Kematian Menteri Yang Terdahulu
موت معالي الوزير سابقا
Genre-genre
ولم أكن في تلك الحالة أدرك شيئا، كان كل ما حولي قد أصبح دافئا كثدي الأم، وصامتا صمت الرحم من الداخل والعالم بكل ما فيه من بحر وسماء وبيوت وأشجار وقطار وقضبان تلاشت، والأصوات تلاشت، ولم يعد لي أذنان وعينان ولا شفتان، وإنما هي حواس جنينية خام لا تحس إلا الدفء ولا تشم إلا اللبن.
ولم يكن بوسعي في تلك الحالة أن أدرك وجود أبي الذي كان راقدا إلى جوار أمي بجسده الضخم، وشاربه الطويل الأسود يهتز مع اهتزازة شفته العليا، وشفته السفلى تهدلت تحت وطأة الشخير العالي، وخيط طويل من اللعاب الأبيض ينساب ببطء من زاوية فمه فوق ذقنه رغم نومه العميق الذي بدا لي وقتها أنه لن يصحو منه أبدا. فتح عينيه، ورغم أنني لم أكن أراه (بسبب تكوري الجنيني) فقد لمحت تلك النظرة التي كست عينيه بسرعة البرق، والتي اختفت أيضا بسرعة البرق. لم أعرف حينئذ هل اختفت وحدها أم أنه هو الذي أخفاها، لكن أدركت الآن أنه هو الذي أخفاها.
رغم الظلام الذي كانت تغرق فيه حجرة النوم، ورغم أنني لم أكن لأستطيع أن أرفع عيني في عينيه، فإن هذه النظرة كانت قادرة على أن تخترق رأسي كالسهم، وبرغم ألم الاختراق، وبرغم الخوف منه، وبرغم الظلام الدامس، وبرغم أنه أخفاها بسرعة البرق، وعادت إلى عينيه نظرة الأب المحب، برغم ذلك فقد عرفت شكل هذه النظرة، إنها عين الإنسان حين تعبر عن الكراهية.
كان أبي رجلا متحضرا، وككل الرجال المتحضرين في عصرنا الحديث الذين يستطيعون التحكم في مشاعرهم الحقيقية وإخفائها، والظهور بمشاعر أخرى تنم عن الرقي، ككل هؤلاء استطاع أبي أن يخفي رغبته الحقيقية في أن يقبض بأصابعه الكبيرة الضخمة على عنقي، ويقذف بي بعيدا، وتحركت يده فعلا نحوي، لكنه قاوم الحركة، وأصبحت حركته بعد المقاومة كحركة يد الأب المتحضر حين يربت كل كتف ابنه، وبحركة بطيئة هادئة فصل بين جسدي وجسد أمي، وأصبحت فوق طرف السرير البارد، واحتل هو مكاني الدافئ.
كان الوقت شتاء والليل باردا، والغطاء الصوفي لا يصل إلى طرف السرير حيث كنت، إلا بمقدار ما يغطي نصف جسمي ويظل ظهري عاريا. ثم تحرك أبي وهو نائم وشد الغطاء عليه فأصبحت بغير غطاء تماما، ارتجفت من البرد، ففتحت أمي عينيها، والحقيقة أنني لم أكن قد ارتجفت بعد، لكنها كانت تفتح عينيها لأقل حركة. قد لا تكون إلا حركة الغطاء وهو ينزلق فوق ظهري، أو عضلة صغيرة في جسمي تنقبض بسبب برد بسيط حدث أو سوف يحدث، فإذا بها قبل أن يحدث، بل قبل أن تنقبض العضلة ذاتها، إذا بها تفتح عينيها فجأة من عز النوم، بل إنها قبل أن تفتح عينيها وقبل أن تصحو تماما تمتد ذراعيها وتغطيني.
