كان اعتقالي بالمنصورة يوم 17 أغسطس سنة 1915، وفي نفس هذا اليوم اعتقل لفيف من خاصة أهل المنصورة ممن عرفوا بميولهم الوطنية، ورحلونا معتقلين إلى القاهرة حيث أودعونا سجن الاستئناف بباب الخلق، وهناك التقيت بأخي أمين وبفوج آخر من الوطنيين اعتقلوهم بمصر يوم اعتقالنا. وكان نظام الاعتقال بسجن الاستئناف أن تخصص كل غرفة من الغرف الانفرادية لاثنين من المعتقلين، وقد نسقوا اختيار كل اثنين بحسب مراكز المعتقلين وشخصياتهم، وإذ كنت قد اعتقلت بالمنصورة فقد وضعوني أنا والمرحوم عبد اللطيف بك المكباتي عضو الجمعية التشريعية (وعضو الوفد المصري فيما بعد) في غرفة واحدة وهي الغرفة رقم 15 من العنبر رقم 5. وكنا صديقين حميمين، ومنزله بالمنصورة تجاه منزلي بها وقتئذ، وكنا قبل الاعتقال نتبادل الزيارات والأحاديث، وله ميول نحو مبادئ الحزب الوطني، وكنت أقدر فيه وطنيته وشجاعته الأدبية، واحتفاظه بكرامته، واعتزازه بشخصيته وكفاءته الممتازة. فلما علم كلانا أنه زميل لصاحبه في «الزنزانة»، اطمأنت نفسنا إلى هذه الزمالة، وخففت عن كلينا غضاضة السجن. وقد استقبلنا موظفو السجن وعماله بالاحترام والتقدير؛ لأنهم عرفونا وعرفوا سبب اعتقالنا، وعرفوا على الأخص أننا لسنا من طراز ضيوفهم الآخرين نزلاء سجن الاستئناف، فأكرموا وفادتنا وبذلوا لنا كل ما أمكنهم بذله من التسهيلات، ولكن في حدود اللوائح؛ لأن عليهم رقباء من رؤسائهم في المحافظة. (6) في الزنزانة
ولما التقينا أنا والمكباتي بك أول مرة في «الزنزانة» وأقفلوا علينا بابها و«تمموا» علينا طبقا للتعليمات، نظر كل منا إلى صاحبه نظرة دهشة واستغراب، وأخذنا نتأمل في تصاريف الأقدار، ثم ما لبثنا أن مزجنا الدهشة بشيء من الفكاهة والسخرية من سياسة الحكومة التي تعتقل الناس جزافا وفي غير حدود العدل والقانون دون أن توجه إلينا أي تهمة. وقد رأيت من المكباتي جلدا وصبرا أعجبت بهما، وزادا من تقديري له؛ إذ كنت أظن أنه قد يتسخط على مسلكه الوطني الذي أدى به إلى الاعتقال، ولكني على العكس رأيته فخورا به، معتزا بشخصيته، عالي الرأس كعادته، وأخذنا نقطع الوقت بالأحاديث نتناولها في شتى المواضيع فكانت خير سلوى لنا في هذه الأوقات العصيبة.
وفي 30 أغسطس جاءنا الفرج، لا بإطلاق سراحنا، بل بنقلنا إلى معتقل أعدوه لنا بدرب الجماميز في مبنى مخازن وزارة المعارف؛ ذلك أن اعتقالنا في سجن أعد لاستقبال المحكوم عليهم أو المنتظر أن يحكم عليهم في الجرائم قد قوبل من مختلف الطبقات بالسخط والاستنكار، وأبديت رغبة في معاملتنا كمعتقلين سياسيين لهم على كل حال حق الرعاية والمعاملة الإنسانية، فأعدوا لنا المعتقل الجديد بدرب الجماميز. وقد شعرنا فيه بشيء من الراحة النسبية إذا قورن بسجن الاستئناف، وسمح لنا فيه على الأقل أن نجتمع معا في أي وقت نشاء، وأن نختار من الغرف الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ما نشاء، وأن يختار كل منا زملاءه، فاخترت مع أخي أمين غرفة واحدة كان بابها مفتوحا في كل وقت، ولا رقابة علينا في خروجنا منها. وكتبت لأهلي خطابا أبشرهم فيه بأننا انتقلنا من سجن الاستئناف إلى المكان الجديد وأن دواعي الراحة متوفرة فيه.
