Kematian Menteri Yang Terdahulu
موت معالي الوزير سابقا
Genre-genre
وسمعني أبي ذات مرة وأنا أرددها فابتسم، كانت ابتسامة غريبة، لم يكن تكوين وجهه يصلح للابتسام. كانت الجبهة بارزة عريضة فوقها تكشيرة طبيعية لا تزول حتى وهو نائم، وكانت عظام وجهه غليظة والفكان كبيران عريضان كفكي الجمل أو الحصان، ولا يمكن لمثل هذين الفكين مهما انفرجت الشفتان أن يعبرا عن الابتسام. وأصابتني رجفة؛ هذه الرجفة كانت تصيبني دائما حين أرى شيئا غير طبيعي، ولم أكن رأيت من قبل جملا أو حصانا يبتسم، لماذا لا يستطيع الجمل أو الحصان أن يبتسم؟ طرحت هذا السؤال على المعلم في المدرسة فقال لي: إن الإنسان فقط هو الذي يمكن أن يبتسم يا سمير.
ولم يعرف أبي ما الذي كان يدور في ذهني، كنت أستطيع بقدرة عجيبة أن أخفي مشاعري الحقيقية، ورفعت صوتي عاليا وأنا أقرأ الواجب من الكراسة: أحب أبي مثل أمي ... أحب أبي مثل أمي ... كنت أعرف أنني أكذب، ولأنني كنت أعرف أنني أكذب فقد خفت أن يكتشف أبي كذبي، ولكي أخدع أبي أصبحت أرفع صوتي أكثر وأكثر، وأردد بصوت عال: أحب أبي مثل أمي ... وكلما ارتفع صوتي زاد خوفي من أن يصبح الكذب فيه واضحا أكثر؛ فأرفع صوتي أكثر وأكثر لأخفي كذبي، وكلما ارتفع صوتي كلما ظهر فيه الكذب أكثر، وكلما زاد خوفي، وهكذا؛ حتى وجدتني أصرخ كالمستغيث وأنا أبكي: أحب أبي مثل أمي! ... أحب أبي مثل أمي! ...
ولم يكتشف أبي حقيقتي أبدا، وحين رأى دموعي تجري فوق خدي اقترب مني، لكني كعادتي تراجعت إلى الوراء خطوة؛ فاقترب مني أكثر؛ فتراجعت إلى الوراء؛ فاقترب؛ فتراجعت. وارتفعت يده إلى أعلى قليلا، وأظن كان سيربت على كتفي، لكن خيل إلي أنها ستهبط على وجهي في صفعة قوية؛ فانتفضت مدفوعا إلى الخلف. وتوقف أبي لحظة، وعيناه المتسعتان كأنما في دهشة ، تنظران إلي وتحملقان، كأنما في دهشة، وكأنما أيضا تتساءلان عن ذلك السبب. ليس ذلك التساؤل الطبيعي حين يجهل الإنسان السبب، ولكنه التساؤل غير الطبيعي حين لا يكون السبب مجهولا، بل يكون معلوما، ليس معلوما فحسب ولكنه محسوس عن يقين بكل أحاسيس الجسد وأعصاب النفس.
وفي مثل هذه اللحظات يصبح الإنسان عصبيا؛ فالإنسان بطبيعته لا يميل إلى مثل هذه الأحاسيس اليقينية، الإنسان ميال بطبيعته إلى الشك، ومع ذلك فليس هناك ما هو غير محتمل في حياة الإنسان قدر الشك، وهذا هو سبب شقائكم فوق الأرض، فأنتم تريدون اليقين وتريدون الشك معا.
لكني كنت في ذلك الوقت طفلا صغيرا، ولم يكن في إمكاني أن أزيل عنه هذا الشك أو ذلك اليقين، كنت قد فعلت كل ما في وسعي لأحفظ وأتلو بصوت عال واجب المدرسة، وكنت قد فعلت كل ما في وسعي لأجعل صوتي وأنا أتلو الواجب كأنه صوتي الحقيقي.