كنت أندهش وأتساءل بيني وبين نفسي عن ذلك السر؛ سر تلك القدرة الرادارية العجيبة لجسدها النائم على الإحساس بجسدي، رغم تلك المساحة الكبيرة التي تفصل بيننا، والتي كان يشغلها جسد أبي الضخم. وكانت دهشتي تزيد حين أسمع أبي يتهمها بأن نومها ثقيل. وذات مرة سمعته يتشاجر معها؛ لأنه أخذ يرن جرس الباب طويلا قبل أن تصحو من نومها وتفتح له الباب. وكان أبي يتهمها أيضا بأن سمعها ثقيل، وذات مرة ضربها (وأنا في حجرها تطعمني)؛ لأنه نادى عليها لتحضر له الغداء لكنها لم تسمع، وذات مرة من هذه المرات سمعته يقول لها إن قلبها بارد لا يحس، ورأيت أمي في ذلك اليوم تبكي وحدها في المطبخ؛ فاقتربت منها في وجل، وهمست في أذنها بكلمات متقطعة مكسرة (ولم أكن أجيد الكلام بعد) وقلت لها: «انتي بتحسي أكتر من أبي يا أمي.» واتسعت عيناها وهي تنظر إلي كأنما بدهشة، كأنما دهشت كيف يمكن لطفل صغير جدا مثلي أن يدرك حقيقة كبيرة كهذه الحقيقة، وحوطتني بذارعيها وهي تهمس: يا حبيبي.
كان أبي واقفا على باب المطبخ، ورآني وأنا بين ذراعيها؛ فاكتست عيناه بتلك النظرة الخاطفة التي ما إن تظهر حتى تختفي، والتي تخترق عظام رأسي، وتجعلني أرتعد برعدة عنيفة، كالرعدة التي تصيب جسد الإنسان حين يرى نفسه وجها لوجه أمام الموت.
لو أنه فعل ما يفعله الإنسان الطبيعي حين يكره، لو أنه أطبق بأصابعه الكبيرة على عنقي لاسترحت، وأدركت أنه يتصرف على نحو طبيعي؛ فالتصرف الطبيعي مهما كان قاسيا فهو مريح، وهو مطمئن، لكن أبي لم يكن يطمئنني أبدا، كنت أخاف منه، وأخاف من أية حركة تصدر عنه، والحركة الهادئة أو الحانية تفزعني أكثر من الحركة العنيفة أو القاسية. وحين أكون قريبا منه وأرى يده تتحرك، ربما هو لن يفعل شيئا سوى أن يربت على كتفي، أو هو يحرك يده لهش ذبابة من فوق عينه أو ليهرش أذنه، لكني أجدني قد انتفضت، وسرت فوق جسدي قشعريرة خفية.
لم أكن أعرف لماذا لا أستطيع أن أجلس بجوار أبي بحيث لا تكون هناك مسافة بيننا. كان لا بد من هذه المسافة دائما، ولم أستطع بحال من الأحوال الاقتراب من أبي إلى حد الالتصاق بجسده، على عكس أمي؛ كانت حين تجلس إلى جواري ألتصق بها، ليس ذلك الالتصاق العادي، ولكنه تلك الرغبة الملحة العنيفة في أن تنعدم المسافة بيننا انعداما كاملا وأصبح أنا وهي جسدا واحدا.
ولم يكن أحد يعرف هذه الرغبة غيري، كنت أخفيها كما أخفي مشاعري الحقيقية، وحين أجلس في الفصل في المدرسة، ويطلب مني المعلم أن أقول وراءه كلمة: «أحب أبي مثل أمي»، أردد وراءه دون أن أعترض: «أحب أبي مثل أمي.» وحينما تعلمت كتابة الحروف طلب مني المعلم أن أكتب اسمي؛ فكتبت: «سمير»؛ فقال لي: اكتب اسمك بالكامل. فكتبت: «سمير عزيزة»، ونظر المعلم في كراستي غاضبا، ثم شطب بقلمه الأحمر اسم «عزيزة»، وقال لي: اكتب اسم أبيك. ودهشت، وفتحت فمي لأعترض، لكن المعلم كان كبيرا وأنا صغير؛ فكتبت دون أن أعترض «سمير آدم». وفي اليوم التالي طلب المعلم من الفصل كله أن يردد وراءه: «أحب أبي مثل أمي»، ورددت مع الفصل كله: «أحب أبي مثل أمي»، وطلب منا المعلم أن نكتبها في كراسة الواجب خمس مرات. وفي اليوم التالي كتبناها مرة أخرى ، ورددناها وراءه عدة مرات، وكان الواجب في البيت أيضا أن نكتبها خمس مرات، وأن نسمعها لأنفسنا عشر مرات، ثم عشرين مرة، حتى وجدت نفسي أردد وأنا نائم: أحب أبي مثل أمي ... أحب أبي مثل أمي ...
Halaman tidak diketahui