين متنازع الحجج ومختلف المذاهب والنظريات، ويكون ثم تقدير للعقول ووزن عادل للمواهب والجهود وثمرات الأذهان، وليس معنى الفرصة هنا إلا وجوب الإقرار والاعتراف بالحاجة التي تطلبها البيئة، وبالأفراد الذين يستطيعون قضاءها، وفي مقدورهم حل مشاكل الجماعة وقضايا البيئة ومطالب المجموع.
ويراد بالفرصة الاجتماعية كذلك سنوح الظروف للسفر والتجوال في الآفاق واكتساب الخبرة والاحتكاك بالنوابغ والقادة والزعماء في مختلف الأقطار، والإقدام على الزج بالنفس في مواقف ومواطن تبعث المواهب الكامنة، وتوقظ المشاعر الهاجعة، وتوقد خبوة الذكاء.
ويندمج في معاني الفرص مطالب المرانة والتدريب؛ لأن النبوغ مهما كان محله من الرفعة لا يزال بحاجة إلى المرانة، والعبقرية وإن بلغت الذروة لا يزال ينقصها التدريب وتعوزها الرياضة، وقلما رأينا المقدرة الذاتية مغنية عن التعاليم، بل إن النابغة الخلي من المرانة لأشبه شيء بمعزف فيه كل الأصوات، وسائر الألحان وطبقات الموسيقى، وجملة الأوتار، وإنما تنقصه اليد العازفة والأنامل الموقعة الخفاف، فضلا عن أن المرانة تستوجب التناسب والملاءمة، فكثيرا ما يخطئ المدرب أو القائم بالتمرين فهم تلميذه؛ فيدربه على ما لا يتفق مع استعداده، ويسلك في رياضته وتمرينه أسلوبا غير مناسب لمواهبه، أو يحاول أن يجعل منه صورة أخرى من نفسه، وهو مخلوق لغير ذلك، مفطور لكي يبلغ غير مبالغه.
وقد يحرم الفرد الفرصة المؤاتية للرياسة والاستعلاء؛ لأنه جاء فوجد أناسا أقوى منه وأقدر وأكثر فضلا في الميدان، وقد اعترف الناس بهم وازدحموا من حولهم، وقد شهدنا نوابغ صالحين لم يستطيعوا الظهور؛ لأن ظل عظماء استبقوهم تعرض فحجبهم عن الأنظار.
ومن معاني الفرص أيضا مواجهة العظيم للصدمات والظروف القاسية والضربات العنيفة الأليمة المدمية حتى يألف الخشونة ويعتاد الجهاد والمجالدة، ولا يستنيم للراحة والترف ويسكن إلى الطراوة والعيش الناعم الظليل، كما تشمل الفرصة قيام الزعيم بمنجاة من الحاجة والكدح للرزق، والتماس العيش والأقوات للذين يعولهم من الأقارب وأهل العشيرة، فكم من رجل كان ينتظر أن يصبح في قمة الرياسة وذروة النبوغ قد حيل بينه وبين هذا باضطراره إلى العمل لكي يعول الآخرين، والبحث عن رزق الضعفاء من ذوي نفسه وقرابته.
وقد يكون معنى الفرص أحيانا ظهور حادث يقتضي مواهب عاجلة للبروز بالنسبة له، من نحو أزمة سياسية، أو نشوب حرب فجائية، ففي هذه الحالات تتمخض الطبيعة عن الرجل الخليق بالظرف، والبطل المنتظر في اللحظة الواجبة.
وقد تخلق الفرص العارضة ومحض المصادفة، زعامة لا تلبث أن تستبي الجوانح، وتصيب أكبر الإعجاب والتقدير، كأن يصاب أحد اللاعبين في الحلبة بإصابة أو أذى، فيقال لأحد الأفراد: خذ مكانه في اللعب لسداد موضعه، فإذا هو لا يكاد ينزل إلى المستبق حتى تبعثه حرارة اللعب وحماسته إلى بذل جهود لم تكن منتظرة منه، وإنه ليشاهد يجري أسرع مما كان معروفا عنه، ويصيب الهدف ناجحا موفقا، ولم يكن ذلك في الحسبان.
