ثمن الكتابة
كانت هي الأضعف
نظر ويحفظ
العطش
المقال
حلقة الخيول الدائرية
الصورة
ليس بغلا
الكذب
المربع
Halaman tidak diketahui
الأنف
رجل
الرجل ذو الأزرار
هؤلاء
لا أحد يقول لها ...
بلد غير البلد
ثمن الكتابة
كانت هي الأضعف
نظر ويحفظ
العطش
Halaman tidak diketahui
المقال
حلقة الخيول الدائرية
الصورة
ليس بغلا
الكذب
المربع
الأنف
رجل
الرجل ذو الأزرار
هؤلاء
Halaman tidak diketahui
لا أحد يقول لها ...
بلد غير البلد
كانت هي الأضعف
كانت هي الأضعف
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
Halaman tidak diketahui
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا . - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
Halaman tidak diketahui
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
كانت هي الأضعف
الأصبع الأوسط من دون أصابع يده اليمنى؛ فليس هناك أصبع آخر يصلح، الأصبع الصغير أرفع من اللازم، والإبهام أتخن من اللازم، السبابة ظفرها ميت لا ينمو بعد أن فرمته الفأس، والظفر مهم، ربما أهم من الأصبع؛ فهو الذي سيشق الطريق. وقد ألح على أمه أن يستخدم شيئا آخر أكثر صلابة كبوز العصا الخيزران، لكن أمه زغدته في كفته بأصابعها القوية فتدحرج على الأرض وعجز عن البصق، فلعق التراب بلسانه وهو يتأمل قدمي أمه الكبيرتين تدبان بقوة، وجسدها الفارع المدكوك يهز الأرض، وأصابعها الطويلة الصلبة تلتف حول الفأس وترفعه إلى أعلى كما لو كان عود ذرة جافا، ثم تهوي به إلى الأرض لتشجها كالبطيخة.
قوية كالثور، تحمل على رأسها حمولة أكثر مما تحملها الحمارة، وتعجن ماجور عجين وتكنس وتطبخ وتعزق وتحمل وتلد ولا شيء فيها يكل أو يمل ... رغم أنها أمه التي صنعته من لحمها وشرب من دمها، لكنها احتجزت لنفسها القوة ولم تورثه غير القبح والضعف.
Halaman tidak diketahui
هذه الرغبة العنيفة في أن يلتصق بأمه ويضع رأسه في صدرها ويشم رائحة جسدها لم تكن حبا؛ كان يريد أن يمتزج بها مرة أخرى لتلده مرة أخرى بعضلات أكثر قوة، كان يريد أن يسحب من أنفاسها شيئا من القوة. حين كان يقبلها لم يكن يريد أن يقبلها، ولكنه يريد أن يعضها ويأكل لحمها المدكوك قطعة قطعة، ولكنه لم يكن يستطيع، كل ما كان يستطيعه هو أن يدفس رأسه في حجرها ويكرهها، وأحيانا يبكي، وأحيانا يهرب. تسلل يوما من الحقل آخر النهار، ووضع ذيل جلبابه بين أسنانه، وظل يجري حتى دخل في أرض لا يعرفها وحوطه الظلام من كل جانب، وسمع عواء ذئب من بعيد، فاستدار عائدا جريا إلى داره. ومرة سرق من جراب أمه قطعة من ذات الخمسة القروش، وركب قطار الدلتا ونزل في قرية لا يعرف اسمها، أخذ يسير في شوارعها حتى عوت معدته والتهبت شقوق قدميه، فقطع تذكرة وعاد بالقطار إلى قريته. ومرة سرق قطعة من ذات العشرة القروش وذهب متخفيا إلى حلاق الصحة ووقف أمامه يلهث. - «انطق يا ولد عاوز إيه؟»
وشد لسانه الجاف من سقف حلقه وأخفى أصابعه في جلبابه: «صوابعي ...» - «مالها!» - «مش بتمسك الفاس زي أمي.»
وزغده الرجل في كتفه: «وهو ده عيب يا وله، روح خلي أمك توكلك رطل لحمة وانت تبقى زي الحصان!»
وبكى في حجر أمه الفسيح حتى اشترت له قطعة من اللحم أكلها عن آخرها، وشرب وتجشأ وهو يشعر بدفء ممتع يسري في أصابعه، فقبضها وبسطها وثناها وفردها سعيدا بقدرته الجديدة، لكنه شعر بجفنيه يثقلان، فأغمض عينيه وراح في نوم عميق، ثم استيقظ بعد يومين ليجري وراء الجدار حيث تسربت في أمعائه بقايا اللحم، وتسربت معها القدرة الجديدة.
ولكن لا بد من حل، إن في رأسه عقلا يشتغل، وهو أذكى رجال القرية؛ فهو يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويحل مشاكلهم، ويخطب الجمعة حين يغيب الإمام، ولكن عقله وذكاءه لن يشفعا له؛ فالرجل عندهم جسد قوي وليكن له رأس بغل.
عقله يشتغل لكن عضلاته تتهدل، والأيام تمر واليوم الملعون يقترب، وكل الطرق يجربها ولا تنفع، فيغلق باب القاعة الخلفية على نفسه ويقف يمرن عضلاته، يقبض أصابعه ويثنيها ويفردها ويطرقعها، كل ليلة يتمرن، وأصابعه تنقبض تارة وتلتوي تارة أخرى ثم تسقط.
وحل اليوم، ورأى أمه قبل الفجر تكنس القاعة وترشها، وترص الدكك الخشبية أمام الدار، وحاول أن يتناوم أو يتماوت، لكن أمه زغدته في كتفه بأصابعها المعهودة فانتفض على قدميه، وبدأت وفود الناس تملأ صحن الدار؛ رجال يحملون العصي ويتصارعون ويرقصون، ونساء يرتدين الجلابيب الملونة ويغنين ويزغردن ويقذفنه بأشياء تلسع قفاه، وهو مسمر في الأرض ببلغة جديدة ناشفة تحك أصابع قدميه، وحول عنقه كوفية جديدة يشدها بأصابع متشنجة فيكاد يخنق بها نفسه لولا عضلاته التي تلين كالعجين، وساقاه لا تتحركان وإنما هي دفعات من الخلف ومن اليسار ومن اليمين تجعله يتذبذب، فكأنه يرقص مع الراقصين ويترنح مع المترنحين، إلى أن وجد نفسه على عتبة القاعة، رفع رأسه من فوق صدره ليرى أمامه شيئا عجيبا، شيئا نصفه الأعلى مغطى بشال أحمر كبير، والنصف الأسفل فخذان رفيعتان عاريتان، إلى جوار كل ساق امرأة تقبض عليها بذراعين مفتولين نفرت منهما عروق غليظة.
ظل واقفا على عتبة الباب عيناه تزغللان، وفمه يحاول أن ينفتح ليصرخ، لكن شيئا لا يخرج من بين شفتيه إلا لعابه الذي يجري من زاوية فمه دافئا ناعما كذيل حية لا تعض.
وشعر بأصابع قوية تشبه أصابع أمه تضغط على كتفيه وتجلسه على مؤخرته، وأحس بعض الراحة حين افترشت أليتاه الأرض الرطبة المرشوشة، وظل جالسا مغمضا عينيه في شبه غيبوبة، لكن لكزة أخرى في كتفه جعلته يفتح عينيه ليجد نفسه وجها لوجه مع الساقين المنفرجتين، وأشاح بوجهه بعيدا فلمح بزاوية عينه جمهور الرجال والنساء من خلفه محتشدين في صحن الدار، أبطلوا الطبل والزمر والرقص ووقفوا ينتظرون، عيونهم مفتوحة عن آخرها، ترقب باب القاعة في شغف ولهفة. ولكن لا ... لن يمتع أنظارهم بالفضيحة، إنه ليس أبله، بل إنه أذكى رجال القرية؛ يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويخطب حين يغيب الإمام ... ولا بد له أن يخرج إليهم رافعا رأسه كما فعل كل رجال القرية، بما فيهم ذلك الصبي الأبله الذي يتهته ويريل.
وبسط يده اليمنى وشد أصبعه متقدما به بين الساقين، ولكن ذراعه ارتجفت نافضة عنه الأصبع الذي سقط متهدلا كذيل جرو ميت.
Halaman tidak diketahui
ولم يتوقف، ظل يحاول ويناضل، والعرق الغزير يجري في قنوات وجهه ليصب في فمه، فيلعقه بلسانه وهو يختلس النظر إلى المرأتين الجالستين إلى جواره، وكانت كل امرأة منهما منقضة بجسدها على الساق التي من نصيبها، مشيحة بوجهها ناحية الحائط؛ تأدبا من أن تتفرج على مثل هذا المشهد، أو زهدا في شيء تراه كثيرا، أو استنكارا من أن تصنع من نفسها رقيبا على رجولة رجل لحظة زفافه، أو خجلا أو إشفاقا ... أو أي شيء، المهم أنهما لم تكونا تريانه.
وحرك عينيه ناحية الباب في حذر ليكشف جانبا من الجمهور الواقف المترقب، لمح بطرف عينه الرجل العجوز والد العروس واقفا بالباب عيناه تروحان وتجيئان من باب القاعة إلى وجه الناس في قلق وخوف.
وفرك أصابعه في اطمئنان، الحقيقة لا يعرفها أحد، فالمرأتان لا تريان إلا الحائط وصاحب الشأن مستغرق في القلق على شرفه.
لا أحد يعرف الحقيقة، إلا هي، هي؟ من؟ إنه لا يعرفها، لم يرها أبدا، لم ير وجهها ولا عينيها ولا شعرة واحدة من شعر رأسها، أول مرة يراها الآن، وهو لا يرى عروسا، لا يرى أسنانا، مجرد شال أحمر كبير في نهايته فخذان رفيعتان منفرجتان كفخذي البقرة الكسيحة، ولكنها موجودة أمامه تفضح عجزه، وتنصب قائمتها كالفخ لتصيد ضعفه وفشله، وهو يكرهها كما يكره أمه، ويود لو مزقها بأسنانه إربا، أو صب عليها ماء نار فتنهشها.
ومنحته الكراهية ذكاء وكبرياء، فبصق على الأرض في تأفف ومصمص شفتيه في ازدراء، وشد ملامحه مستجمعا قواه، ونهض من مكانه متمهلا، واستدار إلى الباب رافعا رأسه إلى أعلى، مدليا البشكير إلى أسفل، وخطا خطوة بطيئة ثابتة نحو الرجل العجوز، ورمقه بنظرة استعلاء ثم قذف البشكير في وجهه، نظيفا كما كان، مغسولا كما كان، لم تطأه بقعة دم حمراء.
