Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genre-genre
مقدمة
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
باب النقد
الروايات التمثيلية
الأبحاث الموسيقية
متفرقات
بلاغة الغرب
مقدمة
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Halaman tidak diketahui
الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
باب النقد
الروايات التمثيلية
الأبحاث الموسيقية
متفرقات
بلاغة الغرب
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
تأليف
محمد كامل حجاج
Halaman tidak diketahui
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن من على الإنسان بفيوضه الربانية، ونفحاته المباركة العلوية، حتى سما إلى أرفع ذرى الخيال، وأنتج في عالم البلاغة أفخم مثال، وصلاة وسلاما على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ومن فتن بروائع بلاغته العقول والألباب، وبعد؛ فأهدي إلى القراء بعض ما جادت به القريحة وجال فيها الخيال من فنون مختلفة، وأبحاث متفاوتة وقليل من قطع معربة في التمثيل وغيره عسى أن تصادف قبولا عند الجمهور الكريم، ولا أنسى الحفاوة العظيمة التي تقبل بها القراء والفضلاء «بلاغة الغرب»، ولعمري إنها لتدل على كرم حاتمي وتسامح كبير حيال عمل لا يستحق كل هذا الثناء، وإني أقدم لهم واجب الشكر على هذا العطف الكريم وتلك السجايا النادرة، وأدعو الله أن يوفقنا جميعا لخدمة الأمة وأن يمكننا من أداء الواجب؛ إنه سميع مجيب.
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
(1) الربيع
ذهبت بعد ظهيرة يوم طاب هواؤه، وصفت سماؤه، مع رفقة من خير الأصدقاء، وصفوة الأحباء، إلى القناطر الخيرية؛ لنمتع منا النواظر، ونجلو الخواطر، ونمحو ما خط على جباهنا من غضون سطرتها الهموم والشجون بجمال الربيع المتجلي بمظاهره الساحرة، فوق تلك الجنات الناضرة، والمياه اللجينية الجارية، والأفياء الظليلة الوارفة.
هناك مهد الربيع وإيوانه، وبهاء الطبيعة الغض وسلطانه، ومهبط طيف الشعر والخيال، ومظهر الجمال والجلال، ومهب النسيم الأريج، ومنبت الزهر الشذي البهيج.
هناك ملتقى الأنهار، وقرة الأنظار، وقبلة النعيم، وشفاء السقيم، وملاذ المحزون، وسلوان المفتون.
خطت هذه الجنان الفيحاء، والغابات الغلباء بذوق سليم، إذ توخي فيها تمثيل الطبيعة وحراجها وروابيها ومروجها، وخمائلها ودروبها ودوحها الشاهق، ونخلها الباسق؛ فأصبحت يتيمة عقد رياض القطر فلا ترى فيها شكلا هندسيا ولا سطحا معتدلا، وقد نثرت فوق تلك البسط الزمردية أشجار تفاوتت أحجامها واختلفت أبعادها واتجاهاتها.
يظن الساذج أن تلك الروضات لا نظام لها، خالية من الفن والترتيب، ولكنها في الحقيقة خاضعة لنظام دقيق فني لا يدركه إلا من أوتي ذوقا رفيعا، ومارس فن النباتات وتخطيط الحدائق زمنا طويلا.
Halaman tidak diketahui
سارت بنا مركبة «الترولي» فوق تلك القناطر الفخمة، وماء الترع يتدفق من فوق أبواب العيون الموصدة وهو يدوي عند تدهوره كالرعد القاصف، والسيل العرمرم الجارف، ويدحرج اللجج الهائجة المزبدة حتى وصلنا إلى الحديقة الأخيرة في الضفة الثانية من الترعة المنوفية، وهي بيت القصيد من تلك الجنان وأحدثها عهدا.
عرجنا يسرة عند ملتقى النيل بتلك الترعة، وصعدنا إلى ربوة شائقة سائرين في ممر نثرت في جانبيه شعب من أصول الأشجار العظيمة، وغطي طرف منها بالطين، غرست فيه بعض النباتات الفارشة من «بلومباجو» كاس بزهره الأزرق الصافي «وجيرانيوم بلتاتوم»، وقد ازدان بأزهاره من أحمر وأبيض ووردي «وروسيليا جونسيا»، وقد استرسلت فريعاتها الشعرية، وتدلت عناقيدها المرجانية.
جلسنا فوق مقعد بقمة تلك الربوة وعلى كثب منا شجرة «دوتزيا كريناتا» كاسية بعناقيدها البيضاء الناصعة كأنها مجللة بالجليد، وقد زرعت حولها دائرة من «البيجونيا» ذات الأزهار المستمرة فلمعت أوراقها كالأطلس، وغطيت بأزهارها الرشيقة الحمراء، وعلى مقربة منا دائرتان؛ إحداهما من المنثور، والثانية من الخيري، وقد تضوع المكان بأرجهما الشذي.
أشرفنا من هذه الربوة الزمردية على ذلك الفردوس الفخم، وقد امتد أمامنا فرشه السندسي، ونثر فوقه بديع الزهر ورشيق النور كأنه بساط من استبرق نثر عليه اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والماس.
انتقلنا إلى الجهة اليمني فشاهدنا أشجارها الباسقة من اللبخ «والبوانسيا ناريجيا» وغيرها، وقد تسلقت عليها «البوجنفليا» الحمراء، «والرينكوسبرموم» الياسميني بأزهاره البيضاء التي تحاكي الياسمين في رياه وشكله، «والبومونسيا» بأزهارها التي تشبه الأبواق البيضاء وشذاها المنعش.
جللت هذه المتسلقات جذوع تلك الأشجار وكستها ثيابا بديعة، وصعدت فروعها إلى أفنان الدوح لتعانقها وتلثمها وتحتمي بها من غائلة الرياح العنيفة التي تعبث بأغصانها الرفيعة اللدنة.
نبتت تحت ظلال خمائل الأيك نباتات مختلفة تخشى الشمس والقر والقيظ مثل: كزبرة البئر والسرخس والهليون الربشي «والبروميليا» «والكليفيا»، فأصبحت تمثل ركنا من أركان غابات البريزيل.
تخيرنا هناك مكانا جميلا فيؤه ظليل، ونسيمه عليل، على ضفة بركة ماؤها سلسبيل، وبه مقعدان كبيران تظللهما شجرة من الخلاف المتدلي.
لبثنا لحظة سكوتا نفكر في جمال الربيع، وبينا أنا مفتون بهذا الحسن الساحر، إذ عبثت الصبا بغدائر الخلاف المسترسلة فمسحت وجهي كأنها تداعبني وتلاطفني، فالتفت إلى الشجرة فرأيت طيف الشعر فناجاني بصوته العذب: «خذ اليراع والقرطاس ومجد الربيع بما أوحيه إليك من فاتن النفحات.»
سلام زينة الكائنات، وموقظ الأرض من السبات، تحية طيبة يا كاسي العود بقشيب البرود، ومرصع الأشجار برشيق الأزهار، وشذى النوار، ويانع الثمار.
Halaman tidak diketahui
تحرض جميع المخلوقات على الهيام، فتوردها موارد الجوى والآلام، وتطلق ألسنة العنادل والشحارير والبلابل فتصدح بشجي الأنغام، معربة عما يخالجها من ضرام الغرام، وتغري الأزهار فتنفر من براعمها، وتهرب من سجن أكمامها ناشدة عشاقها، من نحل وفراش تعانقها، وترتشف معسول ثغورها.
أي ربيع العيش، ورائد النزق والطيش، ومهلك النفوس والأجسام، ومفسد الألباب والأحلام، يا لك من أعمى أصم، وظالم غشوم لا يرحم، لا يردعك عقل ولا خلاق، ولا يروعك إرهاب ولا إرهاق، أغرك عنفوان الشباب، فضللت محجة الصواب، وانغمست في حمأة الملذات، وشرفك ربك فأبيت إلا أن تماثل العجماوات.
رباه إنك تعلم أنني زللت ربيعي بشكيمة العقل، وقضيت أيامي كلفا بنيل متفاوت المعلومات، وأداء الواجبات، مولعا بمجيد الكماليات، مستبشعا كل لذة جثمانية، مستمرئا الملذات الشريفة النفسية، ولكن النفس لم تبلغ مناها، ولم تؤد من واجباتها منتهاها، فعساك اللهم تطيل أيام صبوتي، وتمد في نعيم صحتي، لأتم فروضي وواجباتي، وفي ذلك هناءتي وسعادتي، ومطمح أملي وأمنيتي. (2) الزمن
سلام أيها الخالد الفتي، سلام أيها العادل القوي، بوركت يا شيخ الحكماء، وإمام الفلاسفة والعلماء!
أنت محيي الفضل ومخلده، ومعلي الحق وممجده، ومزهق الباطل ومبدده، أنكر فضلك الجهلاء، ولعنك ظلما الأغبياء، وما دروا أنك مثقف الأحلام، ومصحح الأحكام، لم يفلح أبواي في تأديبي، ولا أستاذتي في تهذيبي، وكنت وحدك لي خير مؤدب، وأفضل وأعظم مهذب.