لقد واتته الفرصة في غير انتظار، وكان له من مادته ومقدرته ما أعانه على الانتفاع بها، والملاءمة بينه وبينها، وحسن القيام عليها، ومن شأن الفرص أن أكثرها وأغلبها يجيء على هذه الصورة، ومن الناس خلق كثير يتركز كل جهدهم وينحصر كل اهتمامهم في حل مشكلة أو علاج مسألة من المسائل؛ حتى ليقع منهم موقع الدهشة البالغة أن يكتشفوا اهتمام الجماهير بهم، وينتبهوا إلى حفاوة الجماعات بأمرهم والازدحام عليهم من كل حدب ومكان، وأنت فلتتصور كيف كانت دهشة الطيار لندبرج المشهور قاهر المحيط لذلك الاستقبال الرائع المجيد الذي قوبل به عند وصوله إلى مطار ليبورجيه في باريس في مساء الحادي والعشرين من شهر مايو سنة 1927، فقد كان بلا شك يتوقع شيئا من هذا، ولكنه لم يكن ينتظر هذا اللقاء العظيم، ولا تلك الضجة الداوية بداية أنه قبل سفره عبر المحيط على متن طائرته، أخذ معه كتب توصية ورسائل تعريف به ...!
Halaman tidak diketahui
وكثيرا ما تكون الفرصة حاضرة وإن لم تبد كذلك، ولم ينتبه إليها على أنها كذلك ... ولكن الفرد المتيقظ المتنبه الساهر هو الذي يعرفها من أول وهلة، فيتقدم إليها جريئا ويحسر عن وجهها القناع بكل جسارة وإقدام.
ولتأثير القرناء من الحداثة والخلطاء من الصغر قيمة كبيرة في التمهيد للنبوغ، والتوطئة للرياسة، والبناء للزعامة، فكم من نابغة أو عظيم كان لأهله والذين خالطهم من النشأة وتأثر بهم فضل كبير في بلوغه الذروة من المجد، ووصوله إلى النجاح في الحياة.
ولقد رأينا آباء تركوا الحرية لبنيهم من النشأة وفق ملكاتهم، أو تعهدوا هذه الملكات من الطفولة بالتشجيع والعناية والاحتثاث؛ فكان من أولادهم فيما بعد عظماء وزعماء وقادة ونوابغ صالحون، كما شهد كثير من هؤلاء فيما تحدثوا به عن نشأتهم وذكريات حداثتهم بفضل آبائهم عليهم في تكوين الصفات والسجايا والخلال والنزعات التي أعانتهم على بلوغ الفوز المبين.
ولا ننسى كذلك تأثير الأمهات في تكوين ولدانهن وتنشيط ملكات أبنائهن، فقد رأينا المخترع إديسون يعترف بأن أمه كان لها الفضل في إيقاظ ملكاته وكوامن مواهبه، كما شهدنا كثيرا من العظماء والنوابغ يقرون في ذكريات صباهم بما كان لأمهاتهم عليهم من فضل عظيم.
وقد كتب ويلسون رئيس الولايات المتحدة الذي ظفر بالشهرة العالمية في مؤتمر الصلح بشروطه الأربعة عشر وتقرير المصير، فصولا رائعة في فضل والده «ودرو» عليه، وتعهده لملكاته من النشأة، وقيامه على رياضة ذهنه واستعداده من الطفولة الباكرة، كما اعترف جورج واشنطن محرر أمريكا العظيم بأن كل مجده وشهرته ومكانته من أمته كان من ثمرات غرس أمه في نفسه في الأعوام الأولى من حياته.
ومن المحقق أن للزوجات والشريكات في الحياة أثرا في مجد عدد عديد من الزعماء وعظماء الرجال، كما كانت زوج «لافايت»، فقد وصفها بقوله: «لقد كانت ملك خير.» وحتى لقد قاسمته السجن وشاطرته المحبس في أيام بلواه وفترة محنته وشدائده.
