كنت حتى ذلك اليوم زوجة مطيعة لرجل اسمه أمين بك عفيفي، لم أكن أعرف ملامحك معرفة كاملة، فأنا لم أنظر إلى وجهك نظرة كاملة أبدا، ولكني أستطيع أن أميزك من بين الرجال بسبب صلعتك العريضة اللامعة تتوسطها زبيبة سوداء، قالت لي جارتنا إن هذه الزبيبة دليل جسدي على التقوى والصلاح، وتساءلت يومها: ما علاقة قطعة من الجلد الأسود تنمو فوق الجبهة بالتقوى والصلاح؟ فقالت: إنها احتكاك الجبهة الناعمة المتكرر بالأرض الخشنة أثناء الصلاة المنتظمة والسجود الطويل بسبب الخشوع. الحقيقة أن هذه الزبيبة كانت ترتطم بعيني كلما نظرت إليه، والأسوأ من ذلك أنها كانت ترتطم بجبهتي حين كان يحدث بيننا ذلك الشيء، رغم الظلام التام الذي كان يسود حجرة نومنا الذي لم يكن يسمح لي بأن أرى شيئا منك، إلا أن هذه الزبيبة كانت قابلة للرؤية دائما، ربما بسبب لونها الأسود الداكن، أو بسبب بروزها، ورغم المسافة التي كانت تفصل دائما بين وجهينا، ولم يحدث أن عرفت ملمس شيء من وجهك، أو لامست شفتاك خطأ شيئا من وجهي، إلا هذه الزبيبة؛ فقد كانت وحدها ودون تقاطيع وجهك الأخرى قادرة على اجتياز المسافة بين وجهينا وترتطم بجبهتي ككرة من المطاط.
وحينما قال لك الشرطي: «أمين فاضل عفيفي.» تغير لون وجهك، ودهشت يومها؛ لماذا بدا اسمك الثلاثي كالسبة؟ وقلت لي بعد أن انصرف الرجل إن رجال الشرطة «أجلاف» من الريف لا يعرفون كيف يخاطبون الناس، ولم أسألك عن معنى كلمة «جلف»، ولم أستطع أن أعرف ماذا تعني بكلمة جلف. حين سمعتها منك لأول مرة كان لون وجهك متغيرا، وحين يتغير لون وجهك أعرف أنك غاضب أو خائف، وقد استطعت بشيء من التمرين أن أفرق بين لون الغضب ولون الخوف. حين ارتطم بنا الأتوبيس فجأة بأتوبيس آخر، أصبح وجهك لونه أبيض مشوب بصفرة، هذا هو لون الخوف، وحين تغضب وتضرب الخادمة بحذائك القديم يصبح البياض مشوبا بصفرة أيضا ولكنها صفرة مختلفة، أما لون وجهك الأصلي فأنا لا أعرفه.
كنت تقول «جلف» بصوت غليظ كثيف اللعاب، فأصبح للكلمة كثافة مادية جعلتها ترتطم بأذني كما ترتطم الزبيبة بجبهتي، واستطعت أن أستنتج من الحوار الدائر بينك وبين صديقك في حجرة الصالون أن هذا الجلف إنما هو الشاب الجديد الذي عين منذ يومين ضمن مرءوسيك، ودخل مكتبك وناداك بالأستاذ «أمين عفيفي» بدلا من «أمين بك عفيفي». كان صديقك منهمكا في تسليك أذنه بعود كبريت، لكنه قال بعد أن أخرج العود وتأمل طرفه: إن بعض الشباب الجامعيين لا يعرفون كيف يخاطبون رؤساءهم، وإن التعليم هبط هبوطا مزريا، والجامعة لم تعد تعلم شيئا.
كنت أجلس في الصالة، وأنصت إلى حديثك مع صديقك كل ليلة وأنتما جالسان في حجرة الصالون، أصنع الشاي وتدخله الخادمة في الأكواب الصغيرة؛ مرة ومرتين وثلاثا وعشرا، وأنتما لا حديث لكما إلا عن هذا الشباب الجديد، وتعددت صفاته؛ مرة جلفا، ومرة طائشا، ومرة أحمق، أما صفة الجنون فقد حلت به حين همس لأحد زملائه الشباب بأنه غير مؤمن بالعهد، ونقل هذا الهمس بالحرف الواحد إليك أحد زملائه.