كنت بالأمس أظن الجهلاء فضلاء، والوزانين شعراء، والخونة أمناء، والمنافقين أصدقاء، والظالمين أبرياء، والمرائين أتقياء، فرفعت عن طرفي غشاوته، وأزلت عن قلبي غفلته، فتجلت لي الحقيقة بأبهى مظاهرها، وأكمل معانيها.
أيها الزمن! علمتني القناعة فغنيت، ونعمتني بسعادة النفس فهنئت، ودرعتني بالصبر فلم أجزع، وسلحتني باحتمال المكاره فلم أهلع، ورضي عني الناس فارتاح ضميري، وانشرح صدري، فلست مؤملا من دنياي بعد هذا غير رضا الخالق.
لم أنس وقفتك أيها الزمن أمام المأمون وقد سولت له نفسه أن يهدم أثر الفراعنة الجليل، وأنت تضحك منه وتقول له: «ذراعك قصيرة أيها الغر عن أن تنال منه نيلا، ولا تستطيع جميع الأنام أن تدمر ما خلدته الأيام!»
ظهرت النوابغ في عصور كان أهلها والأنعام سواء، فرأى بعضهم أن الانتحار خير وسيلة للتخلص من هذا الخلف المشئوم، والخلق المذموم، وفضل الآخرون اعتزال هاته الأنعام والانزواء في بيوتهم، لتجنب ازدرائهم وسخريتهم.
زمجر الشعر في صدر «توماس شاترتون» وهو غلام، فأصبح وهو في ربيعه السابع عشر شاعرا مجيدا، ولم يؤثر شعره في قومه حتى يكفوه غائلة الجوع، وكان يسخر منه محافظ لندره قائلا له: إنك يا بني عائش في عالم الأوهام، سابح في بحار الخيال والأحلام، وما هذا إلا باطل لا ينفعك ولا ينفع الناس، واعلم أن الله خلق إنكلترا كهيئة سفينة قائمة بمراقبة القارة الأوروبية، وقد انبعث منها مئات مثلها من السفن تمثل دولتها في مستعمراتها، وقد قام الملك واللوردات بجانب العلم والبوصلة والخيزرانة، وأمسكت الأمة بحبالها ومدافعها فلا ترى أحدا وسط هذه المعمعة عديم الفائدة، فأنبئني إذن عما يعمله الشاعر وسط الملاحين.
Halaman tidak diketahui
فأجابه «شاترتون»: «إن الشاعر ليبحث في النجوم عن طريق السفينة التي تشير إليها أصبع الخالق.»
ثم ناوله اللورد ورقة وقال له: «هذه مائة جنيه ففكر في الأمر، فإن هذا المبلغ لا يستهان به.»
تناول الورقة ولم يكد يتم قراءتها حتى جن من الغضب والغيظ، وهرول إلى غرفته التي استأجرها بمسكن «كيتي بيل» صاحبة محل الحلوى الذي دار فيه الحديث بينه وبين المحافظ وبعض رفاقهما، فشرب جرعة كبيرة من محلول الأفيون، فسمع أنينه طبيب فرنسي كان يتردد إلى هذا المحل، فهرول إليه فوجده في الاحتضار وقال له: «أيها الطبيب! اشتر جثتي بديني.» ثم أسلم الروح وهو في ربيعه الثامن عشر، ووجد الطبيب فوق منضدته ورقة كتب فيها: «إنني مدين لرب البيت بثلاثة جنيهات مقابل سكناي عن ستة شهور، وعسى أن لا يأسف المستر «كيني بيل» حينما يبلغه أن طفليه كانا يعطياني في بعض الأحيان شيئا من الحلوى، وكان ذاك قوتي الوحيد.» وبجانب هذه الورقة التي ناولها له اللورد وانتحر بسببها فإذا فيها:
إنني أعرض عليك أن تكون خادمي الأول مقابل مائة جنيه في العام.
لم يجد قوم «جوت» وهو زعيم شعرائهم قولا يطرونه به غير قولهم: «إنه كان جميل الخط ولم يخطئ في الإملاء.»
ولما مثلت أوبيرا «كارمين» للموسيقي الفرنسي الشهير «بيزيه» صفر له الحاضرون صفير الازدراء والسخرية، فاحتم الرجل ومات مكمودا بعد بضعة أيام.
ولم ير الموسيقي الشهير «هايدين» مزية في أبي الموسيقى وأكبر نابغة فيها «بيتهوفن» إلا «أنه يحسن التوقيع على الكلافسان».
اعتزل «بيتهوفن» الناس وبلغ به الأمر أن شك في نبوغه، ولبث خاملا إلى أن مات فقيرا حليف الهموم والأشجان.
لم يكن للمصور الفرنسي الشهير «جيريكو» بين قومه قدر يذكر؛ إذ لم يعترفوا له إلا بأنه «كان يسحق الأصباغ جيدا».
عزى الزمن هؤلاء المنكودين الذين عثر بهم الجد قائلا: «صبرا أيها الكرام، فقد عجزت عن هؤلاء الأنعام، وإن لم يظهر فضلكم اليوم فغدا يملأ الخافقين ويدوي صداه في المشرقين.»
Halaman tidak diketahui
اجتاحت الأيام هؤلاء الطغام، وخلف من بعدهم خلف كريم، هذبه الزمن فمجد هؤلاء النوابغ وخلد ذكرهم، ونشر آثارهم حتى عمت أركان الأرض وأصبحت نموذج الكمال، ومثال الجمال والجلال، وأضحت رفات هؤلاء النوابغ تقول في رموسها: «بوركت أيها الزمن الحكيم، والمنصف البار الكريم!» (3) الزهرة والشيطان الجميل
بعدا أيها الشيطان الجميل! بعدا أيها الفتان الخائن! بعدا أيها الممثل المائن! بعدا أيتها الأفعى التي لان ملمسها وفي أنيابها العطب! بعدا أيتها الكأس التي يلذ للشارب أولها ويقتله آخرها! بعدا أيها النمر الملتحف بجلد المهاة! بعدا يا من يصبغ فؤاده بالرياء والسواد كما يصبغ وجهه بالحمرة والبياض! بعدا يا من كلامه كالعسل وفعله كالأسل! بعدا يا خضراء الدمن ونكد الزمن! بعدا أيها السراب الغرور! بعدا يا جرثومة الشرور!
بلوتك ففررت منك فرار الآبق، حاولت افتناني آونة بجمالك، وطورا بسحرك، وتارة بحولك، وأخرى بحيلك، فما طلت مني طائلا، ولا نلت مني نيلا، ورجعت بصفقة المغبون! وكدت تأكل سبابتك من غيظ وجنون.
لو كنت صادقا في حبك، شريفا في خلالك؛ لكنت ملكا كريما يبث الهناءة أنى سار، يريح القلوب، ويزيح الكروب، وينسي المصائب، وينشط الإنسان على الكدح في دنياه بهمة لا تعرف الملل، وقلب ملؤه الآمال.
هبطت من مقام الملائكة إلى حظائر الأنعام بمحض إرادتك، مفضلا الملذات البهيمية على الملذات الشريفة النفسية، فتمرغت في حمأة الموبقات، بعدما كنت محلقا فوق أزاهير الجنات.
اقتربي مني أيتها الزهرة البديعة فأنت عندي خير من هذا الشيطان الجميل، أنت روحي وريحاني! يفتنني مرآك، وتنعشني رؤياك، أنت لي في وحدتي خير أنيس وأدنى وأخلص جليس! أنت نموذج الجمال! أنت مثال اللطف والبهاء!
لا تخشي مني لمسا يذهب بنضارتك، أو هجرا يقضي على رشاقتك؛ فإنني نعم الوفي الأمين والمخلص البار.
لست من غلاظ القلوب والأكباد الذين يقطعون عنقك دون رحمة ليزينوا بك صدورا قبحتها الشرور، ويثبتوك بإبرهم دون شفقة لئلا تفلتي من العذاب، وسرعان ما تموتين فيطرحونك تحت أقدامهم، وما حملوك حبا فيك بل طلبا للزينة ومأربة لا حفاوة.
إنني أحبك وأغار عليك من النسيم فلربما استرق من شذاك وحمله لقوم لا يستحقون إلا ريح السموم، أو ساق إليك من جراثيمه ما يؤذيك فأحميك في مكنون الحجرات وأخصك بالزلال البارد ولو لم يكن عندي منه غير ما ينقع الغلة، إنني أقنع بمقعد خشن وأوثرك بثمين البلور المزخرف بصفائح النضار، إنني أجلب أصلك من مشارق الأرض ومغاربها بثمن غال، وأخدمك بنفسي وأخصك باحترامي وإجلالي فأنت بهجة النفوس، وريحانة القلوب، ونعيم الدنيا والآخرة.