على أنه قد كتب علي أن أنتقل وقتا ما إلى سجن انفرادي آخر يشبه من بعض الوجوه سجن الاستئناف، وهو سجن «الحدرة» العمومي بالإسكندرية؛ إذ نقلوني إليه وأبقوني فيه مدة أسبوعين مع لفيف من معتقلي المنصورة للتحقيق معنا في بلاغ كاذب عن تهمة باطلة تبين من التحقيق كذبها وتلفيقها. وقد صحبني أيضا المكباتي بك في سجن الحدرة وأفرج عنه هناك، ثم عدنا إلى معتقل درب الجماميز، فرحب بنا الإخوان والزملاء وهنئوني على بطلان التهمة التي وجهت إلينا. (7) في رحاب ليمان طره
وفي شهر سبتمبر سنة 1915 نقلونا إلى معتقل آخر أعدوه لنا في بلدة طره بجوار ليمان طره المشهور. ويبدو لي أن سبب نقلنا إلى هذا المعتقل الجديد أن السلطة العسكرية رأته أبعد عن أنظار الناس وعن الزيارات العائلية من معتقل درب الجماميز، فضلا عما يوحي به اعتقالنا في طره - حيث الليمان المشهور - من الرهبة والفزع لمن كانوا مطلقي السراح من الوطنيين. وربما كان من أسباب هذا النقل أيضا أن معتقل درب الجماميز ضاق بمن فيه، إذ زاد علينا بعض طلبة الحقوق الذين اتهموا بتحريض زملائهم على الإضراب يوم زيارة السلطان حسين كامل لمدرستهم.
ثم نقلونا في فبراير سنة 1916 إلى معتقل آخر أعدوه لنا بالجيزة في مبنى سجن قديم مهجور كان يعرف بالسجن الأسود، وقد تحول بعد ذلك إلى عدة مبان حكومية بأول شارع الهرم بالقرب من كوبري عباس.
ومكثنا به إلى أن أفرج عنا يوم 17 يونيو سنة 1916؛ أي إننا مكثنا معتقلين عشرة أشهر، وكان الإفراج عني مع أخي أمين بك وعبد الله بك طلعت في يوم واحد.
وقد ذهبوا بنا نحن الثلاثة إلى الإسكندرية حيث أعدوا لنا عدة زيارات اقترنت بإطلاق سراحنا. فقابلنا حسين رشدي باشا رئيس الوزارة في منزله بالرمل بمحطة كارلتون (الآن محطة رشدي باشا)، فأحسن استقبالنا وتحدث إلينا عن ضرورات الحرب وعن مساعيه لدى السلطة العسكرية البريطانية لإطلاق سراحنا حتى كللت أخيرا بالنجاح، فشكرناه على حسن مسعاه. وطلب إلينا أن نذهب لمقابلة السير رونلد جراهام مستشار وزارة الداخلية وقال عنه إنه هو أيضا سعى في الإفراج عنا، فذهبنا إليه بدار الوزارة ببولكلي وقابلناه وأبدى نحونا شعورا طيبا. (8) في حضرة السلطان
ثم ذهبنا إلى سراي رأس التين حيث قابلنا المغفور له السلطان حسين، وقد استقبلنا بعطف وحفاوة، وأخذ يدافع عن سياسته منذ إعلان الحرب العالمية وقبوله عرش السلطنة، وقال إنه قصد خدمة مصر والأسرة العلوية، والتفت في ختام الحديث إلى أخي أمين وقال له: «طلع الغازيتة يا أمين بك.» ووعده بالمساعدة المالية لإصدار الغازيتة (صحيفة الشعب وكانت محتجبة احتجاجا على إعلان الحماية)، فشكره أمين، وانتهت المقابلة بالتحيات المقرونة بالدعوات، على أن أمينا رحمه الله لم يفكر في إعادة صحيفة الشعب طيلة مدة الحرب.
ذكرياتي عن ثورة 1919
Halaman tidak diketahui