وتهدلت عينا والد العروس في خزي، وانكمشت رقبته حتى التصق رأسه بصدره، وحف به الرجال من كل جانب متآزرين متكاتفين، ثم استداروا جميعا إلى باب القاعة متحفزين ، وظهرت العروس على عتبة الباب ورأسها الصغير من تحت الشال الأحمر منكس في انكسار، ونظرات نارية منذرة ترشقها من كل جانب.
نظر ويحفظ
إنه جالس على المقعد وأمامه الدوسيه الكبير المفتوح، عيناه مفتوحتان لا ترمشان، والقاعة الكبيرة جدرانها بيضاء، وسقفها عال تتدلى منه نجفة بلورية، والمائدة مغطاة بمفرش من الجوخ الأخضر، وفناجين القهوة تصنع فوقها نصف دائرة، يتوسطها فنجان أكبر تغطيه طبقة كثيفة من البن أكثر كثافة من الفناجين الأخرى، وأكواب الماء مثلجة تكثفت عليها قطرات صغيرة من الماء، وجهاز التكييف يزن في أذنيه كنحلة دءوب، وأصوات عالية خشنة، ورءوس تهتز، وتهتز معها دوائر على الجدران هي انعكاسات الضوء على الصلعات، وأمام الفنجان الأكبر ذي الطبقة الكثيفة من البن جسد كبير له رأس أبيض، يتحرك إلى اليمين فتتحرك الرءوس إلى اليمين وتتحرك معها الدوائر، ودخان السجائر يتصاعد في الجو ويلتف حول النجفة في حلقات صغيرة تبتلعها حلقات أكبر.
وهو جالس على المقعد، يرتطم بأذنه اسم «مدحت عبد الحميد» كحجر مدبب، وتتحرك الشفاه المبللة بالقهوة، وتظهر أطراف الأسنان المصفرة بالدخان: «مدحت عبد الحميد كفاءة نادرة.» ويهتز الرأس الأبيض وتهتز الصلعات اللامعة.
ويحاول أن يفتح شفتيه ويحرك لسانه، ولكن شفتيه لا تنفتحان، ولسانه جاف لا يتحرك، ومرارة غريبة ملتصقة بحلقه كالصمغ، إنه يعرف قصة مدحت عبد الحميد وهي مكتوبة أمامه في الدوسيه، ولكن هل يتكلم؟
Halaman tidak diketahui
وبلل شفتيه ببعض الماء المثلج، وأحس بحنجرته وهي تعلو وتهبط وتحتك بجدار عنقه، ما قيمة أن يفتح شفتيه ويقول شيئا؟ إنهم لا ينظرون إليه، يتكلمون أحيانا بلغة لا يفهمها، أياديهم بضة، أظافرها ناعمة نظيفة، وربطات أعناقهم منشاة قوية كالورق الكرتون، وهم يضحكون ويتبادلون النكات، وهو لا يستطيع أن يضحك، مع أنه يضحك بسهولة مع زملائه في المكتب، ومع زوجته في البيت، ولكن هؤلاء لهم هيبة، نظراتهم تأمره بالصمت، تفرض عليه أن يكون من طبقة أدنى.
ولكن اسم مدحت عبد الحميد يخترق رأسه كرصاصة، مدحت عبد الحميد انطلاقة تحطم اللوائح الجامدة، وتتحرك الشفاه الندية والرءوس اللامعة، أيمكن أن يسكت؟ وفتح شفتيه لينطق الكلمات الملتصقة بحلقه كالصمغ، والمرارة يمتصها جوفه ويمتلئ بها، وتضغط على عضلات بطنه وصدره فيشعر بالغثيان، لكنه غثيان عاجز لا يستطيع أن يطرد ما يريد أن يطرد، غثيان لا يشفى إلا إذا طرد الهواء من صدره، وطرد الدم من قلبه، وطرد معهما الكلمات الملتصقة بالدم وانفتح حلقه بكلمات عالقة كالديدان.
وفتح شفتيه نصف فتحة وأخرج من بينهما بعض الهواء الساخن، أيمكن أن تخرج بعض الكلمات؟ ولكن ما جدوى أن يتكلم؟ إنهم أكبر منه، وهم يملكون قوت عياله، ما قيمة أن يدخل معركة خاسرة؟ ما قيمة قطرة في محيط؟ من هو؟ الرقعة الصغيرة في البنطلون ظاهرة، وربطة عنقه متهدلة، وجلد يديه خشن مجعد وهما يقلبان في الدوسيه، وما قيمة الدوسيه؟
ما قيمة الحقيقة المدفونة؟ مدحت بك عبد الحميد سرق أموال الناس ولكن قريبه مرموق، وعبد الغفار أفندي اكتشف السرقة ولكنه كاتب صغير، التحقيق بدأ وطال وطال، وكيل النيابة اختفى وجاء غيره، أوراق ضاعت وأوراق جديدة ظهرت، وانتهى التحقيق وأصبح عبد الغفار أفندي هو السارق.
وتأمل حلقات الدخان الكبيرة وهي تبتلع الحلقات الأصغر، وخفف المرارة المركزة في حلقه ببعض الماء.
أيمكن أن يدافع عن عبد الغفار أفندي؟ لقد وعده قبل أن يدخل القاعة بأنه سيدافع عنه، ولكن ما جدوى الدفاع، الأكبر يأكل الأصغر في الماء، وفوق الأرض وفي الجو، وإذا فتح شفتيه ودافع عن عبد الغفار أفندي فماذا إذن يكون دور الآلهة؟
وهو ليس إلا موظفا في الدرجة الثانية، له زوجة وتسعة أولاد، كل شهر يؤجل شراء البدلة، وقوته تضعف مع الزمن، وبنطلونه يتهدل، ومع ذلك فكيف سينظر في عين عبد الغفار أفندي بعد الجلسة؟ وكيف سينظر في أعين كل الناس؟ إنهم ينتظرونه خلف باب القاعة، لقد وعدهم بأن يقول الحقيقة، وهز يده في ضيق، لماذا يطلبون منه المعجزات؟ إنه ليس إلها؟ وحرك رأسه باستخفاف، وما قيمة هؤلاء الناس؟ إنهم لا يملكون قوت عياله، إنهم لا يملكون إلا نظرات اللوم والعتاب.
وما جدوى نظرات اللوم والعتاب؟ إنها لا تنتزع اللقمة من فمه، ثم لماذا يقول الحقيقة وحده؟ لماذا هم لا يتكلمون، لا يصرخون، لا يثورون؟ إنهم كثرة، إنهم أغلبية، ولكنهم مشتتون بغير رباط، عصا رفيعة من الخيزران تخيفهم، وكلمة معسولة ترضيهم.
ومد يده إلى فنجان القهوة وابتلع رشفة، والتقطت أذناه اسم عبد الغفار أفندي من الجو، تلفظه الشفاه الندية كبصقة لزجة، الكاتب الصغير الذي خان سيده، هذا الصنف لا أمان له، هذا الصنف لا أصل له، هذا الصنف تربى في الأزقة.
وصعد الدم إلى رأسه: ما دخل الأزقة في السرقة؟ هو أيضا تربى في الأزقة، وليس له أصل، ليس له أقارب لهم وظائف محترمة، وليس له قريب واحد مرموق، ولكنه لم يسرق أبدا، ثلاثون عاما مضت منذ عين في وظيفته وكان يمكن أن يسرق لو أراد، أموال الناس كانت تحت يديه، وحين مرض ابنه الصغير واستدان ساوره الشيطان لحظة، لكنه استعاذ بالله منه وطرد الفكرة من رأسه.
Halaman tidak diketahui
وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا سرق مدحت بك عبد الحميد، وكان يملك عربتين وعمارة وليس له إلا ولدان، لعله مرض أعوذ بالله، أو لعله العين الفارغة التي لا يملؤها إلا التراب.
وسمع الأصوات من حوله تخفت، ورفع رأسه ورأى رأس الأبيض يتحرك، واليد البضة الناعمة تمسك القلم وتكتب القرار الأخير، مدحت عبد الحميد بريء، وتعلقت عيناه بسن القلم، وفتح شفتيه كأنه يلهث، وسمع صوته كحشرجة: «لحظة واحدة يا أفندم.»
وتراجعت الظهور السميكة في استرخاء إلى مساند المقاعد الجلدية، وارتسمت حول الشفاه الندية دوائر كالابتسامات.
ووضع يده في جيبه وأخرج منديله وجفف عرقه، وسمع صوتا غليظا مألوفا يقول: «اكتب عليه: نظر ويحفظ.»
العطش
أرض الشارع الإسمنت تلين تحت قدميها من شدة حرارة الشمس، تلسعها كقطعة حديد منصهرة، فتقفز هنا وهناك، تتخبط كفراشة صغيرة تصطدم بلا وعي بجدران لمبة النور الحارقة، وكان يمكن أن تنحرف إلى الظل في جانب الطريق، وتجلس بعض الوقت على التراب الرطب، ولكن سبت الخضار معلق في ذراعها، ويدها اليمنى مطبقة على ورقة مهلهلة من ذات الخمسين قرشا، تردد بينها وبين نفسها الأشياء التي ستشتريها من السوق كي تحفظها: «نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين قرش، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ، والباقي ثلاثة قروش. نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ، والباقي ثلاثة قروش. نص كيلو لحم ب ...»
وكان يمكن أن تستمر في العد حتى تصل إلى السوق كالمعتاد كل يوم، ولكن عينيها لمحتا فجأة شيئا غريبا، شيئا لم يخطر على بالها قط، وتغلب الدهشة على سخونة الأرض فوقفت تحملق، عيناها مفتوحتان وشفتاها متدليتان، كانت هناك حميدة بلحمها ودمها، تقف أمام الكشك وفي يدها زجاجة كازوزة مثلجة، ترفعها إلى فمها وتشرب منها.
لأول لحظة لم تعرف أنها حميدة، كانت تراها من الخلف وهي واقفة أمام الكشك ولم تتصور أنها حميدة، قد تكون إحدى البنات اللاتي تراهن كل يوم أمام الكشك يشربن الكازوزة، البنات أولاد الناس، اللاتي يلعبن بالكرة والحبل، ويذهبن إلى المدرسة ولا يشتغلن في البيوت، مثل سعاد ومنى وأمل ومرفت وكل صديقات ستها الصغيرة سهير.