أنت نعيمي وهناءتي، أنت عزائي في بلائي، أنت جليسي في وحدتي، أنت أنيسي في وحشتي، أنت سلواني في همومي وأحزاني.
Halaman tidak diketahui
فسلام أيتها الزهرة وبركات تترى عليك لتحميك مدى الأزمان من قسوة الإنسان. (4) حضري ريفي
قاسيت من سكنى المدينة آلاما ثقالا، وأعواما طوالا، قضيتها بين ضيق صدر وقلق، ووطأة حر وأرق، لا يتسرب النوم إلى أجفاني وقت الهجير من أناشيد باعة حب العزيز ودفوفهم، وأغاني بائعي الحلوى المثلجة وأبواقهم، وصخب الصبيان ولغطهم، فكنت أهرع في الآصال إلى الخلوات أو ضفاف النيل لأستطيع أن أحضر مسألة أو أحرر كلمة.
أردت أن أيمم الخلوات وأتخير منها مقاما طيبا ساكنا هنيئا بين الحقول النضرة والمياه الجارية والظلال الوارفة والهواء الطلق، في بقعة لا أحتاج فيها إلى سفر يلجئني إلى ركوب قطار أو انتظاره، فعثرت بعد البحث والتنقيب على موطن مبارك بشبرا في أطراف حديقة «شيكولاني»، وجدت فيه دارا فيحاء، يزينها حديقة صغيرة غناء، تعانقها الحقول من جوانبها الأربع، وقد خيم عليها السكون، واكتنفتها الدعة، ورفرف فوقها نسيم الصبا، وصفرت حولها الرياح من زعزع ورخاء، وشمأل ونكباء.
كنت ذات يوم جالسا في طنفي الشمالي أروح نفسي بنفحات النسيم العليل، مسرحا ناظري في مزارع البرسيم الواسعة المزرية ببسط الإستبرق الأخضر، وقد انتثرت فيه الأنعام السائمة من ضأن ومعز وبقر وإبل تجلببت بمختلف الثياب، وبجانب البرسيم حقل زرع برا أوشك أن يدرك وقد افترشته شمس الأصيل فزادت لونه العسجدي توهجا، وطفق النسيم يداعب سنابله حتى أمسى كأنه خضم زاخر مالت عليه الشمس وقت غروبها فجعلته كذوب النضار.
تتهافت السيدات وأبناؤهن - وغالبهم من الإفرنج - على هذه الحقول الفتانة والخلوات الجذابة؛ ليمرحوا ويلعبوا ويغنوا متهللين بذاك النعيم العظيم.
قامت على كثب من هذه الحقول المباركة البقية الباقية من حديقة «شيكولاني»، وقد ضرب حولها سور من حديد، وارتفع وسطها كهف بني بذوق سليم، وعلاه كوخ صنع من سوق النخيل بشكل رشيق يأخذ بمجامع القلوب، تزينه شجرة من «البوجنفيليا» الحمراء، وقد احتضنت أعواد الكوخ وكست جوانب الكهف بغدائرها المسترسلة، وارتفعت وراء هذا الغار أشجار عظيمة من «الفيكوس» كانت له بمثابة ستار أخضر يحجب ما خلفه ويزيده رونقا وبهاء، وقامت على يمينه نخل باسقات مالت عراجينها ببسرها الأحمر والأصفر كأنها غادات رشيقات مسبلات شعورهن وبآذانهن أقراط من نضار وياقوت.
ما أجمل الليل في تلك المواطن وما أحيلى بدره! إذ يتجلى في تلك الفجاج المترامية بسناه الناصع، ولألائه اللامع، بشكل يذهب بالأشجان يثير الشعر في القرائح الخامدة، ويؤجج العواطف في القلوب الجامدة.
أجلس في المساء في طنفي لأروح النفس بنسيم عليل يحمل إلي عرف أزهار حديقتي، فينعشني بأريجه العبق، وتشجيني موسيقى الطبيعة، إذ يبدأ الكروان بغنائه الشجي بعد الغروب، ثم يليه عند إقبال الظلام جوق الجندب بصفيره الرنان، وعلى كثب من ذرانا ساقيتان إحداهما خلفنا والأخرى أمامنا تدوران الهزيع الأول من الليل، وقد تباين صوتاهما فكانت إحداهما تحكي أنين «ألفريد دوموسيه» وقد هجرته خليلته، والأخرى تمثل شكوى «ألفريد دوفيني» وقد خانته حليلته.
وعلى رمية سهم من الجهة الغربية تجري الترعة البولاقية وقد نصبت عليها الشواديف، وحينما يأتي دور المناوبة ويغمرها الماء يهرع إليها الضفدع ويغني بصوته الغليظ كما يجأر في الأذكار سوقتنا بحلوقهم بشكل ينفر منه الدين قبل النفوس.
كثيرا ما أسمع في سكون الليل ألحانا تنبعث حولنا ترددها كواعب غربيات بنغمات توقظ ما سكن من أليم الذكرى، وتثير ما كمن من تباريح الهموم؛ فيتبدل سروري نكدا، ويغرورق طرفي بعبرات تحجب ما يراه من محاسن الطبيعة التي كشفها البدر، فأهرول إلى أعماق الحجر هربا من ذاك الصوت الرخيم، وأستغيث بكتاب قيم ينسيني متاعبي وآلامي، ويخمد في صدري ما هاج من عنيف العواطف وتأجج من مضض الذكرى.
Halaman tidak diketahui
إنني أستيقظ في الصيف عادة في الساعة الخامسة، فأنزل إلى حديقتي؛ لأنعش نفسي بأرجها الشذي، وأمتع طرفي بشروق الشمس وما تفتح من بديع الزهر، ورشيق النور، وأنشط بفلاحة الأرض أعضائي وأعصابي من خمودها الذي عراها من النوم والسكون في حجر مقفلة، ثم أستأنف عملي على الأصيل، وأروي نباتاتي وأمنحها من العناية ما تتطلبه.
أترقب ذكاء عند غروبها لأبتهج بمنظرها الشائق وقت المغيب كأنها درة متدحرجة فوق بساط من زخرف يكاد توهجه يخطف الأبصار، وكأن السماء حولها صحفة أصباغ المصور، أو كأنها حريق صادف وقودا مختلفا فاندلعت منه أعلام من نار تباينت ألوانها، وكأن السحب وهي تحفها أقواس نصر شامخة نصبت لوداع الشمس، وكسيت بألوية من مختلف الديباج، وزينت بورود وأزهار متفاوتة الألوان.
وترى آلافا مؤلفة من الزرازير والعنادل فوق الأيك صادحة للشمس بنشيد الوداع، باكية لفراق يسلمها إلى سجن الظلام بعدما كانت تمرح مغردة متنقلة من فنن إلى فنن، طاعمة من يانع الأثمار وشهي الجنى، مرتوية من لذيذ ماء عناقيد الأعناب.
أيها العيش الجديد، لقد هجت مني ذكرى الطفولة الحلوة وقتما كنت أجوب المزارع والأجران فرحا مرحا كالفراش المتهلل، أركب النورج، وأصيد الأسماك، وأستحم في الترع، وأنسى الغداء مستعيضا عنه بالذرة المشوية في الحقل.
كنت خالي البال عائشا في ظل أبوي أسكنهما الله فراديس الجنان، فيا ليتني لبثت طفلا إلى يومنا هذا وعاش لي أبواي، ولم أدر أسرار الحياة وحقيقة الدنيا ونكد العيش وسوء الحظ.
تلك سنة الدهر فلنطأطئ له الرءوس خاضعين صاغرين، فلا حيلة معه تنفع، ولا حول لنا نجالد به وندافع مع خصم لا يقهر، وجبار لا يشفق ولا يرحم. (5) فراش وفي
تاقت النفس بعد ظهيرة يوم من الخريف، رق هواؤه، وصفت سماؤه، واعتل نسيمه، وغرد طيره، أن تستملي الخيال، وتناجي الوجدان، فضن وجمد، وانطفأ توقده وجمد، فاستغثت بطيف الشعر وهو أعظم رفيق، وأوفى صديق، فناجاني أن لا تطمع مني بنيل ما دمت في مكانك، فإني أنفر من هذا الهواء المسموم، واللغط المشئوم، وموعدنا الأصيل على ضفاف النيل.
ذهبت إلى روض الجزيرة المشرف على النيل، وتخيرت مكانا خاليا بجانب نفق جميل بني بأعواد الأشجار والصخور، وجللته النباتات المتسلقة ببديع أزهارها، ونثرت فوق صخوره نباتات من فصائل مختلفة فكستها ثوبا قشيبا من حسن وبهاء.