وكان صوتي يبدو حقيقيا فعلا، ولم يكن في إمكاني أن أفعل أكثر من ذلك، لكن أبي ظل واقفا أمامي، لم أكن أراه لأن رأسي كان مطرقا وعيني كانتا في الأرض، ولم أكن لأجرؤ أبدا على أن أرفع رأسي وأنظر في عينيه، كنت أعرف أنني في اللحظة التي ستلتقي عيناه بعيني سيكتشف الحقيقة المفزعة، والحقيقة المفزعة هي أن الشك سيصبح يقينا، أو أن اليقين سيصبح شكا، لكني رغم إطراقي أحسست بتلك النظرة التي اخترقت رأسي ونفذت منه، وجعلت ظهري يتسمر في الحائط.
وهكذا أصبحت واقفا أمامه عاجزا عن التراجع إلى الخلف، ولم تكن تفصلني عنه إلا خطوة واحدة، وكنت أعلم أنها ليست إلا غمضة عين وتنعدم المسافة بيننا، وأصبح أنا والحائط شيئا واحدا. وضغطت بظهري على الحائط وبكل قوتي، ولكن الحائط كان صلبا صلابة الصخر.
وفي تلك اللحظة ظهرت أمي كأنما انشقت الأرض عنها فجأة، لم أعرف كيف ظهرت ومن أين؛ لأنها في ذلك اليوم لم تكن بالبيت، وكانت ستقضي الليلة عند خالتي، ولم أعرف تماما ما الذي حدث لي حين رأيتها، إن جسدي وحده هو الذي اندفع - بلا وعي - نحوها بتلك السرعة وبذلك العنف. بسرعة الفرار من الموت، وبعنف التشبث بالحياة. وكان جسدي حينئذ يتصرف على نحو طبيعي حين تشبث بها والتصق، وأصبح من شدة الالتصاق والتشبث هو وجسدها شيئا واحدا.
حين أذكر ذلك اليوم أقول لنفسي: ليتني لم أفعل ما فعلت، وليت ظهري ظل متسمرا في الحائط إلى الأبد، أو ليتني أصبحت أنا والحائط شيئا واحدا. لكني لم أكن أعرف ما الذي سيحدث، إنها لمأساة أن يجهل الإنسان ماذا سيحدث، (لا أقول غدا) وإنما في اللحظة القادمة. إن هذا الجهل كالعمى بل إنه العمى تماما، وإني أراكم الآن تسيرون أمامي بغير عيون. إن عيونكم ليست عيونا، ولكنها ثقوب ينفذ منها الهواء كثقوب الوجوه الكرتونية التي كنت أشتريها يوم العيد.
ما زلت أذكر هذا اليوم، لم يحدث أن نسيته أبدا؛ كمنظر ذلك الجسد بغير رأس وبغير ساقين الذي ما نسيته قط. إن ذاكرتي تحتفظ بكل ما حدث في ذلك اليوم، رغم أنه أصبح بعيدا جدا، ورغم أن سنوات كثيرة مضت، سنوات كثيرة لا أستطيع أن أعدها، فلم أكن تعلمت من الأرقام إلا عشرة، بعدد أصابع اليد. لم يكن المعلم في المدرسة قد علمنا أكثر من هذا حتى ذلك الوقت، لكني رغم السنين الطويلة لا زلت أذكر كل شيء مهما كان هينا، وكل حركة مهما بدت بسيطة. ولم تكن أية حركة من حركات أبي بسيطة. واستطعت أن ألتقط تلك الحركة السريعة الخاطفة في عينيه، ورأيت سواد عينيه يستقر فوق أمي. وكنت لا أزال بين ذراعيها فأخفيت رأسي في صدرها، ولم أعد أرى وجه أبي، لكني أحسست ذراعي أمي حولي تضغط علي بكل قوتها وتحتويني بجسدها، وتتكور حولي وتحوطني، وتخبئني، وكأنما أرادت لو استطاعت أن تضعني داخل صدرها أو داخل أحشائها، بل في رحم الأم ذاته.
Halaman tidak diketahui