وقد يكون لبعض الأقارب أحيانا كالأعمام والأخوال أو الأجداد في هذه الناحية أثر كبير، كما يكون للمعلمين في المدرسة والأساتذة في المعهد، ولبعض المعارف أو أصدقاء العشيرة والمترددين على البيت والجيران في الحي أو المنزل القريب.
وربما اجتمعت كل هذه المؤثرات في حياة الفرد من النشأة أو في الشباب، فأحدثت السلطان البارز في تكوين زعامته، وأعانته باجتماع عواملها المختلفة على البروز فوق قمة النجاح. •••
وقد تظهر البواعث بالاكتساب، أو قد تنبثق فجأة في بعض النفوس انبثاق الشهاب، وتستولي على المشاعر مفاجئة، وتدب إلى الأذهان طارئة وتستأثر بكلية الوجدان في لحظات مباغتة لم تكن في الحسبان.
وقد ينبعث الدافع في ظروف معينة تعرض للأفراد، ونقط دوران في حياتهم وسير أعمارهم؛ فتعطف بهم عما كانوا منطلقين صوبه، وتعدل بهم إلى طريق جديد لم يكونوا سالكيه أو مفكرين فيه، وقد يقع هذا بسبب حادث خطير أو حادث يسير، أو لسبب من أهون الأسباب، فيكون ذلك بداية دور جديد في حياة الفرد أو منعطف عند نقطة دوران.
Halaman tidak diketahui
وربما عرض يوما لفرد يعيش في نعماء ويتقلب في سراء ويحيا في حجر الآلهة - كما يقولون - ما يحفزه إلى قلب حياته وتغيير مجرى عيشه، وقد برز هذا بجلاء في حياة الفيلسوف العظيم «تولستوي»، إذ كان لا يزال بعد طالبا في الكلية، ففيما هو عائد ذات ليلة من مرقص في صميم الشتاء، والزمهرير شديد يهرأ الأبدان، إذ رأى سائق مركبته وكان في انتظاره قد جمد في مكانه من شدة القر؛ فتأثر بمشهده على تلك الصورة أشد التأثر، ومضى وهو في المركبة عائد إلى داره يسائل النفس قائلا: لماذا ينعم هو الذي ما أحسن يوما في حياته، ولا عمل صالحا، ولا أجدى على المجتمع، بكل المناعم والمزايا التي هو بها مستمتع، بينما هذا السائق وأمثاله من أبناء الشعب الذين يؤدون أشق الأعمال، ويحملون المجتمع كله على أكتافهم، يعيشون جياعا تطحنهم الفاقة ويهرؤهم الزمهرير؟! فلم تلبث هذه النجوى أن أولدت حافزا قويا في نفسه، حمله على أن يتنازل عن فكرة الفروق بين الطبقات، وجعل منه فيلسوفا جديدا ونصيرا للفلاحين، ومتحدثا باسم الجماهير، وذوادا عن حقوق الشعب في الوجود والحياة.
توماس إديسون - زعيم المخترعين.
وكان نبوغ المخترع العظيم توماس إديسون راجعا إلى تأثير حادث صغير عرض له في دور الحداثة، وذلك أنه كان يشتغل ببيع الصحف في القطر ومركبات السكة الحديد، ففي ذات مرة وإنه ليخترق القضبان إذ بصر بطفل يلهو عن كثب، وقد أوشك قطار قادم مسرعا أن يدهمه، فألقى إديسون برزمة الصحف جانبا في مثل ومضة البرق، وعدا نحو الغلام فاحتمله قبيل أن يدهمه القطار، ومضى به إلى أبيه، وكان هذا ناظر المحطة، فأراد أن يجزيه أجر ما أحسن إليه، فأذن له بالجلوس في كل يوم بضع ساعات في مكتب التلغراف أو كشك الإشارات ليتعلم هذا الفن على عماله، فكان ذلك الحادث هو الذي أولد في نفسه الدافع القوي الوثاب الذي جعل منه على الدهر أكبر المخترعين في العصر الحديث.