كانت تظن أنها إحدى هؤلاء البنات، وكانت ستمضي في طريقها، ولكنها لمحت سبت الخضار، لمحته وهو يتدلى من ذراعها وهي واقفة أمام الكشك، ولم تصدق عينيها فدققت النظر ورأت خصلات شعرها الأكرت تتدلى على قفاها من تحت المنديل الأبيض، هذا هو منديل رأس حميدة، وهذه هي ذراعها يتدلى منها سبت الخضار، ولكن أيمكن أن تكون حميدة حقا؟
وأخذت تفحصها من الخلف فحصا دقيقا، ورأت كعبيها المتشققين يبرزان من الشبشب البلاستيك الأخضر، هذا هو شبشب حميدة الأخضر وكعباها، ورغم كل ذلك لم تستطع أن تصدق، وأخذت تفحصها من جميع الزوايا: من الشمال ومن اليمين، وفي كل مرة ترى شيئا لا يمكن أن يكون إلا لحميدة التي تعرفها: الجلباب التيل الأصفر وفيه شق صغير من الجنب فوق فخذها اليسرى، وفردة الحلق المصدية في أذنها اليمنى، والجرح العميق القديم على صدغها الأيمن، هي حميدة إذن بعينها، بلحمها ودمها، وليست بنتا أخرى بأي حال من الأحوال، ووقفت تتأملها أكثر .
Halaman tidak diketahui
كانت حميدة واقفة أمام الكشك، وفي يدها اليمنى زجاجة كازوزة على سطحها الخارجي تلك النقط المائية الشفافة، لم تكن تشرب بسرعة مثل البنات الأخريات، ولكنها كانت تشرب ببطء شديد، تحوط أصابعها حول الزجاجة تتحسس برودتها في تلذذ، وتظل ممسكة بالزجاجة لحظة، ثم ترفعها في بطء إلى فمها، وتلامس طرف شفتيها بفم الزجاجة، وتلعقه بلسانها ملتقطة كل ما حوله من رذاذ، ثم ترفع ذراعها إلى أعلى قليلا لتميل الزجاجة على فمها ميلا خفيفا لا يسمح إلا برشفة واحدة من السائل الوردي المثلج، وإلى هنا تطبق شفتيها بإحكام شديد محتفظة بالرشفة في فمها بعض الوقت، لا تبتلعها دفعة واحدة، ولكنها تمتصها على مهل حتى تتلاشى في فمها إلى آخر قطرة فيها، مستمتعة أشد الاستمتاع، ملقية برأسها إلى الخلف بعض الشيء، وعضلات ظهرها مسترخية متكئة في راحة على جدار الكشك الخشبي.
إلى هنا لم تستطع أن تقاوم، وكانت قد اقتربت بلا وعي شيئا فشيئا من الكشك ووقفت تحتمي في ظله من الشمس.
فجلست على الأرض ووضعت سبت الخضار إلى جوارها، وعيناها معلقتان تراقبان اللقاء الحار بين شفتي حميدة وفم الزجاجة، ثم الرشف وعملية المص البطيئة، وما يعقبها من استمتاع واسترخاء. وكان التراب ساخنا يلسع ردفيها النحيلين من خلال الجلباب الدمور البالي، ولكنها لم تهتم، كل ما يهمها أن تظل ترى، أن تظل تتابع حركات حميدة حركة حركة بعينيها وأعضائها، فتثني رأسها إلى الخلف كلما ثنت حميدة رأسها إلى الخلف، وتفتح شفتيها كلما فتحت حميدة لسانها، ولكن حلقها جاف ليس فيه قطرة لعاب واحدة، ولسانها ناشف يروح ويجيء ويرتطم بجدران حلقها كالعصا الخشبية، والجفاف يمتد من حلقها إلى زورها ويغوص حتى معدتها، جفاف غريب فظيع لم تشعر به من قبل، كأن الماء تبخر فجأة من كل خلايا جسمها، من عينيها ومن أنفها ومن الجلد الذي يغطي كل أجزائها، جفاف وصل إلى عروقها وإلى الدم الذي يجري فيها فجففه أيضا، وشعرت بآلام حرق في جوفها وتحسست جلدها فشعرت به سميكا جافا مجعدا كجلد السردينة المجففة ، وشعرت بطعم الملح في فمها مرا كالعلقم لاذعا حارقا، وهي تحاول أن تبحث عن ريقها لتبلل شفتيها المملحتين، ولكن طرف لسانها التهب دون أن يعثر على قطرة واحدة، كل ذلك وحميدة لا تزال أمامها تحيط شفتيها بفم الزجاجة المثلجة، وتمتص خلايا جسدها الكازوزة خلية خلية، وحميدة تحمل في ذراعها سبت الخضار مثل سبتها، وفي قدميها شبشب مثل شبشبها، وعلى جسدها جلباب رخيص مقطوع مثل جلبابها، وهي تشتغل في البيوت مثلها.
وارتخت قليلا عضلات أصابعها المطبقة على الورقة القذرة من فئة الخمسين قرشا، وعادت إلى ذاكرتها الأسطوانة التي كانت تحفظها: نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ ويفضل ثلاثة صاغ ... وثمن زجاجة الكازوزة ثلاثة صاغ، غالية جدا، كانت العام الماضي بثلاثة تعريفة فقط، لو وقع هذا الحادث العام الماضي لكان من الممكن أن تفكر في شراء زجاجة، ثلاثة تعريفة ليست قليلة ولكن كان يمكن أن تدبر الأمر، فالكوسة أحيانا بخمسة ونصف، والطماطم بسبعة ونصف، أما اللحم فلا يمكن أن تزيد عليه تعريفة؛ لأنه بالتسعيرة، والست تعرف التسعيرة عن ظهر قلب، ولا يمكن أن يفوتها شيء، حتى بالنسبة للخضار الذي يتغير ثمنه كل يوم فيزيد أو ينقص تعريفة كانت أيضا تعرف الزيادة أو النقصان يوما بيوم، كأنها تحلم بالتسعيرة كل ليلة، وإذا فرض واستطاعت أن تغالطها في تعريفة الكوسة وتعريفة الطماطم، فمن أين لها بالتعريفة الثالثة؟ ليس من السهل أن تدعي أنها ضاعت منها؛ فهذه لعبة لا تخيل على الست الناصحة ذات الصفعات القوية، كما أنها ستلجأ في كل هذا إلى الكذب، والكذب أخو السرقة كما تقول لها أمها: «اوع يا بت يا فاطمة تمدي إيدك على قرش، السرقة يا بنتي حرام وربنا يحرقك في النار ...»
كانت تخاف من النار، كيف يمكن أن تشتعل النار في شعرها ورأسها وجسمها، وإذا كانت لسعة عود الكبريت تؤلمها، فما بال النار تلتهم كل جسدها؟ لم تكن تتصور هذه النار، لم تعرفها، لم تشعر بها، الذي تشعر به هو تلك النار الأخرى التي تحرق جوفها، نار الجفاف والعطش، نار لا يطفئها شيء سوى بعض رشفات من زجاجة الكازوزة، والكشك إلى جوارها تستطيع أن تلمس جداره بكفها، وحميدة أمامها تشرب زجاجة الكازوزة، ولكن كيف تحصل على الثلاثة قروش، أسهل شيء هو أن توزعها بالتساوي على اللحم والكوسة والطماطم، تزيد قرشا على كل منها، كلام أمها لا معنى له الآن، النار التي تهددها بها لم تعرفها، لم تر أحدا يحترق بها أمامها، ربما لا تكون هناك هذه النار، وإذا كانت موجودة فهي بعيدة جدا عنها، بعيدة بعد الموت، وهي لا تعرف متى تموت، ولا تتخيل أنها ستموت يوما.
ونهضت من جلستها تنفض التراب عن جلبابها، ووقفت تتطلع إلى حميدة وهي تفرغ آخر جرعة من الكازوزة في فمها، وتضم شفتيها حول فم الزجاجة لا تود أن تفارقها، وشد الرجل الزجاجة من يدها فتطبع عليها قبلة وداع طويلة قبل أن تنتزعها إلى الأبد من بين شفتيها، ثم تفتح يدها اليسرى في حرص وتعد ثلاثة قروش كاملة.
ارتعدت بعض الشيء وهي تقف أمام الكشك في المكان نفسه الذي كانت تقف فيه حميدة، وهبت من داخل الكشك نسمة رطبة تحمل رائحة الكازوزة، ليحدث بعد ذلك ما يحدث، الصفعات القوية لم تعد تؤلمها فقد تعودتها، والنار التي تحرق لم تعد تخيفها لأنها بعيدة، والدنيا بكل ما فيها من آلام ومخاوف لا تساوي رشفة واحدة من الكازوزة المثلجة.
المقال
الدم الأحمر يصعد متهاديا إلى خديه، ويمشي حثيثا في أصابع يديه وقدميه، دافئا مشبعا بالدفء، من النار المتوهجة شديدة الوهج في قلب المدفأة الكبيرة، والقلم البارد بين أصابعه المحتقنة بالسخونة يتأرجح على صفحة بيضاء يروح ويجيء على سطورها الخالية من الحروف، لا يصنع شيئا إلا خطوطا قصيرة مشرشرة.
وقام من كرسي مكتبه وسار إلى المدفأة وجلس القرفصاء أمامها، وقرب القلم منها ليشيع في جسمه البارد الدفء، وجذبت النار بشدة توهجها عينيه، فحملق فيها متفرسا، شاعرا بخمول عجيب يشبه النشوة أو ألذ منها، وتمنى بينه وبين نفسه لو جلس بقية عمره مقرفصا على هذا النحو إلى جوار تلك السخونة اللذيذة التي تسري في كل فقرة من فقرات عظامه، لكن القلم الممدود بين أصابعه ذكره بالمقال الذي لا بد أن يسلمه للجريدة اليوم، فاستجمع إرادته وعاد متثاقلا إلى كرسي مكتبه، ووضع القلم على الورقة وحاول أن يكتب، لكن سن القلم راح يتأرجح مرة أخرى فوق الصفحة البيضاء، ويرسم عليها خطوطا قصيرة مشرشرة كأرجل الصراصير.
Halaman tidak diketahui
واقتحمت ذاكرته في الحال صورته وهو تلميذ صغير جالس في حصة الأحياء، يرسم أرجل الصرصور وشواربه. كان يكره الصرصور، ويكره حصة الأحياء، ويود لو قفز من السور وهرب من المدرسة، لكن عيني أبيه تطلان عليه من فوق صحن الملوخية تقولان له في استجداء: «اتعلم يا ابني لاجل تكون أفندي لك مقام كبير مثل خالك البيه.» وقفزت أمامه صورة خاله وهو يهبط من العربة السوداء الطويلة، ومعه زوجته البيضاء السمينة ومن خلفهما ابنتهما الرشيقة، ثم يسيرون إلى بيتهم المبني بالطوب الأحمر وهم يتطلعون بازدراء إلى العيال الملتفين حول العربة، ويضعون مناديلهم الحريرية البيضاء على أنوفهم ليحولوا بينها وبين عاصفة التراب التي قامت في الزقاق المترب، ويسمع طفلا يهمس في أذنه وهو يشهق: «خالك البيه!» فيرد عليه بنظرة زهو عالية، ثم يجري نحو خاله ويمد له يده الملوثة بالطين والجميز، ويقول له في انبهار وهو يلهث: «حمد الله على السلامة يا خالي البيه.»