وجهت وجهي شطر المغرب لأمتع ناظري بمرأى الشفق الشائق، فانتعشت نفسي من ذاك المنظر الفخم، إذ رأيت فوجا من السحب المربدة فوق الشمس عندما اصفرت من ألم الفراق، فانعكست أشعتها فوق الغمام وازدان بفاتن الألوان، فكأنني أرى قوس قزح وقد عظم حتى ملأ الغرب، أو يخيل إلي أنني واقف في ظلام الليل فوق أكمة من آكام «نابولي» أشاهد منها بركان «فيزوف» وهو يقذف لهبا تندلع منه ألسن عديدة تلون كل منها بلون خاص، وتشكل بأشكال مختلفة، كون مجموعها شكلا بهيجا يعلوه دخان كثيف رمادي اللون كأنه عهن منفوش، أو إطار جميل يحف صورة في الإتقان آية، وفي الجمال نهاية.
وبينا أشاهد هذا المنظر الشائق، إذ رأيت طيف الشعر محلقا فوق رأسي، ثم أسر إلي إنني سأنفحك بنفحات ترضيك فخذ اليراع وصور ما سأسوقه إليك، ثم ودعني وانصرف.
Halaman tidak diketahui
لمحت بعد هنيهة طفلة جميلة كأنها دمية جاد بها بنان «فدياس» تعدو فوق بساط العشب الزمردي وهي تطارد فراشا جميلا كأنه استعار بردا من ذاك الشفق، أو كأنه قطع من وريقات ورود مختلفة الألوان خيط بعضها إلى بعض، أو صفائح الجمان رصعت بزبرجد وياقوت ومرجان، وما لبث أن حط هذا الفراش فوق صدري كأنه يتوسل إلي أن أنقذه من صائدته الرشيقة، فمسحت الطفلة ولاطفتها قائلا: أتبيعينني هذا الفراش المسكين بصورة جميلة تماثلك ولفافة شهية من «الشكولاته»؟ - إنك تخدعني ريثما يفلت صيدي.
ثم منحتها الثمن فتهللت وهرولت إلى مربيتها وطفقت تفاخرها بثمن صيدها.
هدأت روع الفراش وطمأنته وقلت له: إنني أحبك حبا جما فلا أستطيع مفارقتك، فهل ترافقني إلى داري لتعرف مكانها علك تزورني من آن لآخر وتتخذني صديقا وفيا؟ - ذلك ما كنت أبغيه، فإنني مدين لك بحياتي.
ثم رجعت إلى داري وصديقي محلق في العلا متتبع خطواتي إلى أن وافيناها فقلت: أهلا بمثال الرشاقة واللطف، أهلا بآية الجمال والظرف، مرحبا بصاحب البرد المزركش، والطيلسان المرقش، دونك أزهارا نضرة من ورود ونرجس وسوسن وأقحوان، فاقتعد منها ما تشاء، وارتشف ما تشتهي من رحيقها، ثم افتح لي صدرك وخبرني عن سرائك وضرائك. - إننا معشر الفراش خلق فتن بالأزهار والرياض، لا نأكل إلا رحيقها، ولا نشرب غير نداها، نأنس بها وتأنس بنا، وتحبنا ونحبها، وحينما يرانا الإنسان متعانقين يتملكه الحسد وينقض علينا ويسمر جناحينا بإبره ثم يحقننا بسموم تكون لنا قاتلة ومحنطة، ويحفظنا في رموس من الزجاج، ويتخذ من رفاتنا زينة، ومن عفننا ذخيرة، إننا نحسن للإنسان وهو لا يدري، ونعمل له الخير دون أن نعلنه، إذ لا نريد جزاء ولا شكورا، نحن الذين يبدعون له كل يوم من مختلف الثمار ما يلذ له، ومن شائق الأزهار ما يفتنه، نحن وحدنا الذين تفتح لهم عاشقاتهم الأزهار ثغورها لنلقحها من أبناء جنسها، فنحدث لهم ألوانا شتى تسر الناظرين، فيا له من قاس ظالم نعامله بالإحسان ويكافئنا بالعدوان. - هون عليك أيها الصديق البار فقد جبل الإنسان على الظلم والعدوان، وإن أردت أن تتقي شروره فاعتزله واهرع إلى الغابات العذراء، واتخذها لك وحدك جنة تنعم بسكونها وترتشف ثغور زهرها وتنتعش بنسيم صباها وشميم شذاها، وحبذا لو تفضلت وزرتني من فترة لأخرى حتى أنعش النفس بحديثك الحلو، وأمتع الطرف بجمالك المتجدد، وتيقن أنك تجد عندي في كل الأوقات من بديع الزهر ما تشتهي أن تقتات منه وتنعم به.
ليتني أوتيت حريتك وهناءتك! ليتني وهبت جمالك ورشاقتك، فأنتقل من الزهرات إلى الثمرات، ومن العيون الجاريات إلى شائق الجنات، ومن الندى البليل إلى النسيم العليل، تتخذ من ثغور الأزهار مضجعا، ومن وريقاتها المزرية ببديع الديباج غطاء، ومن أوراق الأفنان عرشا وسماء. - سنلتقي قريبا فلا تخش فراقا طويلا أيها الصديق الوفي، والمحسن السخي. - على الطائر الميمون، تشيعك المهج والعيون! سلام يا ملك الجنات! سلام يا مبدع الثمرات والزهرات! سلام يا رب الرشاقة والجمال، سلام يا حلو الشمائل والخلال! (6) الأدب حليف الشقاء
يرتاح روحي ويبتهج فؤادي لقراءة سطور الشقاء وآيات البؤس والآلام ارتياح أذني لسماع ألحان الأشجان، ونغمات التأوهات والأحزان، ويهدأ ثائري وينعم بالي لرؤية تمثيل الفاجعات والأكدار، ومطاردة القضاء ومعاندة الأقدار.
كنت ذات يوم منفردا مهموما مكروبا أستعرض جيوش شقائي، وصور بؤسي وبلائي، لا أجد بجانبي فؤادا رحيما أشكو إليه بثي فيسكن آلامي بكلمة حلوة أو عبرة مترقرقة آنس منها عطفا وإشفاقا.
كبر على الزمان أن يرى بجانبي فؤادا رحيما يتوجع لبلائي، ويتهلل لسعادتي وهناءتي، ويؤنسني في وحدتي، ويسليني في وحشتي، فاختطف أما حنونا بارة صالحة، فذهب بذهابها آخر قلب شفيق وخاتمة العزاء والسلوان والرحمة والحنان.
وبينا أنا مطرق الرأس مسترسل العبرات، إذ شعرت بيد لطيفة تمسح رأسي المطرق، وطرفي المغرورق. نظرت إلى الطارق فإذا هو طيف الشعر بوجهه المشرق وثغره الباسم يقول: «بجانبك كتاب جديد لم تقرأه بعد، وهو خير عزاء، وأجل شفاء.»
أسرعت إلى الكتاب وطفقت أقرأ صحفه بشوق زائد وارتياح عظيم، فإذا هو يسطر تاريخ «ديبورد فالمور» الشاعرة المجيدة الفرنسية مع نخب من قريضها، كانت آية في الجمال ومثالا للرشاقة والرقة، تشجي النفوس برخامة صوتها، وتفتن القلوب ببراعة تمثيلها، وتسحر الحواس برائق شعرها، ورائع بلاغتها.
Halaman tidak diketahui
لم تؤثر جميع هذه المحاسن الخلابة، والشمائل الجذابة، والمواهب العظيمة الفتانة في الدهر حتى يرق لها ويشفق عليها، بل ناضلها بفاجعاته وشقائه نضالا يشيب لهوله الولدان، ولم تجد في مشارق الأرض ومغاربها راحما ينتشلها من وهدة البؤس ويحميها من عدوان الزمان.
فكرت طويلا علي أفهم أسرار الزمان في مطاردته لأهل الأدب وأصمائهم بنبال الشقاء، والألم والبلاء، حرت في أمري فهرعت إلى طيف الشعر مسائلا: أيها الطيف الخالد، والخيال الجواب! لم يعادي الزمن أبناءك الأوفياء، ويسالم الجهلاء الأغنياء؟ - لولا هذا العداء لما اقتعد الأديب هذه الذروة الشماء، يطعنه الزمن بخنجره فيوقظ حواسه الهاجعة؛ فينبعث منه أنين الشعر الساحر كما يطعن الموسيقار مزهره بريشته فينطلق منه صوته الفتان بشجي الأنغام والألحان.
أفاض الله من نوره على بصره وقلبه وسمعه وشمه؛ فرأى جمال الطبيعة وهي عارية، وفهم نظامها وانسجامها، وسمع أنغام طيرها ورياحها، وشم عرف شذاها.
أرسله ربه هاديا للضالين، ومعلما للجاهلين، ومعزيا للمصابين، وملطفا لشقاء البائسين، أيحسد الأغنياء الأغبياء على ما أوتوه من حطام الدنيا وما مثلهم إلا كمثل الأنعام السائمة في المروج الخضراء، لا تدري من الدنيا إلا أن تملأ كرشها وتتمرغ في روثها.
خبر الشعراء أنهم إذا شاقهم تراث الدنيا هبطوا من مقام الملائكة الشريف الأعلى إلى زرب الأنعام النجس الأدنى؛ فينطفئ نور حجاهم، وتغلظ قلوبهم وأكبادهم، قل لهم أن لا يتركوا الشعر يرعد ويبرق في صدورهم لئلا يقضي عليهم وهم في ريعان شبابهم؛ فتحرم الخلائق من برهم وخيرهم.