ويمتد بنا نفس الحديث وتترامى حدود الكتاب، إذا نحن فصلنا الأمثلة على تولد الدوافع فجأة ونقط الدوران في حياة النوابغ والعظماء، فحسبنا أن نجمعها جهد الحصر، ونعرضها في غير تمثيل.
فقد يكون المرض باعثا، وقد تكون الهزيمة الأولى في مطامع الحياة العملية دافعة إلى التغيير وتجديد القوى والعزمات، وقد تكون سرعة الملل من الدوافع التي تدفع بالفرد إلى الاهتداء إلى الأمر الذي يرضيه، أو الطريق الذي يسهل عليه السير فيه، أو الاتجاه الدائم له، أو الصناعة التي يحسن فيها أعجب الإحسان.
وفي أحلام الشباب، وتصورات الحداثة، وأماني الصبا، أقوى البواعث والدوافع إلى النبوغ وإحداث العظائم، والإجداء على الإنسانية والإحسان إلى الجماعات ...
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
وينبغي أن تتوافر في الزعامة وأهلها من عظماء الرجال وقادة الجماعات صفات معينة، وخواص نفسية كثيرة، ولسنا نعني بوجوب توافرها أن كل زعيم يتحتم أن تجتمع لديه بجملتها، ولا أن كل نوع من أنواع الزعامة في الناس يقتضي احتشاد هذه الصفات لديه جميعا؛ وإنما نحن فيما نورده في هذا الباب من ذلك مستقرئون تراجم العظماء، مثبتون الصفات والمواهب التي ظهرت في خلق كثير من الزعماء، مستدركون هذا الاستدراك لخطأ الذهاب إلى التعميم؛ لأن الواقع هو أن بعض ضروب الزعامة قد يحتاج إلى هذه الصفات، والبعض الآخر قد لا يكون بحاجة إلى هذه الخواص مجتمعة متوافرة.
لقد دلت دراسة سر الزعامة الناجحة على أن التفوق الشخصي ينبغي أن يكون من لوازمه وبواعثه وأسبابه، توافر مقدار غير اعتيادي من النشاط البدني وقوة الأعصاب، فإن الذين ينهضون نهوضا غير مألوف فوق سواد الناس وجمهرة الخلق يشاهدون عادة أملك للانبعاث، وأقوى جسوما، وأحضر نشاطا، وأمتن أعصابا، وأعظم جلدا من الأفراد الاعتياديين؛ إذ ثبت أن المقدرة على التأثير في الناس راجعة إلى المقدار الذي يملكه الزعيم من هذه الصفة؛ فإن النشاط يحفز النشاط، والقوة تلهم القوة، وليست حماسة الجماهير إلا وليدة المقدرة الغزيرة في زعمائهم، والنشاط الحي الزاخر عند قادتهم، وكل إنسان منا بلا ريب قد أدرك من سير حياته كيف أن تأثير عمله ومقدرته على الدأب، واسترواحه إلى الكد والمتابعة، مرتبط بحالته العصبية، ومبلغ قوته ومدخر نشاطه، وأن التراخي وسرعة الشعور بالتعب ووشيك الإعياء من أقل الجهد وترك العمل يسير وئيدا على هونه - هي أعدى أعداء الزعامة، وصفات معطلة لها، وأعراض تنفي وجودها، وترسل عليها أقتم الظلال والألوان.
وينبغي ألا ننسى أن من أهم مقتضيات الزعامة في تأدية دورها كمنشط للجماعة، وملهم القوة للأنصار والأتباع، ومستثير للحماسة ومشعل للنفوس، أن تكسب نشاطها ألوانا من الحمية، وتلبسه ثوبا من القوة والحيوية، ويحسن لهذا بالزعيم أن يعنى بمظهره الشخصي؛ ليكون مظهره توكيدا لقوته وشدة بأسه ومراسه، والنشاط الزاخر في كيانه، ومما يساعد على إثارة الحماسة في نفوس الناس أن يبدو زعيمهم مليئا بالقوة، مترعا بالنشاط، مفعما روحا وشبابا وحياة.