ووقع القلم من بين أصابعه وارتطم بالمكتب، وابتسم لنفسه في سخرية، وهو يتأمل أرجل الصراصير المرسومة على الورقة التي شدت من الماضي البعيد هذه الصور ومسح أنفه بطرف منديله الحريري الناعم، لتطرد رائحة العطر الرجالي الثمين أشباح الماضي الأغبر، ورفع رأسه من فوق المكتب ليتأمل اللوحات الفاخرة على الجدران، واصطدمت عيناه بوجه زوجته الكبير على الحائط، وانقبض قلبه وهو يتأمل الملامح الحادة المثلجة، الأنف الممدود إلى أعلى في تحد وقسوة، والشفتان الرفيعتان المشدودتان اللتان لا يعرف كيف يقبلها، والعينان الزرقاوان السليطتان تشوب زرقتهما أرستقراطية مترفعة منفرة، ومصمص شفتيه وهو يتساءل: ما فائدة الملامح في الزواج؟ وبماذا كانت تفيده ملامح خديجة الحلوة؟ وهربت عيناه من عيني زوجته وهبطت على الورقة، وأمسك القلم ليكتب عنوان المقال، وبخط كبير وفي أعلى الصفحة كتب: «طريقنا إلى الاشتراكية»، ووضع تحته خطا عريضا، ثم أخذ يفكر في بداية المقال، وأصابعه ملتفة حول القلم تضغط عليه كأنما لتعتصر منه الكلمات، والقلم بينها يتلوى ويتأرجح على الورقة ليضع خطا ثابتا تحت العنوان أو ليرسم رجل صرصور، وأصابع يده اليسرى تعبث بذقنه وشاربه، تارة تشد شعره، وتارة تتحسس حفرة ...
ومط عنقه إلى الأمام وهز القلم بخفة، ووضع سنه على الورقة، ولكنه أدرك أن الورقة بما عليها من خطوط وأرجل صراصير لم تعد صالحة للمقال، فكورها بيديه وألقاها في سلة المهملات، وفتح درج المكتب ليخرج ورقة جديدة، لكن عينيه التقطتا كتابا صغيرا بعنوان: «نحو الاشتراكية»، فقبض عليه بيديه، وفتحه بسرعة وبرقت عيناه وهو يقرأ، وقد شعر أن الوحي والإلهام ينزلان به، فأغلق الكتاب وقذف به في الدرج، وسحب الورقة البيضاء النظيفة وانكفأ عليها يكتب: «أنا فلاح ابن فلاح فقير ...»
فقير فشطبها وكتب كلمة معدم، وابتسم في رضا وهو يقرأ: «ابن فلاح معدم»، أجل هذه الكلمة أفضل تؤكد للناس أنه رجل له ماض مشرف.
وسخن رأسه بالحماس، وجرى القلم على الورقة يخلع على رأسه أمجادا لا حصر لها من الفقر، ويكيل على رءوس آبائه وأجداده مفاخر لا حد لها من الحرمان والعدم، وزحزحت حمى الحماس دون وعيه غطاء المخزن الغائر في قاع مخه، المغلق على الذكريات الأليمة، وتسربت من تحته صور دفنت بلا وعي في اللاوعي، وتراءت له أمه بجلبابها الأسود المترب وطرحتها السوداء يتكور طرفها الطويل على عدد من كيزان الذرة، وقدميها المشققتين الوارمتين تحت حلقة الخلخال الحديدية، تنتقلان على الأرض في تثاقل وبطء كخفي الجمل المنهك، وهو بجلبابه الزفير المتآكل ينخل تراب الفرن بأصابعه وركبتاه المدببتان تحت صدره، وصوت أبيه المختنق يدب في أذنه: «يشتغل معي في الحقل.» ويرتفع صوت أمه المنبوح: «لا! سيذهب إلى المدرسة.» ثم يتحشرج فمها لتتثاءب فتقفز شفتها العليا كاشفة عن أسنانها البارزة، وعن مساحة كبيرة من لثتها الحمراء فتظهر أمامه في الحال أسنان خاله البارزة ولثته الحمراء وهو يتثاءب، حين يراه جالسا في ركن الصالة الكبيرة يضم ركبتيه الرفيعتين على أطراف سرواله المشرشر، ويضم شفتيه اليابستين على عواء معدته الخاوية، ويزداد معه عواء معدته فيحرف وجهه إلى الجهة الأخرى متظاهرا بالانشغال عن فم خاله بأي شيء، طاويا في أعماق نفسه شحنات غير محدودة من الكراهية لخاله الذي يجلس على الأريكة الطرية ويتثاءب كالثور الملكوم، ولزوجة خاله التي تتلكأ في الخروج من المطبخ لتدعوه للعشاء، وتسير وساقاها ملتصقتان كالبقرة الحبلى، ولأبيه الغبي الذي لم يحسن في الحياة شيئا سوى عزق الأرض، ولأمه التي حملته دون النساء في بطنها الخاوي فأورثته القبح والفقر، ولكل الناس الذين ينامون على الأسرة ويدخلون المدارس ويدفعون المصاريف، ثم يأكلون بعد كل ذلك حتى يشبعون.
كان يكره كل شيء، يكره المذاكرة، ويكره المدرسة، ويكره التلاميذ، ويكره الشتاء، ويكره الريح الباردة التي تدخل إليه طول الليل من شقوق الجدران، ويكره النهار، ويكره الشمس التي تكوي رأسه طول الصيف، ويكره البواب الذي يطالبه بأجرة الحجرة كل شهر، ويكره السكان الذين يعيشون في شقق محكمة، ويكره المرأة السمراء النحيلة التي تسكن الحجرة الخشبية ويكره طبيخها البايت، ويكره فحيحها البارد تحت عنقه وهي تهمس في أذنه بكلمات قبيحة.
كان يكره كل شيء حتى نفسه والرائحة العطنة الراقدة في ملابسه، وجسمه العنيد الذي ينز دائما بذلك العرق اللزج، وأصابع قدميه المدببة التي تطل دائما من الحذاء، ونظرات الكراهية الصفراء التي تطل دائما من عينيه في المرآة الصغيرة المشروخة، ومعدته الشرهة التي تلتهم في لحظة خاطفة الرغيف والعشر طعميات ثم تنقبض على نفسها الفارغة وتعوي كالذئب.
كان يكره كل شيء وأي شيء ما عدا تلك اللحظة الباهرة العجيبة التي يتكور فيها حول الرغيف والعشر طعميات الساخنة يتشممها ويلعقها بلسانه، ثم يحتويها في فمه ويمصها مصا حتى تذوب في جوفه السحيق وتتلاشى.
وانفرجت شفتاه بلا وعي وفرت من بينهما قطرة لعاب دافئة لم يستطع أن يدركها بطرف لسانه، فسقطت على الورقة تحت يده، وشدت إليها عينيه فمصمص شفتيه بازدراء وهو يقرأ كلمات الفقر والعدم التي كتبها، وكور الورقة في يديه، وألقى بها في سلة المهملات، ثم سحب ورقة جديدة نظيفة وكتب وقلبه ينوء بثقل كبير:
الاشتراكية هي ألا تندفع الريح من شقوق الجدران طول الليل، وألا تسقط الشمس على الرءوس طول النهار، وألا تخرج أصابع الأقدام من الأحذية، وألا تتكدس في أحشاء الناس الكراهية.
Halaman tidak diketahui
وتوقف القلم بين أصابعه، وعاد ينظر إلى الجملة الأخيرة يقرؤها ويتأملها: ألا تتكدس في أحشاء الناس الكراهية؟ وتساءل بينه وبين نفسه: بماذا يكافح الناس إذا لم يكدسوا في أحشائهم الكراهية؟ وأي شيء غير الكراهية علمه الكفاح والإصرار على النجاح؟ وأي شيء غير الكراهية ألهب إرادته، وطرد النوم، وخنق الغريزة، وسلب من خلايا عقله وجسمه استرخاءها ولو للحظة واحدة عابرة؟ أي شيء غير الكراهية؟ وامتدت يده إلى الورقة تكورها وتلقي بها في السلة وتسحب ورقة أخرى نظيفة.
ولكن القلم راح يتأرجح مرة أخرى على السطور الخالية من الحروف يضع الخطوط الصماء، أو يمارس هوايته الأصلية في رسم الصراصير المشرشرة، والكلمات لا تريد أن تخرج، كأنه لم يكتب أبدا، مع أنه كثيرا ما كتب، وكثيرا ما ملأ الصفحات في المجلات والصحف؛ أن يضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة بجوار الجملة، لم يكن أبدا عسيرا عليه، إن اسمه طويل عريض يحتل عرض الصفحة، وإن ثقافته واسعة ممتدة من المدرسة الإلزامية إلى ماجستير حقوق، وهو يحفظ عددا كبيرا من الكلمات المثقفة والمصطلحات الجديدة. ومط عنقه إلى الأمام في اعتداد وثقة، وتعجب كيف ضيع كل ذلك الوقت في كتابة كلمات سوقية بسيطة يكتبها أي شخص لم يحصل من الثقافة ما حصل، ولم يحفظ من المصطلحات ما حفظ.
وحوط القلم بأصابعه في ثقة وضغطه على الورقة وكتب:
إن المرحلة الثورية التي نجتازها تتطلب الجمع بين الأيدولوجية المتبلورة الأصلية والعمل التطبيقي في إطار القوانين العامة للعالم المنطلق نحو آفاق المستقبل الاشتراكي.
ووضع القلم على المكتب ومسح أرنبة أنفه بالمنديل الحريري تفوح منه رائحة العطر الرجالي الثمين، وتأمل الكلمات التي كتبها وهو يمط عنقه إلى الأمام في زهو، وتثاءب وفرد ساقيه وذراعيه وتمطى في ارتياح، ونظر إلى الساعة ثم طبق الورقة بسرعة ووضعها في جيبه، ونزل إلى الشارع، ورأى الصبي الصغير يجري إلى العربة الطويلة ليفتح الباب، ودخل إلى العربة وجلس ليدير المحرك، ورأى الصبي الصغير يلمع زجاج العربة بحماس ثم يقف في عرض الشارع ليراقب المرور حتى هدأ، وأشار له أن يسير مقبلا نحوه باسطا يده، فضغط على دواسة البنزين بقوة وانطلقت العربة كالسهم في الشارع الواسع.
وفي المرآة الصغيرة التي أمامه رأى الصبي الصغير يتراجع إلى الوراء ويده لا تزال مبسوطة إلى الأمام، وفي عينيه نظرات يعرفها، نظرات ظلت تطل إليه سنين طويلة من مرآته الصغيرة المشروخة.
