Kematian Menteri Yang Terdahulu
موت معالي الوزير سابقا
Genre-genre
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ لا يا أمي، لم تكن الإجابة البديهية هي الإجابة الصحيحة؛ فالإجابة الصحيحة لم تكن هي الإجابة المطلوبة، وهذه هي - يا أمي - ألف باء السياسة كما قلت لك في البداية، وأول درس تعلمته في السياسة، كيف نسيته يا أمي؟ لا أعرف، لكني نسيته في تلك اللحظة، وكم حزنت - يا أمي - لأني نسيته، وحزني كان شديدا إلى حد عدم الإحساس بالحزن، بل إلى حد الإحساس براحة تكاد تشبه الفرح؛ فلقد أحسست - يا أمي - أن عبئا ثقيلا كان جاثما فوق صدري وبطني أثقل من يدي الاثنتين المشلولتين المضمومتين فوق صدري أو بطني، وأثقل من جسدي جالسا مشلولا في مقعدي، بل أثقل من المقعد ومن الأرض تحت المقعد لو أن الأرض جلست علي بثقلها ولم أكن أنا الجالس عليها.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، استرحت وأي راحة، وكم أشعر بهذه الراحة في هذه اللحظة الأخيرة وأنا أغادر هذه الدنيا بكل ما فيها، ولكن الكارثة - يا أمي - أنني رغم هذه الراحة ورغم أنني أغادر الدنيا فلا زلت أضع التليفون بجوار رأسي، ولا زلت أنتظر أن يرن مرة واحدة، أن أسمع الجرس مرة واحدة، ويرن الصوت - أي صوت - في أذني ويقول: «يا معالي الوزير»، كم أود - يا أمي - أن أسمعها مرة واحدة فقط قبل أن أموت!
الجريمة العظمى
أقسم لكم يا من ستقرءون قصتي أنني كنت أكثر براءة مما تتصورون، وربما كنت أكثر براءة من كثيرين منكم، وقد تأكدت من براءتي بعد أن مت (أنا ميت الآن وفي إمكاني أن أعبر عن نفسي بغير خوف منكم). كنت براءة طفل صغير، ومعنى ذلك (لو كانت لكم ذاكرة قوية) أنني لم أكن بريئا على الإطلاق، على الأقل في نظركم، ومع ذلك كنت - ولا زلت - أعتبر نفسي في براءة طفل صغير. إن أحدا منكم لا يذكر ما الذي دار في رأسه وهو طفل صغير، وأنا أيضا كنت مثلكم حين كنت فوق الأرض، إننا ننسى طفولتنا حين نكبر، وننسى أحلامنا حين نصحو من النوم. وهذا النسيان دليل قاطع على أننا فعلنا في طفولتنا ما يخجلنا ونحن كبار، وفعلنا في أحلامنا ما يخجلنا ونحن يقظون.
لكن لم أعد مثلكم، وقد أكسبتني تجربة الموت شجاعة غير آدمية؛ فأصبحت في غير حاجة إلى أن أفصل بين مراحل عمري، وأقيم بين كل مرحلة ومرحلة جدارا سميكا. إن هذه الرؤية لمراحل حياتكم الممزقة المنفصلة بعضها عن بعض لم أتمكن منها إلا بعد أن ارتفعت عن الأرض. وقد دهشت لمنظر حياتكم تحت عيني، إنه منظر غريب جدا، يشبه إلى حد كبير جسد إنسان قطع رأسه وبترت ساقاه ولم يبق إلا البطن والصدر. إنه منظر مخيف أيضا ذكرني بحادث قطار شهدته وأنا طفل صغير، ولا أنسى حتى الآن منظر الجسد بعد أن أخرجوه من تحت العجلات بغير رأس وبغير ساقين.
هذا المنظر لا أنساه أبدا، لكني في الحقيقة نسيته، بل إنه يكاد يكون المنظر الوحيد في حياتي الذي نسيته تماما، من شدة بشاعته نسيته نسيانا كاملا، ومن شدة بشاعته ظل في ذاكرتي ولم أنسه أبدا، وهذا هو ما يحدث لكم؛ فأنتم تنسون ولا تنسون، وهذا هو سبب شقائكم فوق الأرض.