Halaman tidak diketahui
ولا ينقص من شأن الزعيم وقدره أن يحيط قضيته التي يجاهد لها ببعض الضوضاء والحركة والفتون؛ لكي تبدو ساحرة لافتة الأنظار مثيرة النشاط والحمية والوقدة في نفوس المقودين؛ لأن الناس إنما يرجون ذلك منه ويتوقعونه ويتلقونه بفرح وانبعاث معه وقبول.
وليس معنى هذا بلا شك أن يستخدم صفاته الشخصية ومواهبه المغناطيسية الجذابة لخدمة نفسه، واكتساب الإعجاب بشخصه، وإنما معناه أن يجعل نفسه رمزا لمثله الأعلى وقضيته.
ولا خفاء في أن الجماهير تحب أن تقاد، وأن قيادة الزعيم لهم لتبعث في أعماقهم إحساسا ما كان لينبعث وحده، لولا هذا العامل الخارجي الكبير السلطان، وإنهم ليجدون في متابعة زعامتهم التعبير المقنع الكافي لما كان يعمل في نفوسهم، ولا يجد أداة لذلك التعبير، فلا يلبثون أن يصبحوا قوة محسة خارج أنفسهم فيشعروا بأنهم وحدة حسية انسجمت واتحدت مع قوة أكبر منهم، ومن ثم تبرز وحدة المجموع كتلة متراصة يشد بعضها بعضا كالبنيان المكين.
ولا يكفي أن تحب الجماهير أن تقاد، بل تجب قيادتها وجوبا؛ فإن أكبر الخطر على بعض الزعماء أن رسالتهم تظل ذهنية فحسب، وتبقى حججا تعرض، وآراء تبسط، ونظريات تشرح، أي تعيش في أفق الفكر دون سواه؛ إذ المشاهد أن أمثال هذه الرسالات تخمد وشيكا، وتبرد ويعاجلها الفناء؛ لأن الناس إنما يتحركون بتحرك مشاعرهم، وتجيش حماستهم بمس النواحي العاطفية العميقة الأغوار في طباعهم، وإن للقوة والنشاط لسريانا من الزعيم إلى نفوس الناس وقلوبهم، وسلطانا عظيما على الأرواح، فإذا ما استطاع فرد أن يستخدم هذه القوى في إكساب قضيته هذه الفتنة العاطفية، واجتذاب الجماهير إليها بهذا التأثير؛ فهو الزعيم الحكيم الذي يعرف فن القيادة والسلطان.
وليس العمل وحده يكفي بالنسبة للزعامة، ولكن ينبغي إبرازه في مظهر السمو والتمام والإجادة والإتقان، فقد أثر عن العالم لويس باستور أنه في شبابه كان في إمكانه أن يدخل الامتحان، إذ كان الرابع عشر في الترتيب خلال السنة الدراسية، ولكنه لم يشأ أن يدخل الامتحان قائلا إن عمله لم يكن من الإحسان والإجادة بدرجة كافية، فأرجأ ذلك إلى العام التالي، وقد وصل ترتيبه في التقدم إلى الرابع بعد الرابع عشر؛ وذلك لأنه لم يشأ أن يقنع بمجرد المرور في الامتحان.
إن قولنا نحن «هذا يكفي» رضوانا منا بتأدية عمل ما، لا يصلح شعارا للزعماء؛ إذ يجب أن يكون مبدأهم مواصلة العمل والانكماش فيه، حتى يبلغوا به درجة الكمال ومرتبة التمام.
وهذا يستتبع وجوب العناية والتدقيق، وهما من خواص الزعامة والذين يتطلعون إلى قمتها العالية، كما أن النشاط قد يظهر في المداومة والانتظام؛ فقد لبث الفيلسوف هربرت اسبنسر عدة سنين لا يستطيع بسبب صحته أن يشتغل أكثر من ساعة واحدة في اليوم، ولكنه مع ذلك تمكن من إخراج مقدار عجيب مدهش من المؤلفات في تلك الفترة من السنين.