حلقة الخيول الدائرية
الشبه كبير بينها وبين الخيول، لكنها ترفع قائمتيها الأماميتين إلى أعلى فتبدو وكأنها تدور على قائمتين اثنتين، وفي الوسط واحد منها، لماذا هو بالذات في الوسط؟ إنه لا يختلف عنها، القائمتان الأماميتان مرفوعتان إلى أعلى فلا تلمسان الأرض، بل ترتفعان فوق الركبتين وتتدليان على الجنين كاليدين، هو تماما مثلها، لكنه في الوسط، في مركز الدائرة، ولا أحد يقترب منه، الكل يدور في المحيط الخارجي، وجهه ناحيته ينظر إليه ولا يرمش، يقف حين يقف، ويدور حين يدور، ويهز رجله حين يهز رجله، ويطرقع بحافره حين يطرقع، ويميل بمؤخرته إلى اليمين أو الشمال فيميل.
والمتفرجون جالسون في مقاعدهم، الصفوف الخلفية ترى ظهور الصفوف الأمامية، والصفوف الأمامية ترى ظهور الخيل، الكل لا يرى إلا ظهورا، والظهور مقوسة تظهر منها فقرات العمود الفقري واضحة ومدببة تؤلم العين، وحركة الدوران تؤلم العين، والمقاعد الخشبية تؤلم الفخذين، والملعب كبير واسع مستدير بغير سور يمنع الهواء البارد.
الهواء البارد يطرد النوم، والمتفرجون ينفخون في أيديهم ليدفئوها، والحوافر تصطك بالأرض، الصوت المنتظم يتبع الحركة، والحركة على شكل دائرة. الكل في المحيط الخارجي، وواحد فقط في الوسط، واحد فقط لا يختلف عن الكل، فالقائمتان الأماميتان مرفوعتان إلى أعلى متدليتان على حافة البطن بلا عمل، والقائمتان الخلفيتان هما فقط اللتان تدوران كالخيول تماما حين ترقص أو حين ترفس، لكنها ليست خيولا، فالوجوه ملوية ناحية الوسط والظهور ناحية المتفرجين، والمتفرجون سئموا منظر الظهور وغلبهم النوم فوق المقاعد الخشبية لولا الهواء البارد الذي يلفحهم.
Halaman tidak diketahui
الصورة
كان كل شيء يمكن أن يستمر كما كان في حياة نرجس، لولا أن يدها اصطدمت صدفة بظهر نبوية فارتطمت أصابعها بكرة طرية من اللحم، ورأت عيناها المندهشتان بروزين صغيرين يهتزان تحت جلبابها مع اهتزازات ذراعيها وهي تغسل أمام الحوض، لأول مرة تكتشف أن لنبوية ردفين، نبوية التي جاءت إليهم من البلد العام الماضي خادمة صغيرة جسمها ناحل كعود الذرة لا تكاد تعرف ظهرها من بطنها، ولولا اسمها نبوية لظنت أنها ولد.
ووجدت نرجس نفسها أمام المرآة في حجرتها، واستدارت حول نفسها أمام المرآة، واتسعت عيناها في دهشة حين رأت بروزين صغيرين يهتزان تحت الفستان، وامتدت يدها في استطلاع تستكشف ظهرها، واصطدمت أصابعها المرتجفة بكرتين طريتين من اللحم! هي أيضا نما لها ردفان؟!
ورفعت فستانها من الخلف لتكشف عنهما، ولوت رأسها لتراهما من الناحية الأخرى، لكنهما كانا يدوران مع جسمها ويختفيان وراءها، وحاولت أن تثبت نصفها الأسفل أمام المرآة وتدور بعينيها دورة كاملة حول جسمها، لكنها لم تستطع، كان رأسها يلف فيلف معه نصفها الأعلى، وكلما دار نصفها الأعلى دار معه نصفها الأسفل، وشعرت بشيء من الاستغراب أنها لا تستطيع أن ترى نفسها من الخلف، على حين أنها تستطيع أن ترى نبوية من الخلف، وخيل إليها في تلك اللحظة أنها اكتشفت محنة جديدة للإنسان؛ ذلك أنه لا يستطيع أن يرى جسمه الذي ولد به، والذي يحمله معه في كل مكان وفي كل وقت كما يستطيع أن يرى أجسام الآخرين.
وخطرت لها فكرة سريعة أن تذهب إلى المطبخ وتطلب من نبوية أن تنظر إلى ظهرها، ثم تصف لها ردفيها بدقة؛ ما شكلهما؟ هل هما مستديران أم بيضاويان؟ هل هما يهتزان وهي واقفة أم حين تسير فقط؟ هل هما بارزان وملفتان للنظر أم أنهما لا يلفتان النظر؟
وهمت أن تذهب لكنها توقفت، أيمكن أن تطلب من نبوية مثل هذا الطلب؟ نبوية الخادمة التي لم تكن تبادلها الكلام، كانت تصدر إليها أوامر أبعد ما تكون عن الكلام، وكانت إجابات نبوية بحاضر أو نعم أبعد ما تكون عن الإجابات، وإنما هي ردود فعل تلقائية تتتابع بانتظام بنفس السرعة ونفس الدرجة من الارتفاع كذبذبات الآلة سواء بسواء.
وشعرت بشيء من الغيظ وصممت على أن ترى ظهرها بنفسها، فشدت فستانها فتعرت تماما من الخلف وثبتت قدميها في الأرض، ولوت رأسها ودارت بعينيها حول جسمها، لكن رأسها ما لبث أن توقف عن الحركة ولم تكمل عيناها الدورة حول نفسها، وشدت عضلاتها بقوة وحاولت أن تلوي رأسها مرة أخرى، وبينما هي تدور برأسها أمام المرآة وقد تعرى ظهرها عن آخره، اصطدمت عيناها بعيني أبيها فارتجفت، كانت تعرف أنهما ليستا عينيه الحقيقيتين، وإنما هي صورته المعلقة على الجدار، لكن جسدها الصغير ظل يرتجف حتى شدت الفستان وغطت ظهرها، ولم تستطع أن تحول عينيها عن عينيه، كانت تريد أن تراهما بما فيه الكفاية وأنها تريد أن تراه أكثر، ثلاثة عشر عاما منذ ولدت وهي تراه كل يوم من الخلف فقط، حين يكون ظهره ناحيتها تستطيع أن ترفع عينيها وتتأمل قامته الطويلة العريضة، لم ترفع عينيها في عينيه مرة واحدة، ولم يحدث أن بادلته النظرات أو الكلام، إذا نظر إليها أطرقت، وإذا وجه إليها كلاما لم يكن كلاما وإنما توجيهات وأوامر ترد عليها بحاضر أو نعم في تتابع آلي وطاعة عمياء؛ حين أمرها أن تترك المدرسة وتبقى في البيت، تركت المدرسة وبقيت في البيت، وحين أمرها ألا تفتح النوافذ لم تفتح النوافذ، وحين أمرها أن تتوضأ قبل أن تنام لتحلم أحلاما شريفة، أصبحت تتوضأ قبل أن تنام وأصبحت تحلم أحلاما شريفة.
وظلت عيناها مشدودتين إلى عينيه، تريد أن تنظر إليه ولا تطرق، أن تثبت عينيها في عينيه وتراهما وتعرفهما وتألفهما، لكنها لم تستطع، كانت هناك مسافة دائما تبعد عينيها عن عينيه فلا تستطيع أن تراهما عن قرب رغم أن أنفها كاد يلامس الصورة، وبدا لها وجهه كبيرا وأنفه ضخما مقوسا وعيناه غائرتين واسعتين تكادان تبتلعانها، وأخفت وجهها بيديها، وعاد إلى ذاكرتها المكتب الكبير، ومن خلفه ارتفع أنف أبيها المقوس من بين الأوراق الكثيرة، يتطلع من حين إلى حين إلى ذلك الطابور الطويل من الناس الذين وقفوا أمامه وعيونهم شاخصة إليه في استجداء وخشوع، ويهتز رأسه الكبير بين أكوام الورق، وتلتف أصابعه الطويلة الغليظة حول القلم ويجري به على الورق في سرعة شديدة، وتضم ساقيها الرقيقتين الصغيرتين وهي جالسة في الركن وتنكمش حول نفسها كاتمة أنفاسها، أيمكن أن تكون ابنة هذا الرجل العظيم؟ وحين كان أبوها يقف ترتفع قامته الطويلة العريضة من وراء المكتب ويكاد طرف أنفه العالي يلامس السقف، ويرتفع رأسها في زهو وهي تسير إلى جواره في الشارع وتكاد ترى العيون كلها متجهة إلى أبيها، والشفاه كلها حين تنفرج إنما هي تنفرج بالدعاء لأبيها، وتكاد أذناها الصغيرتان تلتقطان همسا خافتا يدور دائما بين الناس السائرين في الشارع، هذا هو صاحب الأمر والنهي وهذه هي ابنته نرجس التي تسير بجواره، وحين يجتازان الشارع يمسك أبوها يدها في يده، وتلتف أصابعه الكبيرة حول أصابعها الصغيرة؛ فيخفق قلبها، وتتلاحق أنفاسها، وتميل برأسها لتلثم يده، وما إن تلامس شفتاها يده الكبيرة المشعرة حتى تنفذ إلى أنفها تلك الرائحة القوية، رائحة أبيها المميزة، لا تعرف تماما ما هي، ولكنها تشمها في كل مكان يوجد فيه، وحين تدخل حجرته تشمها في كل أنحاء الحجرة وفي السرير وفي الدولاب وفي الملابس، وأحيانا تدفن رأسها في ملابسه لتشمها أكثر وأكثر، وقد تقبل ملابسه وتلثمها وتركع أمام صورته الكبيرة فوق سريره وتكاد تصلي، ليست تلك الصلاة العادية التي تؤديها بسرعة لإله لم تره أبدا، ولكنها عبادة حقيقية وإله حقيقي تراه بعينيها وتسمعه بأذنيها وتشمه بأنفها، وهو الذي يشتري لها الطعام والملابس، وله مكتب كبير وأوراق كثيرة يعرف كل ما فيها، وقضى للناس حاجاتهم، وفوق كل ذلك يكتب بالقلم بسرعة تخطف البصر.