لم أكن أعرف تماما ما معنى كلمة «العهد»، وظننت أنه اسم رئيسك بالمكتب، لكني فهمت من الحوار بينك وبين صديقك أن العهد هو أحد أسماء الله سبحانه وتعالى.
وبعد أن ينصرف صديقك تطفئ نور الصالون وتراني جالسة في الصالة أحملق في الظلام، وتذهب إلى السرير فتتمدد بجسدك الطويل الضخم كالتمساح، ولا يكاد يتبقى لي مكان، فأنام في مكاني على الكنبة، إلا في تلك الليلة كل شهر أو شهرين أو ثلاثة، حين تذكر فجأة وبغير سبب أعرفه أنني هناك فوق الكنبة، فتنادي علي بصوت غليظ كثيف اللعاب، وأعرف أن ذلك الشيء سيحدث، وأن الزبيبة السوداء سترتطم بجبهتي، وأن الجسد سيصبح راكدا كالبركة، ولا شيء يسري في القلب، لا ألم ولا فرح، والجلد يصبح باردا ساكنا سكون الموت. كنت أعجب من ساقي كيف يثقلان إلى ذلك الحد وأنا أسير من الصالة إلى حجرة النوم، فيصبح جسدي كله ثقيلا كمريضة أو عجوز يبست مفاصلها، على حين تصبح ساقاي خفيفتين وأنا صاعدة إلى جارتنا، أصعد الستة أدوار دون أن أشعر بساقي أو جسدي ودون أن ألهث؟!
جارتنا، لم تكن وحدها بالبيت، كان هناك شخص آخر يجلس في الركن المظلم، لم أره في الظلام، قلت لنفسي: ربما امرأة. لكنه اتجه برأسه ناحيتي، في تلك اللحظة عرفت لأول مرة الفرق بين الرجل والمرأة، شحنة كالخفقة تسري من القلب إلى الفم في ثانية أو نصف ثانية، ساخنة كالدم تصعد سريعا في ضربة واحدة مؤلمة بعض الشيء، أحسست الألم تحت ضلوعي، ناحية اليسار فوق النصف الأسفل من القلب تماما، هناك في نقطة مستديرة محددة، ليس ألما لكنه يصبح في لحظة خاطفة مؤلما، مثيرا إلى حد الخوف، إلى حد الشحوب، له سعادة حادة كالإبرة تغوص في اللحم، وتسري فوق الجلد قشعريرة كالحمى ترج الجسد.
وقالت له جارتنا بصوتها الخافت إنني حرم أيمن بك عفيفي، ابتسم دون أن يتحرك وقال: أيمن عفيفي الموظف. ولأول مرة أعرف لك اسما ثلاثيا آخر، بدا أيضا كالسبة ولم أدهش كيوم جاء الشرطي، لكني أحسست بخزي، إلى حد أن قطرات عرق بدأت تتجمع فوق جبهتي، وكل قطرة قائمة بذاتها، أحس ثقلها واستدارتها، واحدة بجوار الأخرى، كأنما نما فجأة فوق جبهتي عدد من الزبيب المشابه لزبيبتك.
حاولت أن أدافع عنك، خمسة عشر عاما تحت سقف واحد، وفي كل يوم ثلاث وجبات طعام، كنت ألمحك وأنت تنظر بنصف عين في صحني وتعد الأرغفة قبل أن آكل، لكني دافعت عنك وقلت إنك لست أمين عفيفي الموظف، والأدهى من ذلك أنه أضاف صفات أخرى لم أكن أعرفها، وقص عنك حكايات لم أسمعها، بل إنه حكى أيضا قصة أختك فهيمة والشرطي وقراريطها العشرة التي استوليت عليها، وضحك وهو يصفك حين دخلت مرة إلى رئيسك وقد زررت ثلاثة أزرار فقط من الجاكتة، أما الزرار الرابع فيبدو أنك زررته على عجل حين سمعت الجرس، فإذا به لا يدخل في العروة، أو أن جزءا صغيرا فحسب هو الذي دخل، المهم أنك ما إن مثلت بين يدي رئيسك حتى أصبح هذا الزرار الرابع خارج العروة.
بينما هو يروي لي الحكاية تذكرت حوارك مع صديقك عن هذه الحادثة، وسمعت كلمة أزرار تتردد كثيرا، لكني كنت في تلك الليلة ناعسة لا أتابع حواركما متابعة دقيقة.
Halaman tidak diketahui