والجلد على العمل وقوة احتمال الدأب والكد من صفات الزعامة وخواص الزعماء، وهي خلة تابعة لقوة النشاط والحيوية الزاخرة فيهم، والبنية القوية المكينة لديهم، وقد قيل عن نابليون إنه إنما نجح في حروبه وفاز في معاركه بفضل شبابه وصحته، ووفرة حيويته، ومقدرته على احتمال المجهود البدني احتمالا يجاوز كل الحدود، حتى لقد كان يركب جواده فيظل فوق صهوته يوما كاملا، وينام عندما يريد النوم في غير غلبة للنعاس عليه، وقد أوتي معدة تأكل أي شيء وتهضم أي طعام.
ويروى عن مصطفى كمال - أتاتورك - أنه ظل يشتغل ثماني وأربعين ساعة بلا انقطاع في وضع ملخص لمشروع نهضة تركيا الحديثة، حتى لقد جعل يستبدل سكرتيرا بآخر كلما أعياه الجهد وأضناه الاستمرار، بينما ظل هو بنشاطه العجيب الذي بدأ العمل به، بل بتلك القوة الزاخرة الماثلة الحاضرة التي تجلى بها في معركة سقارية المشهورة الخالدة في التاريخ.
مصطفى كمال - زعيم تركيا الحديثة.
Halaman tidak diketahui
وكذلك يقال عن الرحالة الرائد المشهور جون ويسلي إنه قطع على صهوة الخيل أكثر من مائتين وخمسين ألف ميل أو مسافة تعادل عشرة أمثال خط الاستواء، وإنه جعل يخطب ويعظ خمس عشرة مرة في الأسبوع باستمرار وانتظام زهاء خمسين سنة متوالية، وقد ظل خلالها يخوض المستنقعات، ويعبر الأنهار ويقرأ ويطالع وهو على صهوة جواده، حتى إذا بلغ الثمانين، جعل يشكو من أنه يستطيع أن يطالع ويقرأ أكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم!
وقد وصف فيكتور هوجو بالنشاط والقوة البدنية المتناهية حتى لقد قال عنه أبوه إن شعر رأسه ولحيته كان أكثف من أشعار الناس ولحاهم كثيرا، حتى لقد كانت الموسي والمقص يتثلمان من خشونة شعره، وكانت له أسنان الذئب حدة، حتى ليكسر بها أجمد الجوز قشرا، وقد قال عنه الأديب فلوبير إن له قوة من الطبيعة وعصارة الشجر في دمه، وكانت خاصيته البادهة تناهي القوة والبأس كما كانت العافية تغمر بدنه وتفيض منه، وقد بقيت بشرته إلى شيخوخته متوردة بلون الشباب اصطباغا واحمرارا ...!
وإن التغلب على العقبات وتخطي الصعاب والحوائل، واجتياز الحواجز والموانع، لهي جميعا من أسرار الزعامة وصفاتها البارزة، وإن أكثر انتصاراتها لهي نتيجة العزم المستحصد، والإصرار المستأسد، والنية النافذة، ومن يرد النجاح قويا دءوبا مثابرا مصرا مصمما، يأته النجاح في النهاية مهما لاقى على طريقة، وقد قال الزعيم بوكر واشنطن محرر الزنوج في أمريكا: لقد بدأت كل شيء بهذه الفكرة، وهي أنني أستطيع أن أبلغ النجاح، وكان مقياس السمو عنده والرفعة وإتيان العظائم والجسام خليقا بالتدبر، حريا بالإعجاب به والتقدير، إذ كان يذهب إلى أن النجاح لا يقاس بالمركز الذي وصل المرء إليه، بل بالعقبات والصعاب التي تغلب عليها واجتازها في سبيله إلى ذلك المركز.
فيكتور هوجو - في منفاه.
وفي الحق إن التشبث بالغرض صفة عالية تقترن بالعظائم، وتلازم العزمات القوية المثابرة، ولا تطيق الفتور والوني والتثبيط، ولا تعرف اليأس والقنوط والتسليم، وكلما اشتدت المعركة وحمي الوطيس ، اتقدت العزمة والتهبت المشاعر واستعر الوجدان وازداد الكر والفر والإقدام.
