Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genre-genre
ولقد حدثتكم كثيرا عن الست وسيلة (وهي العوادة الشهيرة التي كانت عند المرحومة الأميرة نازلي فاضل، ثم انتقلت بعد وفاتها إلى سراي المرحوم السلطان حسين كامل)، والست بمبه (هي بمبه كشر العالمة الشهيرة)، وهما المفضلتان في مقاصير الخدور الكبيرة بالقاهرة وتونس، وإني أقص عليكم الأهواء الغريبة للمغنيين العرب:
إن الشيخ يوسف - الذي توفي الآن ومن تعرفت به بمصر - رجي منه مرة أن يغني في احتفال عند كبير من الأمراء، وإن كلمة رجاء منه لمخففة؛ لأنه نقد مقدما أجره الذي يقدر بآلاف من الفرنكات، وفي أعظم وقت الاحتفال اختفى الشيخ يوسف، فأخذوا يبحثون عنه، فعلموا أنه قد غادر القصر وكان له عدة بيوت، فأرسلوا إليه من يبحثون عنه فلم يعثروا عليه، ومضى وقت طويل والأمير ومدعووه ينتظرون، وانتهت الليلة باكتشافه في إحدى الطرق الصغيرة في مصر القديمة يسير وحده بغير قصد في ضوء القمر، فأجاب الرسول بأنه لا يستطيع العودة إلى القصر؛ لأنه لا ميل له الليلة للغناء ولا للموسيقى، فخضعوا لرغبته، وإن كبار المغنين في بلادنا لا يجرءون أن يعملوا مثله.
وفي حفلة زفاف ابن أحد التجار - وكانت الحفلة في الطريق كما جرت العادة في القاهرة - رأيت عبد الحي المغني الآخر الشهير وقد أخذ مبلغا ضخما، وكان تحت قدميه ثلاثمائة مستمع تقريبا ينتظرونه من ساعات، وكان جالسا على مقعد عال وبيده عود وقد وقع نحو عشرين مرة فاتحة موسيقية ثم وضعه بجانبه ولم يغن كلمة واحدة، ولم أر في حياتي مثل هذه الألاعيب المماثلة لسنور يعذب فأرة قبل افتراسها (ضحك).
ومن أغرب الأمور التي نفاجأ بها أن في البلاد العربية كل الناس بدون استثناء مفتونون بالموسيقى، وهي عند العرب قوة قاهرة، ويمكن سوقهم إلى الحرب المقدسة بعود ورق وصوت جميل، وإني أريد أن أقص عليكم المشاهدة الآتية:
توجد بمصر شركة من السوريين المسيحيين تمثل بالعربية وبأزياء إفرنجية روايات أوروبية أمام جمهور عربي صميم، وبعض هذه الروايات من مؤلفات «شكسبير»، ولقد حضرت منها تمثيل «روميو وجولييت»، وكانت الطرابيش والعمم تشغل المقاعد كلها والألواج، ولا تظنوا أن هذا الجمهور من المسلمين كانوا ينظرون إلى المسرح، بل كانوا يدخنون ويشربون والجميع ناظر إلى السقف أو إلى أرجلهم، أو ينظرون وراءهم بأعين كبيرة وهم يفكرون في أمور أخرى.
وفي وقت من الأوقات أراد الراهب أن يغمد خنجر «روميو » في قرابه؛ لأنه كان يريد أن ينتحر، فوقع من يده الخنجر فرفعه الراهب، فوقع ثانية فرفعه روميو.
وقد حاول الاثنان أن يغمداه في قرابه فلم يستطيعا، وبعد عشر دقائق خرجت بغتة من وراء المسرح عجوز لا شأن لها في الرواية، وطفقت تعالج الخنجر بصبر ولسانها متدل حتى وفقت أخيرا ووضعته في منطقة «روميو»، ثم خرجت بكل سكون كما دخلت، وعادوا إلى التمثيل بعدما قطع، فأغرقت في القهقهة وحدي دون أن يشاركني أحد من هذه الجموع.
وعندما جاء منظر القبر انطلق الضحك من الجميع ليحيوا أنين «جولييت». وفي مواقف الحب كان المثل السوري يستبدل شعر «شكسبير» الوجداني بالغناء العربي وقد هاج الجمهور من التحمس والفرح، إذ عرفوا منها روح جنسهم فوجدوا أنفسهم سعداء (نريد الحب العذري عند العرب).
كل شرقي يحب الموسيقى حتى خيلهم، وقد شاهدت في «خرومري» برذونا بلغ من الكبر عتيا يجر عربة وهو كئيب كأنه محتضر، وكان في زمن فتوته من خيول البرجاس المشهورة، وبمجرد ما يسمع أحدا يصفر له لحنا يرقص طربا.
كل شيء في الشرق موسيقي من نداء الباعة إلى أذان الصلاة، يسمع المؤذن من أعلى منارته خمس مرات كل يوم فينطلق غناؤه بدلا من نواقيسنا، وسأجتهد أن أسمعكم غناء المؤذن (ثم أخذت مدام ماردروس تغني غناء المؤذن فاحتد التصفيق وعلا الصياح: أعيدي أعيدي).
Halaman tidak diketahui