ووجدت نرجس نفسها راكعة أمام الصورة كأنما تصلي، فنهضت وهي مطرقة إلى الأرض في خشوع، ولثمت يده كعادتها كل ليلة قبل أن تنام، وبينما هي تستلقي على ظهرها احتك ردفاها البارزان بالسرير فسرت في جسدها رعدة لذيذة جديدة، وامتدت أصابعها المرتجفة تتحسس ظهرها. كتلتان مكورتان من اللحم تنحشران بينها وبين السرير، وانقلبت على وجهها ليزول إحساسها بهما وتنام، لكن ردفيها ارتفعا في الهواء ضاغطين بثقلهما على بطنها، وانقلبت على جنبيها لكنهما ظلا يحتكان بالسرير مع كل حركة شهيق أو زفير، وتوقفت عن التنفس لحظة لكن أنفاسها ما لبثت أن تتابعت وتلاحقت بسرعة جعلت جسمها الصغير ينتفض في اهتزازات سريعة ويهز معه السرير محدثا صريرا خافتا، خيل إليها في سكون الليل أنه مسموع وأنه يصل إلى أذني أبيها النائم في حجرته، والذي سيعرف بلا ريب مصدره وسببه الحقيقي.
وارتعدت لهذه الفكرة وحاولت أن تكتم أنفاسها ليكف السرير عن الصرير، وكادت تختنق لولا أن الهواء اندفع بقوة داخل صدرها فارتج جسمها ارتجاجا شديدا، وارتج مع السرير وهو يزعق في سكون الليل بالصرير الغليظ، فقفزت خارج السرير.
Halaman tidak diketahui
وما إن استقرت بقدميها على الأرض حتى كف السرير عن الصرير، ولم تعد تسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة، التي أخذت تهدأ شيئا فشيئا حتى هدأت تماما، وما إن عاد السكون إلى حجرتها ككل ليلة حتى تذكرت أنها لم تتوضأ قبل أن تنام، وشعرت بشيء من الراحة حين اكتشفت سبب تلك الأحاسيس الآثمة التي تسللت إلى جسدها غير الطاهر.
وبينما كانت نرجس واقفة أمام الحوض تتوضأ وهي تبسمل وتحوقل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، التقطت أذناها صوتا خافتا ينبعث من وراء باب المطبخ، نبوية لم تنم حتى الآن؟ ودفعت باب المطبخ برفق، لكن الباب لم يفتح، ووصل إلى أذنيها الصوت الخافت مرة أخرى، فوضعت أذنها على الباب وسمعت بوضوح صوت أنفاس تتلاحق بسرعة واضطراب، وابتسمت وهي تحس شيئا من الراحة ؛ نبوية مؤرقة مثلها تستكشف ردفيها الجديدين! وتحرك رأسها بغير وعي فوق الباب، فأصبحت عيناها على الثقب ونظرت داخل المطبخ، كانت الكنبة الصغيرة التي تنام عليها نبوية خالية، وأبصرت شيئا يتحرك على أرض المطبخ، دققت فيه النظر، واتسعت حدقتا عينيها وهما تستقران على كتلة عارية من اللحم تتدحرج على الأرض ولها رأسان: أحدهما رأس نبوية بضفائرها الطويلة، والآخر رأس أبيها بأنفه المقوس العالي! كان يمكن في تلك اللحظة أن تسقط على الأرض بعيدا عن الثقب، لكن عينيها ظلتا فوق الثقب وقد التصقتا به التصاقا وكأنما هما جزء منه، وتجمدت نظراتها فوق الكتلة الكبيرة العارية وهي تتدحرج، فيصبح رأس نبوية على الأرض ويرتطم بصفيحة الزبالة ويرتفع رأس أبيها إلى فوق ويخبط في قاع الحوض، ولكن سرعان ما يتبادلان المواقع فيرتطم رأس نبوية بقاع الحوض ويهبط رأس أبيها إلى حيث صفيحة الزبالة. ثم ما لبث أن اختفى الرأسان تماما بين الحلل، ولم تعد ترى إلا أربع أقدام بأصابعها العشرين تنتفض في ارتعاشة سريعة، وقد تشابكت والتحمت بعضها بالبعض في شكل عجيب كأنما هي حيوان مائي متعدد الأذرع أو أخطبوط.
لم تعرف نرجس كيف انفصلت عيناها عن الثقب، وكيف عادت إلى حجرتها ونظرت في المرآة، كان رأسها الصغير ينتفض ويدور حول جسمها في اهتزازات سريعة، واصطدمت عيناها الزائغتان بردفيها البارزين وهما يصاحبان جسمها في اهتزازات سريعة قوية، وامتدت يدها بغير وعي تكشف ظهرها عن آخره وهي ترمق وجه أبيها بطرف عينيها، وكادت الرجفة القديمة تسري في ذراعها فتشد فستانها وتغطي نفسها، لكن ذراعها لم تتحرك، وظلت تحملق في وجه أبيها دون أن تطرق. كانت عيناه الواسعتان جاحظتين، وأنفه المقوس الحاد يشطر وجهه شطرين، وقد التصق بطرفه المدبب العالي خيط طويل من العنكبوت يهتز مع نسمة الليل المتدفقة من خلال الشيش.
واقتربت نرجس من الصورة ونفخت العنكبوت عن أنف أبيها، لكن رذاذ لعابها انتشر فوق الصورة والتصق العنكبوت بوجه أبيها، وحاولت أن تنفخه مرة أخرى لكنه التصق أكثر، وامتدت يداها بغير وعي وبأظافرها الطويلة الحادة راحت تنزعه فعلا، لكنها كانت تنزع معه أيضا ورق الصورة الذي تبلل بلعابها وتساقط من بين أصابعها إلى الأرض فتافيت صغيرة.
ليس بغلا
لم يكن فاقدا للوعي، كان يعرف كل ما يدور حوله، ويرى ويسمع الأصوات واضحة حادة، ربما أوضح من أي وقت آخر، لكنه لم يكن يتحرك، وربما لم يكن يبدو للعيان أنه يتنفس؛ فصدره لا يعلو ولا يهبط. حقيقة، كان صدره لا يعلو ولا يهبط، لكنه كان يتنفس في الخفاء. كيف كان يتنفس في الخفاء؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون حركة أو صوت؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون أن تهتز الشعيرات الرفيعة على فتحتي أنفه؟ لا أحد يعرف ولا هو نفسه يعرف. أشياء كثيرة أصبح يفعلها دون أن يعرف كيف يفعلها، قوى جديدة غريبة اكتسبتها بعض أعضاء جسمه هكذا بالغريزة دون وعي أو تدرب، الجدار العالي بعد يوم واحد أصبح يعرف كيف يتسلقه، كيف يقفز إلى أعلى قفزة واحدة هائلة ترفعه إلى الطاقة الحديدية، فيمسك فيها بكل قوته ثم يرفع جسمه إلى فوق على عضلات يديه؛ ليطل من بين القضبان على ذلك الجزء الصغير المربع من السماء.
كيف كان جسمه يتمدد وينكمش، ويتصلب ويرتخي، ويختفي ويظهر، وفقا لإشارات أو نظرات أو أصوات معينة، بل كيف كان أن يخرج منه عضو جديد كالأميبا أو وحيدة الخلية إذا لزم الأمر، لا أحد يمكن أن يصدق أن جسمه هذا الذي حمله أكثر من عشرين عاما وعرف ثقله وكثافته وقدراته يمكن أن يتغير بهذا الشكل وبهذه السرعة فكأنه ليس جسمه، كم من مرة وضع الرسالة المطوية بين اللثة والصدغ، ومر من جوار الحارس ناظرا إلى الأمام موحيا إلى جسمه بكل إرادته وبكل غريزة البقاء فيه ألا يرى فلا يرى.
لم يكن غريبا إذن أن يتنفس وصدره ساكن، ويسحب الهواء دون أن تهتز شعيرات أنفه، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعله حيا، فما إن يتوقف صدره عن الحركة وتتوقف شعيرات أنفه عن الاهتزاز حتى يتوقف ذلك الصوت الغليظ الذي يدوي في الهواء ثم يهوي مرتطما بشيء صلب. له طراوة اللحم، وله إحساس معين يحسه ويعرفه، ليس ألما مبرحا بل ليس ألما على الإطلاق، وإنما أشبه ما يكون بالضغط أو الشد، وهنا أيضا يكتسب الجسم قدرة خارقة عجيبة، يكتسب القدرة على عدم الإحساس بالألم، كأنما الشومة الغليظة التي ترتفع في الهواء ثم تهوي لا ترتطم بجسمه هو وإنما بجسم آخر منفصل عنه، لكنه قريب منه، قريب إلى حد أنه قد لا يكون منفصلا وقد يكون جسمه هو، ومع هذا التشكك والالتباس والاختلاط يصبح الألم أيضا شيئا مشكوكا فيه، ملتبسا إلى حد الاختلاط بإحساس آخر يشبه الإحساس بالفرح أو اللذة، ويكاد يحس أنه سعيد، وقد يشعر برغبة في أن يبتسم؛ ذلك أن فكرة غريبة خطرت بباله، وهي أن الشاويش هو الوحيد الذي يلهث من التعب، وقد وقف على بعد خطوة منه يتحسس يديه من فرط الألم الذي يحسه بعد ذلك المجهود المضني، وقد يئن أنينا خافتا يختلط بأنفاسه اللاهثة، ويبتسم هو في الخفاء دون أن يحرك عضلات شفتيه، ويرقب الشاويش دون أن يحرك جفنيه، ويتنفس دون أن يحرك صدره بتلك الطريقة الجهنمية التي لم يرد لها وصف في كتب الطب! ولكن كم يجهل الأطباء الجسم الإنساني، إنهم يشرحونه كقطعة من اللحم ويحكمون عليه بحواسهم الخمس العقيمة، أيعرفون شيئا عن تلك الحواس الجديدة أو الأعضاء التي تنبت فجأة؟ وكيف يعرفون وهم لم يعيشوا التجربة الفريدة التي يعيشها هو؟
ورأى الشاويش وهو ينتصب فاردا عضلاته باسطا الشومة أمامه ضاربا على رأسها بيد، ورافعا اليد الأخرى مشدودة الأصابع لترتطم بجبهته، ويظهر الضابط علوي قصيرا سمينا أبيض، وشفته العليا مشقوقة من الوسط لتصنع قناة بين فمه وأنفه كما هو الحال في الجنين في شهوره الأولى؛ حيث لم تتم بعد تلك الحواجز التي تفصل الأعضاء بعضها عن البعض، ويرن في أذنه الصوت الغريب، صوت لا يعرف أهو يفلت من الأنف إلى الفم، أم من الفم إلى الأنف: «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخذ ايه من السكوت ؟» وتتسرب كل قوته وصلابته إلى عضلات شفتيه، وتترك جسده مرتخيا هامدا ممدودا، وتصبح شفتاه كشريطين رفيعين من الصلب الملتهب يطبقهما بكل قوته فتلتحمان ببعضهما بعضا في شفة واحدة عريضة.
