كنت سنة 1919 لا أزال في الثلاثين من عمري أزاول مهنتي (المحاماة) في «المنصورة»، وكانت تغلب علي نزعة الشباب وأتوق إلى أن تسلك الأمة سبيل العنف في جهادها. أما الآن فإني أميل إلى مبدأ عدم العنف وأراه أقوم السبل وأقربها إلى النجاح والتقدم، وبعبارة أخرى لست من دعاة الثورة
révolution
وأوثر عليها التطور في النهضة
évolution ، ومع ذلك لم تتغير وجهة نظري في الجهاد؛ فإني أشعر والحمد لله بأن الشعلة التي تضطرم في نفسي لا تزال كما كانت لم تهبط لها حرارة ولم يضعف لها أوار؛ فالمقاومة الوطنية هي سبيلي في الحياة، وهي هي السبيل التي أدعو إليها وأنشد للوطن المزيد منها والثبات عليها، وهي سبيل كل أمة تريد المحافظة على كيانها في خضم هذا المعترك العالمي؛ إذ لا بد لها من ذخيرة من المناعة تدافع بها الحادثات، على أن المقاومة أو المناعة شيء والعنف شيء آخر، وقد يكون عدم العنف أدعى أحيانا لدوام المقاومة واستمرارها وأجدى عليها من عنف يعقبه فتور ثم تراجع وخمود.
تتبعت منذ نوفمبر سنة 1918 حركة تأليف الوفد المصري، وسعيت جهدي مع الساعين في التوفيق بين الوفد والحزب الوطني، على أن يمثل الحزب في هيئة الوفد، وجرت مفاوضات بينهما في هذا الصدد. وذهبت يوما لمقابلة المغفور له سعد باشا للتحدث إليه في هذا الشأن، يصحبني الأستاذ عبد المقصود متولي، والأستاذ عبد الفتاح رجائي، والمرحوم محمد بك رمضان القاضي السابق، بغية الاتفاق على هذا الأساس، وقبل الحزب مبدأ تمثيله في هيئة الوفد، ولكن وقع الخلاف بينه وبين الوفد على أشخاص الأعضاء الذين يمثلونه، وانتهى الأمر إلى عدم الاتفاق على أشخاصهم، واختار الوفد من تلقاء نفسه مصطفى النحاس بك «باشا» وحافظ عفيفي بك «باشا» باعتبار أنهما يمثلان مبادئ الحزب الوطني.
وكنت منذ اشتداد الحركة أقضي معظم الأيام بالعاصمة، وشهدت وقائع الثورة الأولى وامتدادها إلى الأقاليم، فرأيت بعثا جديدا للأمة، رأيت روح الإخلاص والتضحية تعم طبقاتها بعد أن كانت من قبل محصورة في دائرة ضيقة.
حدث الإضراب في المدارس يوم 9 مارس سنة 1919 على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه، وخرج الطلبة من معاهدهم متظاهرين محتجين منادين بالحرية والاستقلال، فانتعشت لذلك نفوسنا إذ رأينا في هذا الشباب طليعة جيش الإخلاص الذي يغضب لمصر ويثور من أجلها.
حقا لم يكن هذا أول إضراب من نوعه؛ فلقد شهدت من قبل إضراب طلبة الحقوق في فبراير 1906 كما تقدم بيانه، ولكنه اقتصر على طلبة الحقوق ولم يشاركهم فيه طلبة المدارس الأخرى الذين اكتفوا بإظهار العطف عليهم، وانتهى برجوع طلبة الحقوق إلى مدارسهم في مارس من تلك السنة.
وشهدت بعد ذلك وقف الدراسة في جميع المدارس يوم تشييع رفات الزعيم «مصطفى كامل»، وخروج الطلبة جميعا من معاهدهم في ذلك اليوم المشهود (11 فبراير سنة 1908) إظهارا لشعورهم، فكان أول إضراب عام حدث في مدارس العاصمة جميعها، وكان جزءا من المظاهرة الهائلة التي تجلت في موكب الجنازة، واشتركت فيها طبقات الشعب كافة توديعا وتقديرا لزعيم الوطنية الأول.
وقد رأيت في إضراب 9 مارس سنة 1919 صورة مصغرة من إضراب 11 فبراير سنة 1908، فكأن شباب سنة 1919 قد تلقى وحي الوطنية من مشهد ذلك اليوم العظيم.
Halaman tidak diketahui