أنبئهم بأن لا يكظموا أنينهم المطرب، ولا يخمدوا تأوهاتهم المشجية؛ فإنها عزاء لهم ولغيرهم من المنكودين، وتسبيح وتمجيد للخالق، وإن صادفت وقرا في آذان أهل الأرض فسيسمعها رب رحيم عادل. (7) الصداقة
كنت ذات ليلة ساهرا بغرفة مطالعتي أتمم قراءة القسم الأخير من كتاب «سان مار» لفخر شعراء فرنسا وحكمائها «ألفريد دوفيني»، وقد وجدتني من شدة التأثر زائد الحرارة، سريع التنفس، مستجمع الحواس هائج الأعصاب، وكأن حروف الكتاب قد تجسمت أمام عيني حتى خيل إلي أني أراها من وراء منظار، وكنت لا ألبث أن أبدأ الصحيفة حتى آتي على آخرها بسرعة غريبة دون أن يفوتني شيء من خفي معانيها، ودقيق مبانيها، وبعيد مراميها، وما وصلت لآخر الكتاب حتى زاد اضطرابي، وغاب صوابي، واغرورقت عيناي رحمة وحنانا لخاتمة فتيين جنى عليهما قلبهما الشريف الرحيم، وذكاؤهما الحاد العظيم.
ذهبت كالمحموم إلى فراشي، وطفقت أستعرض في مخيلتي صور ما تلوته من آيات البؤس وسطور الشقاء وأليم العذاب ما أخر نومي وأطال سهادي، ثم أغفيت عند تباشير الفجر، وأنقذني النعاس من متاعبي وآلامي فانتقلت إلى عالم الأحلام.
رأيتني سائرا في واد عظيم لم أر مثله في المقام الدنيوي يشقه نهر كبير، تحفه من الجانبين سلسلتان من جبال منحدرة جللتهما رياض غناء، وغابات غلباء، أشجارها كاسية من أزهارها البديعة، وبعضها مثقل بثمارها الدانية اليانعة، تصدح فوق أيكها بشجي أنغامها عنادل وشحارير تجلببت بمفوف الرياش، وقد انتثرت وسط هذه الجنان قصور شائقة شاهقة بنيت جميعها بذوق سليم، ونظام عجيب، وانسجام تام، فكانت لمحة من العين كافية لأن تلم بجميع هذه القصور المبثوثة في سفوح الجبال الخضراء، كأنها منظر من مناظر الطبيعة نقشته ريشة «كورو» وعلق فوق حائط أخضر.
رأيت النهر كالماس في صفائه، واستشف ناظراي قراره، فشاهدت فيه شعب المرجان وأصداف اللؤلؤ، وأسماكا سابحة تبهر الرائي بجمالها وألوانها.
Halaman tidak diketahui
وبينا أنا مفتون بهذا النعيم، إذ شعرت بيد لطيفة مست كتفي من الوراء، فالتفت فإذا هو «دوتو» فعانقني وقال: «مرحبا بذي القلب الرحيم الذي رق لبؤسنا وبكى لمصابنا الدنيوي، هيا بنا إلى قصر «ماريون دلورم» فلربما نجد عندها أغلب الإخوان والأصدقاء.»
صحبته إلى قصر تجمعت فيه أسباب السعادة والهناءة، وانبعثت منه ملذات تسر النواظر وتشنف الأسماع وتفتن القلوب؛ فابتهجت لرؤية «سان مار» وبجانبه خطيبته «لادوشيس دومانتو»، تلك الفتاة الفتانة و«كورنيي» و«ملتون».
استقبلني الجميع بترحاب وشوق، وشكروا ما آنسوه مني من عطف وحنان، ثم أنشأت «ماريون دلورم» تمازح أصدقاءها وتداعبهم برشاقتها المعهودة وجمالها الفتان وحديثها الساحر، فأقبلت من وراء «سان مار» وخطيبته ومسحت خديهما الناعمين بيديها المزريتين بأيدي الدمى قائلة: «الآن وقد التأم شملكما، وكفكفت عبراتكما، وزالت آلامكما، تنعمان بالحب والحرية بعدما كنتما لا تتمكنان من محادثة بعد شق الأنفس في زوايا مذبح الكنيسة وهي مقفرة دون أن يسبقكما عين «ريشليو»، أراكما الآن تقرآن في عيونكما آيات الحب العذري «كبول وفرجيني».»
ثم انتقلت إلى «كورنيي» وقالت له: «قد ارتحت من نكد الدنيا ونسيت نعلك التي كنت تنتظر الإسكاف ريثما يخصفها لك وأنت حافي القدمين، وزالت غضون وجهك وصرت تشنف أسماعنا وتفتن نفوسنا بشعر أبلغ وأرق من شعرك الدنيوي.»
ثم جلست إلى «ميلتون» وقالت له: «الآن وقد نسيت ازدراء خلاني وعدم اهتمامهم بك حينما كنت تقرأ لهم قصائدك في الشيطان ببهو منزلي بباريس، وكيف ألجأك الدهر لأن تكون كاتم أسرار لعات جبار ألجم فاك، وكيف رسفت في أغلال العمى والشيخوخة بعد أن عضك الفقر بنابه فأصبحت الآن ولا هم لك إلا أن تختال في برد شبابك القشيب، وتتنقل في الرياض تنقل الفراش المفتون ببديع الأزهار وجميل النوار.»
رجعت «ماريون دولورم» إلى كرسيها واقترحت على «دوتو» أن يقوم في الجمع خطيبا ويحدثهم عن الصداقة، وقالت له: «إنك صرفت شبابك في دراسة علم الاجتماع والفلسفة والقوانين، وكنت أنت و«سان مار» المثال الوحيد في الدنيا للصداقة والوفاء.» فلبى الأمر وأنشأ يقول: «لم يخلق الله في الدنيا نعمة أجل من الصداقة؛ إذ هي حب مقدس أنزله الله على قلبين طاهرين شريفين متماثلين في الصفات والأخلاق، فأصبحا وقد استنار فؤادهما بنور الله يقرأ كل منهما ضمير الآخر، ويفهم ما يرتسم على جبينه وعينيه من صور السرور أو الهموم، فلا يلبث أن تنعكس هذه الصورة في نفسه، ويشعر بعين شعور صديقه فيتوجع لبلائه ويتهلل لهناءته.
لا صداقة بين صغير وأمير، ولا بين شريرين؛ فما الأولى إلا تمليق، وما الثانية إلا اشتراك في الجرم.
شاهدت في حياتي الأولى أن بعض الناس يتخذون الصداقة التمثيلية وسيلة لنيل مآربهم وقضاء أغراضهم، وما هؤلاء إلا مداهنون منافقون.
كان يكفيني من الصديق عاطفة حنان وحب، ولكني ما كنت لأعثر عليها عند أغلب هؤلاء الأصدقاء، بلوتهم فما وجدت فيهم غير مخلص وفي واحد اعتمدت عليه وشاطرته هناءتي وشقائي إلى أن حز رأسينا ذاك الطاغية الجبار، وأراحنا من آلام الدنيا وفاجعاتها.»
صفق له الجميع تصفيق الإعجاب قائلين: «لا فض فوك أيها الحكيم.»
Halaman tidak diketahui
وافتني «ماريون دولورم» باسمة الثغر، بادية البشر، وجلست إلى جانبي تلاطفني قائلة: «أما يهدأ بالك وترفأ عبرتك مما رأيته من نعيم مقيم، وفرح عميم، فأولى لك بعد ما شاهدته أن لا تتأثر مما تقرؤه من سطور شقائنا وصور بؤسنا وآلامنا، فقد أنستنا هذه السعادة الدائمة جميع ماضينا التعس المنكود.»
وبينا أنا منتعش بهذا الحلم اللذيذ، إذ دوى في أذني صوت مزعج كأنه استغاثة مكروب أو صراخ ملهوف: «خبازي يا ورق العنب.» فانتبهت من سباتي وأسفت لمبارحة هذا النعيم المقيم، والملك الفخم العظيم. (8) جمال الأزهار
تباركت مبدع الكائنات، وبارئ المخلوقات، ومجمل الغبراء بالجنات الغناء، والغابات الغلباء، ومرصع النبات بشائق الأزهار، وفاتن النوار، لقد تجلت قدرتك، وظهرت عظمتك في الزهرة مثال الجمال، ونموذج الحسن والجلال، وآية البهاء واللطف، ومنبع الرشاقة والظرف، كيف لا وقد سقاها الندى بطله المنعش، وحملت إليها الصبا عبيرها الأريج، وأرسلت إليها الشمس من أشعتها العسجدية ألوانا شتى تسر الناظرين.
إنها لنعيم الدنيا والآخرة عند أولي الألباب وفتنة الشعراء؛ إذ هي مبددة أحزانهم، ومسرية أشجانهم، وطاردة وحشتهم، ومفرجة كروبهم، ومفرحة قلوبهم، وأعظم ذكرى لجليل صنع الخالق.