وكثيرا ما يجد النشاط العظيم مضطربه في الشجاعة الدافعة الجليلة التي تستفيض إلى الزعامة وتبلغ مواضعها، وتلك هي الشجاعة التي لا تخشى شيئا ولا تنزوي متراجعة من أمر مهما تعاظمها، بل إنها لتسير حتى إلى التضحية والاستشهاد في سبيل فكرة رفيعة أو مبدأ عظيم أو قضية عامة خطيرة الشأن بقدم ثابتة، وأحسب هذا النوع الروحي من الشجاعة مقدسا؛ لأنه يكتسب شيئا من قداسة الدين، ويصبح إيمانا لا يتزعزع ويقينا لا يهن، ولو راجعت قوائم الضحايا والشهداء لأدركت أن الدافع الذي احتثهم على التضحية بأرواحهم من الجلال بحيث يلوح أشبه شيء بالدوافع الدينية، وكم من امرئ واجه خصومه بشجاعة فجردهم من أسلحتهم وقلم من أظفارهم، وأطفأ من حدة خصومتهم، وشدة لددهم، بفضل شجاعته وقوة إقدامه.
ولطالما كانت الشجاعة في مواجهة الأعداء والخصوم هي الصفة البارزة في أخلاق كثير من الزعماء الناجحين، وهذه الشجاعة التي تلازمها المثابرة ويصاحبها الدأب والثبات، تجد غذاءها بلا ريب من معين النشاط ووفرة القوى البدنية، إذ ليس شيء هو أشد تأثيرا فيها، وأذهب لمدخرها من التعب والكلال والجهد وتراخي البدن، وإن إشراق الطلعة ونشاط المظهر ومداومة المجهود، إنما تستمد من قوى لا تعود إلى الأذهان بقدر ما تعود إلى الجسوم والأبدان، وساعة يبتدئ الزعيم يسائل نفسه: هل هذا الذي أحاوله خليق بأن يحاول؟ يكون الرجحان في أمره أنه بلا شك قد أصبح بحاجة إلى الراحة والاعتزال! •••
وليس في الدوافع المختلفة التي تحرك الناس في إثر الزعيم دافع هو أعظم أثرا من أن يجدوه أمامهم في المواقف الرهيبة، والأحداث الكبار، متقدما مستبقا حمالا للأعباء الثقال متزن الخطى أمام صفوفهم وهم من خلفه تابعون، إذ يوم يشهدون ذلك منه لا يبقى فيهم فرد متخاذل ولا امرؤ متراجع الخطوات، بل كلهم يومئذ متقدم منبعث إلى حمل مسئوليته والاضطلاع بواجبه ومهمته.
ألا إن الرجل الذي يخشى حمل المسئولية عن نفسه وعن الآخرين لا يمكن أن يكون زعيما، ولا أن يروح يوما على الطريق المؤدية إلى الزعامة، فلا معدى عن المخاطرة وتحمل الأخطار، وإطاقة الأعباء الكبار؛ لكي يكون المرء زعيما ويتصدى لقيادة الناس، وإن كان من الحكمة ألا يجازف المرء ولا يخاطر إلا وهو عالم بمبلغ ذلك وشأنه وحقيقته وحد خطره.
إن تحمل المسئولية الشخصية حتى إلى حد المخاطرة بالحياة هو ميسم الزعامة وعنوان العظمة وصفة القادة الشجعان المغاوير المكافحين، ويوم قال الناس للعلامة باستور وهو يشتغل بالبكتريا - أو الجراثيم المعدية الفاتكة: إن هذا العمل الذي تتولاه خطر شديد العدوى، لم يكن جوابه غير أن قال: «وماذا يهم هذا أو يعني؟! إن الحياة وسط الأخطار هي والله الحياة، بل هي الحياة الحقيقية، حياة التضحية، حياة المثل والقدوة والأسوة، الحياة المثمرة المنتجة النافعة ...!»
Halaman tidak diketahui