الصوت الحاد الأخنف يرن في رأسه، وهو عاجز عن النطق ليس عجزا لا إراديا لعدم القدرة على تحريك اللسان، وليس فقدانا للذاكرة ونسيان مكان المطبعة، وليس تمسكا بمبدأ أو وفاء لعهد أو التزام، فهو لم يعد يذكر تلك المسائل والعواطف البشرية، إنه لم يعد بشرا، أصبح كائنا آخر له جسم آخر وأعضاء أخرى، وهو قادر على النطق، قادر على أن يفتح شفتيه ويقول: «شارع وسط البلد، نمرة 6.» هذه الكلمات لا تزال في ذاكرته واضحة، أكثر وضوحا من أي شيء آخر، بل لا يكاد يكون هناك شيء غيرها في ذاكرته، نسي شكل ملامح أمه، ونسي علم الجيولوجيا الذي قضي سنوات عمره يتعلمه، أفرغت ذاكرته كل محتوياتها ولم يبق إلا تلك الكلمات القليلة: شارع وسط البلد نمرة 6.
Halaman tidak diketahui
ودوى الصوت الحاد الأخنف في رأسه محدثا أصداء غريبة في تجويف رأسه، الذي اتسع وانتفخ فكأنه صندوق كبير مفرغ يكبر الصوت كالميكروفون. «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟» الضابط علوي ذو الشفة الأرنبية المشقوقة لا يمكن أن يعرف ما الذي يمكن أن يأخذ من السكوت، إلا ذلك الضرب المبرح حتى الاقتراب من الموت أو لعله الموت حقيقة، ولكن هناك شيئا آخر لا يعرفه علوي ولا يمكن أن يعرفه لا لنقص في عقله، ولا لأن بعض خلايا وجهه متوقفة في نموها عند مرحلة الجنين في شهوره الأولى، ولكن لأنه شيء غريب جدا، لم يعرفه أحد من قبل وما كان له هو أن يعرفه لولا أنه عاش هذه اللحظة العجيبة التي يعيشها الآن، لحظة ينفصل فيها الجسم عن النفس دون أن يموت أحدهما، لحظة يصبح فيها جسمك وكأنه شيء آخر بعيد عن نفسك، ليس بعيدا جدا ولكنه منفصل عن نفسك بمسافة صغيرة متناهية الصغر، كشعرة رأس أو واحد من الألف من شعرة الرأس، في تلك اللحظة لا يهمك جسمك، فهو ليس جسمك، وألمه ليس ألمك، وبقاؤه ليس بقاءك، وفي تلك اللحظة بل في ذلك الجزء من اللحظة تنشطر غريزة البقاء إلى شطرين، ليسا شطرين متساويين، وإنما أحدهما شطر كبير جدا يخيل إليك أنه هو الكل وليس هناك جزء آخر بعيد، ليس بعيدا جدا وإنما قريب بقرب ذلك الجسد منك، وهكذا يحدث ذلك الشيء العجيب، تكون أنت متكورا على نفسك متقوقعا حولها منتفخا بكل غريزة البقاء فيك، ويكون جسدك هناك على غير بعد منك، عاريا مرتخيا ممدودا، لا يحس بالبرد أو الحر ولا يعرف الضرب من الركل من الزغد من الزغزغة، كل شيء يصبح لديه سواء، كضغط ما يروح ويجيء، ويجيء ويروح، كذلك الضغط الطبيعي للهواء من فوق، وللأرض من تحت، على أي كائن أو جسم.
في تلك اللحظة لا يكون لبقاء ذلك الجسم معنى، يبقى أو لا يبقى سيان، المهم هو نفسك، هو تلك النقطة الهلامية المحسوسة وغير المحسوسة التي يتركز فيها بقاؤك، تلك القطرة السرية المجهولة من الحياة التي تجعلك حيا حتى ولو فقدت إحساسك بوجود جسدك، تلك القطرة التي إذا جفت جفت فيك الحياة وأصبحت ميتا ولو كان جسدك ما زال محسوسا.
لم يكن غريبا أن تتركز غريزة البقاء في تلك القطرة، وأن يتحوصل ويصنع حولها قوقعة صلبة منيعة، قوقعة حديدية تغلق فوهتها إغلاقا غريبا كأنما انصهرت شفتاها الحديديتان وذابتا بعضهما بالبعض، ولم تعد هنالك فوهة أو حتى معالم فوهة، ولكن هل يمكن أن يتخيل تلك القوقعة الحديدية بغير فوهة، وداخلها مساحة صغيرة متناهية الصغر لا تتسع لأكثر من قطرة، وداخلها مساحة صغيرة متناهية الصغر لا تتسع لأكثر من قطرة واحدة، ذابت فيها كل حياته وكل ذاكرته التي نفضت عنها كل شيء وتركزت وتبخرت وتكثفت في قطرة واحدة مقطرة هي المطبعة؟ «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
الصوت الأخنف لا يزال يردد السؤال الغبي الأجوف: «حتاخد إيه من السكوت؟» سؤال غريب، أغرب سؤال سمعه في حياته، سؤال ليس له جواب لأن أحدا لا يعرف الجواب، سؤال لم تستطع البشرية بأكملها أن تجيب عنه حتى الآن، هي التي أجابت على ملايين الأسئلة، وكشفت الملايين من أسرار الأرض والسماء، سؤال بغير جواب، والسؤال نفسه ليس سؤالا، لا يعرف أحد كيف يسأله أو ما الذي يسأله، أو ما الذي يريد أن يعرف بالضبط؛ ذلك أنه يعرف الجواب، ليس تلك المعرفة العادية الواضحة حيث يمكن أن يعرف، ولكنها معرفة مجهولة كعدم المعرفة سواء بسواء. إنه يعرف أن هناك بؤرة صغيرة في مكان منه تتركز فيها الحياة كبؤرة العدسة، صغيرة ودقيقة ولا مرئية، وربما لا موجودة ولكنها محسوسة في مكان ما من نفسه يعرفها ويحسها دون جدوى، كسراب ولكنها ليست سرابا، إنها الحقيقة ماثلة في كيانه كحقيقة وجوده، حقيقة صغيرة متناهية الصغر كذرة أو واحد في الألف من الذرة، يعلقها كل لحظة بذهنه ويختزنها في جوفه ويتقوقع حولها متشبثا بها إلى الأبد، فهي سر حياته وسر وجوده وسر بقائه، عرفها تماما كما عرف نفسه ولم يعرفها أبدا كما لم يعرف نفسه. «المطبعة فين؟ انطق يا مغفل! حتاخد إيه من السكوت؟»
الصوت الحاد الأخنف يزداد حدة ويزداد خنفا، والقوقعة من حوله تزداد سمكا وصلابة، والقطرة في داخلها تزداد أمنا وطمأنينة فترق وتصفو وتشف حتى تكاد ترى الحروف من خلالها واضحة جليلة، «شارع وسط البلد، نمرة 6»، حروف تلمع بلون الرصاص، تلتف وتتشابك، وتغلظ وتنحف، وتنفصل وتتصل، ورائحة الورق حين يسحق بين فكي المطبعة رائحة نفاذة غريبة، لا تدخل إليك من فتحتي الأنف كأي رائحة، وإنما تشق عظام رأسك وتغزو نافوخك بكلمة تعرفها قبل أن تقرأها، وتدور المطبعة في رأسك وتصطك الحروف الرصاصية كالأسنان وتولد الكلمة؛ كلمة وليست إلا كلمة، ولكنها النقطة التي بدأ بها كل شيء، النقطة التي بدأت منها حياته، وامتدت على طول السنين حتى هذه اللحظة التي يعيشها الآن، خيط طويل بدأ بنقطة وما زال ممتدا إلى تلك النقطة الهلامية الصغيرة المتناهية الصغر، التي تلتف حولها نفسه وتحوطها وتحميها كجنين في بطن أمه.
الآن أصبح الشيء أقل غموضا، وأصبح في استطاعته أن يتصور خطا طويلا رفيعا كالشعرة، يبدأ بنقطة تدور حولها المطبعة في شارع وسط البلد رقم 6، وينتهي إلى تلك النقطة الحبيسة داخل نفسه في تلك الصحراء الواسعة الجرداء، حيث لا شيء إلا الشاويش بشومته ذات الرأس الغليظ الأعوج، بصوته الحاد الأخنف. «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
السؤال هو هو لكن الجواب لم يعد مجهولا، إنه لا يستطيع أن يقول إنه عرف الجواب، وإن في إمكانه أن يقول لماذا هو يسكت، وما الذي سيأخذه من السكوت، وما حقيقة هذا الخيط الطويل الممتد ما بين نقطتين مجهولتي الأصل: إحداهما فرضها هو نفسه، والأخرى فرضت عليه كما فرضت عليه نفسه، ولكنه يعلم علم اليقين أن المطبعة لا تزال تدور في تلك الشقة الصغيرة في شارع وسط البلد، تروسها وحروفها الرصاصية تصطك والورق يسحق بين فكيها، وتخرج الرائحة النفاذة تنفذ إلى النافوخ، أيمكن أن يكتشفوا مكانها من الرائحة؟ أيمكن أن تتوقف المطبعة عن الدوران؟ أيمكن أن يفقئوا تلك العين التي يرى بها رغم تلك المساحات الشاسعة بين مكانه في الصحراء ومكانها في وسط البلد؟ أيمكن أن يسحقوا تلك النقطة الأولى التي بدأ بها خيط حياته الطويل المشدود منها إلى نقطة الحياة الحبيسة داخل نفسه؟
أيمكن أن تفوح الرائحة؟ أيمكن أن يفتح واحد فمه ليتنفس أو يلهث أو يئن فتخرج من بين شفتيه مع الهواء كلمات «شارع وسط البلد، رقم 6»؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ إن مجرد التفكير في إمكانية حدوثه يزلزل كيانه، في مكانه هو إحدى النقطتين اللتين يشد بينهما الخيط، وبقاؤه هو بقاء هذا الخيط مشدودا بين نقطتيه الاثنتين، الاثنتين معا؛ لأن زوال واحدة معناه انقطاع الخيط وزوال الثانية. «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
الآن فقط يستطيع أن يعرف لماذا يسكت، لماذا لا يفتح شفتيه المطبقتين ويئن ويجعل الكلمات تخرج مع الهواء: «شارع وسط البلد، رقم 6». إن القضية ليست التزاما بمبدأ أو وفاء لعهد ما تجاه آخرين، فالآخرون هنا ليس لهم وجود، إن جسده الذي هو أقرب الآخرين إلى نفسه لا يفصله عنه إلا تلك الشعرة أو الواحد في الألف من الشعرة، لم يعد له وجود، فما بال الآخرين. ولكن القضية أخطر من ذلك بكثير، إنها قضية نفسه، قضية ذاته، بقاء هذه الذات أو عدم بقائها، استمرار وجود ذلك الخيط المشدود يحمل من وسط البلد الماء والهواء إلى ذاته الحبيسة داخل القوقعة، أن يبقى أو لا يبقى هذه هي القضية، والبقاء هنا ليس ذلك البقاء الجسدي، فالجسد لم يعد محسوسا وإنما هو بقاء من نوع آخر، إنه بقاء الخيط مشدودا بين تلكما النقطتين. ما هو هذا الخيط؟ وما هما تلكما النقطتان؟ هذا ما لا يعرفه أبدا.