لحا الله فظا غليظ القلب عبث بهذا الجمال، ولم يشفق على تلك الرقة وذاك اللطف، فقطع أعناق الزهر وشد عليه بيد جافية قاسية، ودس أنفه فيه ليشمه فهشمه وأحرقه بأنفاسه المتأججة بنار الشره، ثم يطرحه في مواطئ النعال حينما يسلم روحه إلى الصبا، وجماله إلى الشمس، ونضارته إلى الندى.
مجد الأقدمون الزهر حتى قال اليونان: إن بعضا من العظماء في الميتولوجيا استحال إلى أزهار، إذ رووا أن النرجس كان شابا رشيقا غض الشباب، وهب جمالا ساحرا، وحسنا نادرا، يدعى «نارسيس» فافتتنت به الأرباب الأقدمون والحور، وفي ذات يوم امتد فوق العشب ليشرب من ماء عين رائقة ساكنة، فأبصر نفسه على صفحات الماء، فحاول أن يتملك شخصه الآخر المرتسم على الماء فلم يستطع، فطفق يتخبط من الغيظ حتى مات واستحال إلى نرجسة.
كما أنهم أطلقوا اسم كثير من حسان الحور على بعض النباتات الجميلة مثل: «أماريلليس» و«نيرين»، وكانتا من حاشية «ديان» ربة الصيد، واشتهرتا بحسنهما الفتان. •••
رحت ذات يوم إلى داري بعد انقضاء أعمالي، وكان يوما عصيبا التهب فيه الجو فأصبح كتنور أكلبه السجر وأسعده الوقود، وفرت الصبا من بطش الهاجرة، وأرسلت الغزالة سهاما محترقة صائبة، فرأيت أزهار حديقتي وقد مالت أعناقها، وانقبضت وريقات تويجها، وكاد يكمد زهاء ألوانها، تستغيث وهي صامتة بعبرات استعارتها من قطر الندى، واختلطت برحيقها المعسول، ثم علقت بأهداب الأزهار كأنها أقراط من ماس متدلية من أذن تزري بالورود، فهرولت إليها واقتطفتها بسوق طويلة ووضعتها في آنية بلورية ملئت زلالا باردا، نسيت غذائي وجلست متلهفا بجانبها إلى أن انتعشت وعادت إليها نضارتها وزهاؤها وتصوبت أعناقها، فناجيتها بهذا النجاء:
لبيك أيتها المخلوقات الرقيقة، سعديك أيتها الأجسام الرشيقة، لقد رجعت إليك من أقصى المدينة مسرعا لأنقذك من شر القيظ، إنني أغار على جمالك الفتان فلا ألمسك، ولا أقرب أنفاسي المحرقة من جسمك اللطيف ، بل أقنع بإطالة النظر إليك والإعجاب بمحاسنك الخلابة، وأرضى بما ترسلينه إلي من شذاك مع نفحات الصبا لأمد في حياتك، ويطول نعيمي وهناءتي، وعسى أن يقتدي بي قومي ويرأفوا بهذا البهاء واللطف؛ فإن الزهر لحري بالعناية والحنان، والرحمة والرضوان. (9) الأمل
ألفت النفس منذ طفولتها أن تخلد إلى الدعة والسكون، وتنفر من جلبة الجماعات، وتستبشع هرج الناس ومرجهم في مواسمهم وأعيادهم، وما فتئت تصبو إلى العزلة مؤثرة أن تسامر كتابا قيما أو تناجي زهرة جميلة حتى أصبحت تعد الدار جنتها الفيحاء ونعيمها المقيم.
Halaman tidak diketahui
يا ما أحيلى ليلا ينقذني من نصب الأعمال وقيظ النهار الموهن للقوى والمشتت للخيال ... ما أشهى ليلا سعيدا يسلمني إلى الراحة وينعشني بنسيم عليل يحمل شميم الأزهار، ويقربني من طيف الشعر، ويسكرني بنشوة الأماني والآمال، وينسيني آلاما تتجدد، وشقاء ينتاب ويتردد.
أهرع في الليل إلى طنف اكتنفته الصبا، وامتدت أمامه الرياض والحقول، وسكن إليه القمر فما برح يمر فوقه وينيره.
لاحظت بين النجوم كوكبا دريا ما انفك يطلع فوق رأسي وهو أكبر مما حوله وأشد لمعانا، فصبت نفسي إليه وحسبته نجمها المسير، وطالعها الذي يكتم في صدره أسرارا يتطلع إليها روحي ولا يدري إن كانت خيرا أم شرا.
أقضي هزيعا من الليل وأنا شاخص إلى نجمي المحبوب وهو يبسم لي في تلألئه، وينظر إلي نظرات فاترات ملؤها العطف والحنان، ويرسل إلي من السماء تحية مباركة تكاد تنسيني الوجود وتغرقني في بحار الآمال، وتقتادني إلى لذيذ الأحلام.
قرأت في بسماته الفتانة أنه يناجيني: إنني أكلؤك بعين عنايتي وأبشرك بمستقبل باسم ينيلك آمالك، ويسكن آلامك، وينسيك مصائبك التي لولاها لم تعرف لذة العيش ولا هناءة النعيم.
استمر كوكبي العزيز يؤرجحني بنجائه الفتان، والنسيم يسكرني بعبيره الأريج، حتى تخدرت أعصابي فأغفيت.
فارقت هذه النشوة وهذا النعيم الذي أعده فخما ويراه غيري حقيرا وانتقلت إلى عالم الأحلام، فتمثلت لي مسارح شقائي وصنوف أتراحي وعنائي؛ فتبدل فرحي كربا ونعيمي بؤسا، وبلغت الروح التراقي، فقيض الله لي بعوضة لسعتني؛ فاستيقظت وأنا خافق القلب زائد الحرارة أتصبب عرقا.
وجهت طرفي إلى نجمي وقد خالجني الشك وساورني الارتياب قائلا: أيها النجم الزاهر! يا من هو مثال الحسن الساحر! حاشاك أن تغر منكودا أضناه زمانه وخذله قومه وإخوانه فلم يجد راحما في الغبراء، أو مسليا في الضراء!
أجلك وأنت في عالمك العلوي الطاهر أن تخدع ذلك الكائن الواهي فيسترسل في أمانيه، ويغتر بأضغاث أحلامه وسخيف أوهامه.
أنبئني بمصيري أيها النجم الخالد، فلست ممن يضيع عندهم السر، أو يأسفون على حياة تعسة محوطة بضروب البلاء.
Halaman tidak diketahui
أرح فؤادي من شك يكاد ينهشه وقلق أليم يساوره ويضايقه، وإن كنت تعلم أنه قد حم القضاء وجف القلم فلا تغيير ولا تبديل، فمن علي بضجعة لا يقظة بعدها تريح جسما واهيا، وتغيث قلبا داميا. (10) أيها البدر
هاجت الرياح وثارت السافيات مقلة سحبا مكفهرة من العجاج حجبت الشمس فاغبر وجه الأرض، واستتر جمال الطبيعة ونورها، وغطت زمجرة الرياح على ألحان العنادل والشحارير، وهدير الحمام، وغناء القمري، وحفيف الأشجار داعبتها الصبا، واستكنت الأوانس والأطفال في مغانيها، وانكمشت الأنعام في حظائرها، وأقفرت الرياض والخلوات، ولبس الجو ثوب حداد قاتم.
اعتكفت في داري ولم أتمتع بنصف هذا اليوم الذي أستريح فيه من عناء الأعمال، وطفقت أرقب هذا الجو الأغبر من وراء زجاج الكوى وهو يعبث بأزهار حديقتي ويلوثها بأدرانه، فساورني الضيق والسأم كالسجين المحزون.
ما لبثت السماء أن جادت بغيث هتان بدد الغبار، وغسل الأشجار، وأرجع إلى الأزهار نضارتها وزهاءها، فابتسم وجه الأرض، وصفا الجو، وعاد الطير إلى غنائه متنقلا على الغصون الميادة.
خرجت من سجن الحجر قبيل العشاء وكان الهواء ساكنا هادئا كليالي الربيع؛ فجلست في طنفي وقد أشرق البدر بسناه الناصع المتلألئ كأنه درة وهاجة فوق بساط من إبريسم لازوردي.
كشف البدر ما ستره الغبار، وأظهر جمال الطبيعة وبهاء الزهر الذي نشر عبيره الشذي فأنعشني بسرور وبشر لا يوصفان، ورمى علي أشعته الوضاءة فكساني بطيلسان فضي.
فتنني القمر بجماله الساحر، وخدر حواسي المضطربة من الحبس والضيق، وخيل إلي أن ضوءه الذي جللني يد حسناء فتانة تشفي جريحا ببسمات تخجل وميض البروق، وتمسحه بيدها الملطفة المسكنة.