لكني على أية حال لم أعد أخاف من هذا المنظر، وأصبحت على شجاعة غريبة، وأستطيع أن أحملق فيه لمدة دقيقة كاملة، بل إن شجاعتي زادت عن الحد، وأصبحت قادرا على أن أحملق في وجه أبي لمدة دقيقة كاملة، وجه أبي كان كوجوه كل الآباء، ووجوه كل الآباء تبدو لي الآن كتلك الوجوه الكرتونية التي كنا نشتريها في يوم العيد، العينان ليستا عينين، وإنما هما ثقبان كبيران، حين أنظر داخلهما لا أرى شيئا، والأنف قطعة بارزة من الكرتون، له أيضا فتحتان ليستا إلا ثقبين. وتحت الأنف شارب طويل أسود، إن هذا الشارب هو الذي كان يضحكنا بشدة ونحن أطفال، ويلبس كل منا الوجه الذي اشتراه بقرش، ونجري نخيف بعضنا بعضا بذلك الشارب الطويل الأسود.
كنت أظن أنني لا أحب أبي بسبب ذلك الشارب الخشن المخيف، لكني أدركت الآن - حين حملقت لأول مرة في وجهه - أنني لم أحبه بسبب عينيه. عيناه حين حملقت فيهما عرفت - على الفور - أنه هو الذي قتل أمي، وكنت وأنا طفل أحب أمي، وأنتم أيضا لا تعرفون معنى أن يحب طفل أمه؛ لأنكم لم تكونوا أطفالا أبدا (النسيان يجعل الشيء الذي حدث كالذي لم يحدث تماما)، كنت أحب أمي لدرجة أنني عاجز عن وصفها الآن كما عجزت عن وصفها في أي وقت مضى. كنت أتصور أنني سأستطيع أن أصفها الآن بعد أن ارتفعت فوق الأرض، وأصبحت كل الأشياء غير الحقيقية هي التي تنتهي، أما الأشياء الحقيقية فلا تنتهي أبدا. وكان حبي لأمي حقيقيا لدرجة أنني كنت أظن أن أمي هي أنا، لم يكن ظنا فحسب، ولكنه كان إحساسا يبلغ حد اليقين، كان جسدها وجسدي شيئا واحدا. إن هذه المسافة المعدومة بيني وبين أمي لا تزال حتى الآن كما كانت وأنا طفل؛ فالأشياء الحقيقية تلازمنا في أي مكان، ارتفعنا أو انخفضنا فهي تلازمنا كأجسامنا، وحبي لأمي كان حقيقيا كجسدي. كنت طفلا صغيرا، وكل الأشياء في عين الطفل الصغير تبدو غير حقيقية، كل الأشياء تبدو كالحلم، والناس كالأشباح أو كالملائكة، والقطار يجري فوق قضبان سحرية، وصفارة القطار لها رنين أجراس مسحورة، والبحر بغير قرار، والسماء بلا قاع، والشارع بلا نهاية، والليل المظلم مخيف إلى حد الموت.
شيئان كنت أخاف منهما: الظلام والموت، وأترك سريري الصغير في منتصف الليل وأزحف إلى سرير أمي، أدس نفسي في ثنايا جسدها الدافئ، وألتصق بها بقدر ما أستطيع، أكور جسدي وأجعله أصغر مما هو، أحاول أن أجعل حجمي يتناقص ويتناقص ليصبح جنينا صغيرا قادرا على العودة إلى رحم الأم، وجسمي كله يهتز بهذه الرغبة كالحمى. أرتجف كالمحموم، وأظن أن ما من شيء سينقذني من ذلك الموت المحدق بي في الظلام سوى أن أختفي داخل ذلك الرحم الحنون الدافئ المغلق علي وحدي.
من يراني في تلك اللحظة - وأنا متكور على نفسي كالجنين فعلا - يدرك أن هذه الرغبة كانت حقيقية وكانت عنيفة، وأنها لم تكن رغبة في الابتعاد عن الموت، ولكنها كانت رغبة في الاقتراب من أمي، الاقتراب الشديد إلى درجة الالتصاق بها وذوبان جسدي في جسدها؛ لأصبح أنا وهي شيئا واحدا. كنت أحبها لدرجة أن فناء جسدي في جسدها لم يكن فناء ولم يكن موتا ولم يكن مؤلما ولا مخيفا، بل كان قمة حياتي وذروة لذتي والطمأنينة والراحة الكاملة.
Halaman tidak diketahui