لم أجد جليسا يؤنسني خيرا من البدر، فأطلت النظر إليه وناجيته بهذا النجاء: أيها البدر المختال بشبابه الغض وفتوته المتجددة! ليت شعري كيف يتمادى الجاحدون في طغيانهم وينكرون آيتك البينة! أمهلتهم من شهر إلى شهر حتى كرت الحقب وهم في غيهم يعمهون.
أيها القمر الجائل! يقولون إن الكواكب هي التي تسير العالم وتتصرف فيه، فسلط زحل على من يجأرون بجحود ران على قلوبهم ليخرس ألسنتهم، ويسلب عقولهم، ويتركهم يتخبطون في البؤس والشقاء.
أيها البدر! سلط سحبك المعتمة لتكون حائلا بينك وبين من أنعم الله عليهم فكفروا بأنعمه وأنكروه.
Halaman tidak diketahui
أيها القمر! حرض كواكبك لتسقط عليهم شهبا ثاقبة تطهر منهم الأرض؛ لئلا تنتشر عدواهم إلى الصالحين.
أيها البدر! أصبح هؤلاء الزنادقة كالجيف تنبعث منها الروائح المنتنة فتسمم الهواء والماء، فأرسل إليهم ريحا صرصرا عاتية تحملهم إلى أعماق الدأماء فلا تذر منهم باقية.
أيها البدر! أشهدك يوم الدين أنني بريء من هؤلاء الشياطين، ولو استطعت أن أجازيهم بما تمنيت لهم لما أحجمت، فأكتفي بصب اللعنات على رءوسهم الممقوتة إلى أن يبطش بهم الجبار، ويساقوا إلى النار، وبئس المثوى والقرار. (11) النور
سلام أيها المثل الأعلى، تحية طيبة يا من هو زين الكائنات، أدامك الله للنفوس بهجة، وللقلوب ملذة، وللعيون مسرة.
سلام وإجلال لمثال البهاء والجمال، سلام يا فخر الكمال، وعنوان العظمة والجلال.
أنت مسير الأكوان، أنت ميزان الزمان، أنت المطلب الأسمى للإنسان، أنت أعظم أمنية للنبات والحيوان، أنت مفرج الكروب ومبدد الأحزان.
تهابك الأشرار، ويمقتك الفجار، وتنفر منك السباع العاتية، والهوام المؤذية.
كثيرا ما تساورني الأحزان، وتطاردني بجيوشها الأشجان، فتبعد النوم عن الأجفان، ويتجافى جنبي عن الوساد، وأقضي ليلي حليف ألم وسهاد، أنشد مفرجا لكربي، ومنجيا من ألمي ووصبي.
ما أطول الليل علي ما لم أنم! إذ لا تعرض علي في ظلمات الليل إلا مناظر الهموم المروعة، ومسارح الآلام الفاجعة، فأظن أن ليلي أطول من دهر، ولا ينفك اليأس يصارع مني الصبر، حتى يصيح الديك بنشيده الفخم، وهو سلوان المكروب، وعزاء المغلوب، والمبشر باقتراب الصباح، وانتهاء نضال الأتراح.
مر هزيع آخر من الليل ولما ألمح تباشير السحر، فعاودني اليأس وقلت: لعن الله الكذب وما أشنعه إذ تسربت جراثيم دائه إلى الطير وأصبح بعض الديكة يؤذن قبل الفجر.
Halaman tidak diketahui
سمعت بعد هدء من الليل مؤذنا رخيم الصوت ينادي: حي على الفلاح، فقلت: أفلح من صدق ولا فض فوك، ولا زال يردد في الليل البهيم صدى ألحانه التي تخفف عن القلوب أثقالها، وتسكن أوصابها وآلامها، وحمدا لله على قرب انتهاء العذاب، وترنمت بقول القائل:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
وما لبث أن بزغ الصباح وأنقذني من عذابي المستمر، فهرولت إلى الكوة ورفعت عنها الأستار وفتحتها وناديت نداء المتهلل الظافر: سلام يا مفرج الكروب، سلام أيها المخلص من الآلام الثقال، سلام يا روح الجمال، سلام يا سر الجلال، سلام أيها النور، ألف تحية طيبة مخضلة ببليل نداك، معطرة بعرف أزهارك، تحملها الآرام الرشيقة السارحة، وتبلغكها العنادل الصادحة.
إنك تتجلى فوق الأشياء فتظهر جمالها الخفي وقبحها المستور المزيف، وتبين خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فبارك الله فيك أيها النور! وخلدك مدى الأزمان والدهور!
أنت الذي تمنح النبات خضرته الزاهية، والأزهار ألوانها البديعة المونقة، وتطلق الطير والحيوان من سجن الليل فتنطلق وقت تبلجك من أوكارها وحظائرها متهللة صادحة باغمة: بوركت أيها النور البار.
تسل صارم سطوتك في وجوه الأشرار، فلا يظهرون وقت تجليك، وتسدد نظراتك الرائعة في وجوه الفجار، فيركنون إلى الفرار؛ خشية الفضيحة والعار.
تتجنبك السباع واثقة من أنك ترشد إليها كل قناص وصياد، وتحذر الأيائل والمها من وثبات الضراري وتمنحها حدة في أبصارها، تكفيها غائلتها وشرورها، وتخاف بطشك الهوام والجراثيم فتستكن في جحورها، وتنكمش في بؤرها.
أنت الذي تنفذ إلى العقول حينما تستغيث بك لحل المعميات فتفيض عليها من النفحات العلوية، والفيوض الربانية، ما يحل عويصها، ويظهر مكنوناتها.
أنت الذي تتجلى على الفكر فتنفحه برائع الخيال، وساحر الشعر، وبليغ القول، وجليل الحكم، فتنطلق الألسنة قائلة : سلام أيها النور، سلام يا مسير الأكوان، سلام يا ميزان الزمان. (12) الظلام
Halaman tidak diketahui
تبت يداك أيها الكافر الباغي! ثكلتك أمك أيها الظالم الطاغي! توالت عليك اللعنات! وصبت فوق رأسك المحن والآفات!
تنقض على الأبرار بدياجيرك المروعة وآلامك ومصائبك الفاجعة، فتعمي منهم الأبصار، وتسد عليهم المسالك ليكفوك شدة المطاردة، ويقفوا بين يديك حيارى أذلاء كسخال وديعة ترتعد أمام ذئب ضار، ثم انقض عليها يبقر بطن هذه ويشق ظهر تلك.
فمثلك كمثل الصائد الظالم يحرض بازيه على ظبية الكناس فيفقأ عينيها دون رحمة، ولو كان له قلب لما استطاع أن يثبت أمام ما تسدده إليه من نبال عينيها الدعجاوين أو يسلم من سحر جفونها الوطفاء؛ فتتخبط المسكينة تخبط من مسه الشيطان وعيناها غارقتان في دمائهما تنشدان دون جدوى نورا يهديها إلى كناسها ويريها جمال آرامها.
ترمي شباكك السوداء على العالم وهو مطمئن فتخرجه من نهر الهناءة إلى لظى العذاب والشقاء، ترسل أعوانك الأشرار إلى الطيبين الأبرار؛ فيسلبونهم نعيمهم، ويحرمونهم هناءتهم، ويعكرون صفوهم.
ما عهدت أعوانك إلا كالخفافيش والبوم ينامون النهار ويقومون الليل، فترشدهم لاختلاس الأموال، وقطع الطرق، وإزهاق النفوس، وهتك الأعراض.
تسلط علينا الشرور كحجر ألقي وسط خميلة أوت إليها الأفاعي فهاجها من منامها، وخرجت غضابا فاغرات أفواهها تنهش كل من تصادفه.
اخترت لك الأشرار والفجار حاشية، والسباع الضارية جندا، والهوام المؤذية تبعا، والجراثيم الفتاكة خولا؛ فتهدم ما بناه النور، وتفسد ما يصلحه.
قاتلك الله أيها الإنسان ما أظلمك! لو آنس منك ربك إنصافا لما أوجد الظلام، عرف منك الجشع والعتو فأرسل إليك الظلام لتسكن فيه وتعطي لبدنك وعقلك نصيبا من الراحة يؤهلهما لمواصلة العمل ومداومة التفكير.
تسدل أيها الظلام وشاحك الأسود على الطبيعة الجميلة المشرقة الحية الناطقة؛ فتستر جمالها، وتطفئ أنوارها، وتقف حركتها، وتلجم أفواهها، وتقطع ألحانها، وتهيج أشجانها، وتثير آلامها.
حنانك اللهم ورحماك! فقد صبرنا على جميع فاجعات الظلام، وتسلط على أموالنا وأرواحنا وأعراضنا وآمالنا، فلا تدعه يتسرب إلى عقولنا التي بقيت لنا من حطام الدنيا فنصبح كالأنعام أو أضل سبيلا ، وإن سبقت به مشيئتك فأمتنا ولا تترك هذا الكافر يشوه خلقك الكريم، يا نعم المولى ونعم الرحيم.
Halaman tidak diketahui
الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
(1) الموسيقى والفلسفة (1-1) مقدمة
نشأت وشبت معي عاطفة تجذبني نحو الكمال والجمال، وما فتئت هذه النفحة العلوية والجذوة الربانية تتوقد في فؤادي ويثور ثائرها كلما تجلى لها الكمال والجمال بأبهى مظاهرهما ومعانيهما في أي كائن كان من صنع الخالق، أو من مبتدعات فنون الإنسان.
أنارت هذه الشعلة بصيرتي وباصرتي، فأصبحت العين تنفذ في أعماق ما يفتنها فترى فيها جمالا ربما كان خفيا لا يدرك معناه كل من رآه، كما أنها لا تعزب عنها عيوب استترت تحت جمال كاذب يغر كثيرا من الجهلاء السذج.
شغفت بالموسيقى وحلت من فؤادي المحل الأرفع، فأصبحت لي في الداء شفاء، وفي الحزن سلوانا، وفي البؤس سعادة ترتاح إليها نفسي وينعم بها روحي.
رويدك أيها القارئ فلا تتهمني بالشطط والمغالاة؛ فإنك لا تلبث أن تسلم بما قلت حينما أرفع لك الأستار وأكشف الحجب عن محاسن تفتن القلوب، وجمال يسلب النهى، وقدرة عظيمة وأسرار مدهشة حجبها جهل فظيع ذهبت غشاوته بالأبصار، وانتقلت أعراضه إلى الآذان فأصمتها، وإلي القلوب فأعمتها، وأصبح الفن عندنا كالحسناء فتك بها الداء الدفين والفقر المدقع، فظلت هائمة على وجهها متسربلة بأطمار بالية سترت ما بقي فيها من آثار الجمال، فنفر منها مريدوها وهجرها محبوها.
اختلجت منذ سنين في صدري فكرة إظهار آيات جمال الموسيقى الخفية وأسرارها العلوية، فوجدتني عيا لا أستطيع أن أجهر بوجدان أشعر به غير كاف للتعبير، فهو وإن كان جله صادقا فإنه يعوزه الدليل القاطع والحجج الدامغة.
أردت أن أستعين بالمؤلفات الإفرنجية فنقبت طويلا فلم أعثر على ضالتي المنشودة؛ لأن هذا البحث لم يطرق إلا حديثا، فصبرت ردحا من الزمن إلى أن وفقني الله للعثور على بعض المؤلفات الجليلة التي تبحث في الموسيقى والفلسفة وكلها لأفاضل المعاصرين، فعمدت إلى دراستها جميعها لإنماء هذا الشعور وتهذيبه، وسأوافي القراء بصفوة ما أحرزته بعد تبويبها حسبما يلائم مشربنا متوخيا أسلوبا جليا واضحا تفهمه العامة قبل الخاصة، لعلي أكون بذلك قد أديت بعضا مما يفرضه علي الواجب الاجتماعي.
ليس المقام مقام بحث في الفلسفة وتعريفها وتقسيمها، ولا مقاما يتناول الموسيقى من الوجهة الفنية والعملية، بل مداره إظهار فضل الموسيقى وأسرارها وعلاقاتها بالفلسفة والشعر، وتأثيرها في الأخلاق والعادات، ونفوذها وقوتها في السحر وتأثيرها في الحيوان.
الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة، بل هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولا للأذهان، الفكرة الموسيقية مظهر لإلهام عام عميق غامض ولكنه مفهوم لدى العالم الإنساني، الموسيقى هي لغة النفس التي تنعم بصفائها وسعادتها ومقرها أرقى من الحياة الحقيقية، وقد قال «لوتير»: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرة الموسيقى وأمنحها الشرف الثاني.» وزاد عليه «بيتهوفن» نابغة الموسيقيين، إذ قال: «الموسيقى وحي أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة، إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى، عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان ولا يستطيع ولوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.»
Halaman tidak diketahui
الموسيقى هي التي تترجم وتنشئ الحالات النفسانية العميقة، بل هي ألطف ما انبعث من العقول، الموسيقى قوة رقيقة لطيفة للحياة الأدبية، إن هي إلا شعور وفكر في آن واحد، الموسيقى هي لغة الحب للأفئدة، بل حلية الخيال وزينة التصور.
الموسيقى لغة غزيرة المعاني خفية الأسرار، توقظ التقوى وتخاطب الشعور مباشرة بغير واسطة، وقال «فاجنر» الموسيقي الطائر الصيت: القلب هو الصوت وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.
وقد أظهر الموسيقي الفرنسي الشهير «بيرليوز» قدرة الموسيقى على التعبير عن الأحوال النفسانية، ومعظم الجزء الخاص بالانتقاد في كتابه يدور على صدق التعبير في الموسيقى، فتراه بمهارته المعروفة قد ازدرى وسخر من توقيع الآلات الموسيقية في الأزمان الغابرة حيث وجد جانبا منها تكملة للعدد تسد فراغا لا معنى له أو تضاعف صوتا تحدثه آلة أخرى، فقال: «إن هذه الموسيقى لا تصلح إلا لترقيص القردة في الأسواق وإسناد الحواة والبهالين وبالعي السيوف والثعابين في أقذر الطرق.»
الموسيقى هي الفن المتداول الذي يستقي مادته من الحياة الاجتماعية، كالنبات يمتص غذاءه من المكان الذي تخترقه جذوره، لا التصوير ولا الحفر متداولان كما أن فن زخرفة البناء في غاية التعقيد ومفعم بالمعلومات الفنية والأثرية وخاضع للاشتغال بالزخرفة أو ضروريات أعمال خاصة ليصبح عملا وقتيا جامعا لعدة أشياء، فهذا الامتياز إذن خاص بالموسيقى وأخيها الشعر.
الموسيقى لها معنيان مختلفان متحدان في شكل واحد كالروح والجسد؛ أحدهما في غاية من السهولة والوضوح، والثاني يفر من الباحث فيه، فهو في الوقت نفسه تقليد لحياة الحب أو الأشياء الظاهرة، ولغة ذات فكرة خاصة بها تهيمن على جميع الأشياء، فهي تشمل في هذا التعبير المزدوج العبارة الشعرية التي تعززها بالحقائق الوافرة، وتكمل الفكرة البليغة بنقلها إلى مستوى أرقى خيالا، وهذا مما يدل على وجود التفاوت التام بين الموسيقى والشعر ... ليس الفرق بين الشاعر والموسيقار قاصرا على أنهما لا يتكلمان بلغة واحدة ولا يخضعان لقانون واحد؛ بل لأنهما لا يفكران بمقدرة واحدة، وهذا التضاد هو الذي يدفع الواحد نحو الآخر ليتمما بعضهما ببعض، وحينما يجتمعان يعضدان اللغة الأصلية ويمنحان أصولها منتهى القدرة فيتغلبان على عواطفنا السامية، ويتمكنان من أن يبثا فينا أقوى وأشرف عواطف التكافل الاجتماعي.
لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ وجدناها في العصور الخالية، وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب»، وجدت في بلاد الكلدانيين وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تلو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات، وقد قدر تاريخها أفاضل العلماء مثل «بواتييه» بثلاثين قرنا قبل الميلاد، ولا مشاحة في أن الموسيقى أقدم من الشعر وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.
ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبيعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها وكشفا لنا فيها عالما مفعما بالعجائب، وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال فتنفحهم مقرا رفيعا غريبا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها.
الموسيقى الشاملة لجميع ما سردناه من المزايا تحدث في النفوس جرحا من الملذات، وتترك فيه مثل رءوس الإبر فلا تنسى هذه الآلام اللذيذة الحلوة.
أجد من العبث أن أسرد عيوب الموسيقى الشرقية وما وصلت إليه من الانحطاط، كما أنه لا فائدة من وصف العلاج الناجع؛ إذ قد بينا أن الموسيقى فن متداول من لوازم الهيئة الاجتماعية، وأنها ترجمان الأخلاق والعادات، فهي مرتبطة بدرجة مدنية الأمة وتسير معها خطوة بخطوة، إما إلى الأمام وإما إلى الوراء، فإن حاولنا أن نرقيها وحدها فمثلنا كمثل طبيب جاهل يريد أن يعالج مريضا فسد دمه وانتشرت على جسده الثآليل باقتصاره على الدهان، فجهل العلة وأراد أن يداوي العرض، وهيهات أن يبرأ عليله وتتحقق أمانيه، هذا والله أسأل أن ينهض بالشرق إلى أعلى الدرجات حتى يبلغ من المجد والكمال غاية الغايات. (1-2) الأصوات والكلام الإلهامي للانفعال النفساني
الصوت الإنساني الذي هو مصدر الكلام الشعري والموسيقى يحرز ثلاث قوى للتعبير، إذ لا يتسنى له أن يكون بالتتابع أو في الوقت نفسه تمثيلا للشعور، أو تمثيلا للأشياء المادية والخارجية، أو تمثيلا للفكرة.
Halaman tidak diketahui