ولم يعد يسمع الصوت الحاد الأخنف، لا بد أن الضابط علوي سكت قليلا لتستريح حبال صوته، وبدأ يسمع قدمي الشاويش الثقيلتين يصطك حديدهما بالأرض الأسفلت، وسمع صوت الشومة وهي ترتفع في الهواء وتستقر لحظة، ثم تهوي فجأة وترتطم بشيء صلب له طراوة اللحم وكثافته، ولكنه ليس لحما، أو على الأقل ليس لحمه هو بالذات، وإنما لحم آخر لا يبعد كثيرا عنه، ربما لا يفصله عنه إلا مسافة صغيرة جدا متناهية الصغر كشعرة أو واحدة في الألف من الشعرة، ولكنها مسافة على أي حال تفصله عن ذلك اللحم المضروب، لو كان بغلا لمات، ولكنه ليس بغلا، إنه إنسان له عقل يعرف كيف يفكر، وكيف يتغلب على أي قوى، وكيف ينتصر في النهاية، كيف ينتصر ... كيف؟ وهو ليس إلا نقطة واحدة حبيسة، ليست طليقة في الهواء ولا يمكن أن تنطق كالذرة وتنفجر، ولكنها حبيسة داخل قوقعة سميكة صلبة بغير فوهة، كيف تنتصر؟ وعلى أي قوى؟ أي قوى هائلة وساحقة ومبيدة؟ إنه لا يكاد يصدق، لا يكاد يكتم الفرحة، لا يكاد يخفي الزهو، وأي زهو. إنه قادر على الانتصار رغم كل شيء، قادر على أن يمنح المطبعة الدوران، والدوران قادر على أن يجعل الحياة تسري في الخيط الطويل المشدود ما بين وسط البلد ومكانه البعيد في الصحراء ، إنه منتصر، إنه سعيد، ربما يريد أن يرقص.
Halaman tidak diketahui
وها هو ذا الصوت الأخنف يعود مرة أخرى، وها هو ذا يطبق شفتيه الحديديتين المنصهرتين في شفة واحدة، لو فتحوا فمه بمنشار فلن يخرج من حلقه ذرة هواء؛ لأن حلقه هو الآخر أصبح مسدودا بغير فوهة، ولأنه أصبح يعرف كيف يتنفس داخل القوقعة بغير هواء يدخل ويخرج. «أخدت إيه من السكوت يا مغفل؟ زميلك اعترف ... شارع وسط البلد نمرة 6.» إنه الصوت الحاد الأخنف، هو بأنفه المفتوح على فمه، هو الذي يقول «شارع وسط البلد نمرة 6»، هو هو الحاد الأخنف.
لم يعرف تماما ماذا حدث، لكن الصوت دوى في أذنه كالفرقعة، كبالونة كبيرة منتفخة بالهواء انفجرت، كسلك رفيع طويل مشدود انقطع فجأة، ولم يعد يرى الشاويش ولم يعد يسمع الصوت الحاد الأخنف، لم يعد يرى أو يسمع شيئا، ولم يحس أصابع الشاويش الغليظة وهي تلتف حول قدميه وتجره بعيدا إلى حيث لا يعلم أحد.
الكذب
فجأة أصبح عاريا تماما.
لم يعرف كيف خلع ملابسه، لكنه كان يريد أن يضعها أمام أمر واقع، أمام رجل عار. إن العري في حد ذاته كفيل بأن يطور العلاقة بينه وبينها. لم يعد عنده صبر، فالحاضر خطر والمستقبل غير مضمون، ولم يعد عنده وقت، فالشباب أدبر والكهولة تقترب بابتعاده عن الأربعين، ورصيده من القوة أصبح يقل، وكثيرا ما فشل جسده في لحظات تأجج فيها القلب.
كان يتحدث في شيء ما، كان موضوعا جافا، لعله كان علما أو سياسة أو فلسفة، وكانت هي تجلس أمامه مرتدية فستانا حديثا، لم تكن نظرتها مغرية أو مشتهية أو أي شيء من ذلك الشبق الذي تتقنه النساء المحتشمات، بالعكس كانت نظرتها تطرد الرجل أكثر مما تناديه، تطرده بكل عنف وبغير رجعة كما نطرد عن أنفسنا المرض أو الموت أو أي شيء نحس أنه إذا ما انقض علينا فمن المحال ألا يفتك بنا. «نحن مسوقون إلى حقنا، أردنا أم لم نرد.» قال لنفسه هذه الجملة حين لمح نفسه في المرآة عاريا، عشرون سنة عاشها مع أم أولاده الخمسة، زوجة شرعية خجول وعذراء وتعشق الإنجاب بغير أن يتعرى الجسم.
وأشاح بوجهه بعيدا عن المرآة.
فقد اصطدمت عيناه بصدر مشعر كصدر القرد، وبطن عال كبطن امرأة حامل، لم يكن يظن أن بطنه ارتفع إلى هذا الحد. في كل يوم كان يرتفع ارتفاعا قليلا جدا غير ملحوظ، ويضيق البنطلون بسيطا جدا لا يزيد عن مليمتر أو نصف مليمتر، لكنه التراكم؛ تراكم الأيام، مئات الأيام، آلاف الأيام، وتراكمت معها المليمترات بعضها فوق بعض، عشرين سنة.
وكانت هي تجلس وفي يدها الكتاب، كانت تعرف أنه جالس في كرسيه بكامل وقاره يتحدث، فالكلمات تخرج من فمه متتابعة واحدة وراء الأخرى بغير فواصل وبغير سكتات، كأنما كان يمضغ لعابه ثم يفرزه حروفا متلاصقة ممتدة كسائل له قوام، أو كالخيط يتدلى من فمه طويلا وحريريا، لا ينتهي ولا ينقطع، وربما يلتف ويتشابك كالشرنقة، وربما استطاع حرف واحد أن ينفصل من تلقاء نفسه ويتطاير في الجو كذرة مائية أو فقاعة لا تلبث أن تسقط فوق أي شيء صلب.
كانت تنصت إليه، وهو ليس ضيفا عاديا، إنه صديق زوجها منذ سنين كثيرة أكثر من السنين التي جمعت زوجها بأي أحد. وهو رجل مؤدب، تستطيع أن تحس ذلك من عضلات وجهه المشدودة، وتقلص عضلات العنق، والكرافتة المربوطة حول رقبته والمعقودة بشدة، كأنما لا تفك أو لا يمكن أن تفك أبدا، كأنه ينام ويصحو بها، بل كأنه ولد بها، والجاكت ذي الصفين من الأزرار، والبنطلون الضيق المزرر بإحكام، وساقيه المضمومتين وركبتيه المتلاصقتين كما تجلس المرأة ذات الحياء أو الفتاة العذراء. أجل، كانت له عذرية رجل لا يبدو أن خلع ملابسه أبدا، أو أن ملابسه يمكن أن تخلع حتى لو أراد.
Halaman tidak diketahui
ولم يكن وجوده بالبيت وإن غاب زوجها يزعجها في شيء، تتركه يتحدث في كرسيه وتفعل ما تريد؛ قد تكتب، وقد تقرأ، وإذا وقع منها القلم وتدحرج تحت المنضدة فهي تنثني لتلتقطه بغير حرج، فإذا ما قفز فستانها الضيق القصير وتعرت تماما من الخلف لم تنزعج، فهو لا يمكن أن ينظر إليها، وإذا نظر فإن نظرته رفيعة مثقفة، تحط على جسدها بغير ثقل وبغير حرارة كالهواء سواء بسواء، حتى حديثه غير المنقطع لم يكن يزعجها في شيء، بل لعله كان يسليها، فإذا ما غاب فتحت الراديو.
أعطى ظهره للمرآة وظل واقفا، كانت جالسة أمامه على كرسي منخفض وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع الطبيعي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تجلس، وكانت عيناه تنفذان بينهما بسهولة وتبلغان نهايتهما دون مشقة على الإطلاق، وكان قد انتقل في حديثه من السياسة العالمية إلى أصل الكون، إلى الجبرية في الأديان، لكن عضلات عنقه كانت - وهو يتحدث - تتقلص في شدة محدثة صريرا غريبا يخشى أن يكون مسموعا، فإذا به يتكلم بصوت أعلى مما تقتضيه الآداب الحديثة. كان يشعر بشيء من الحرج، لكن صوته يرن في الصالة ذات الأثاث المودرن ويهز الستائر الشفافة فوق النوافذ هزا رقيقا ناعما يدغدغ أذنيه، فإذا به يعشق صوته ويستشعر في نطق الكلمات لذة كبيرة.
وكان الكتاب لا يزال في يدها، وعيناها على سطر فوق إحدى الصفحات، لم تكن تحرك عينيها من كلمة إلى كلمة. كانت تعشق الكتب بشدة لكن كرهها للقراءة كان أشد، فإذا بعينيها تزحفان كمنقار، وتسري نعومة الورق الفاخر في نعومة أناملها؛ فتستشعر ترابطا حسيا بينها وبين الثقافة.
وظل واقفا وظهره إلى المرآة، إنها لم ترفع رأسها بعد من فوق الكتاب، كل ما حدث حينما انقطع صوته فجأة أن امتدت يدها بغير وعي إلى الراديو فامتلأت الصالة بصوت رصين يتلو القرآن، ربما لو كان برنامجا آخر غير محتشم، تمثيلية مثلا أو قطعة موسيقية، ربما تحرك من مكانه، أما أن يتلى القرآن وبذلك الصوت الوقور، فلم يكن أمامه إلا أن يظل واقفا في مكانه بغير حراك. كان الفصل شتاء - اليوم الأخير من شهر يناير بالتحديد - وبالرغم من النوافذ المتينة المحكمة، كان هناك تيار من هواء بارد متجه إلى عموده الفقري بالذات، وفكر في أن يمد يده ليلتقط شيئا من ملابسه الملقاة تحت قدميه، لكنه خشي إن تحرك أن يلفت نظرها قبل أن تنتهي تلاوة الآيات. استطاع فقط أن يرمق بشيء من الحسرة البلوفر بصوفه الإنجليزي الغالي يشيع الدفء في البلاط، وإلى جواره كانت هناك الكرافتة بربطتها المحكمة المحترمة وذيلها الطويل الرفيع اللامع من السولكا، وإلى جوارها تماما ويكاد يلتصق بها كان هناك سرواله القطني الخشن الضخم، يفضح حجم بطنه وانبعاج فخذيه، يفضحهما بغير شفقة وبغير حياء وبغير مراعاة للآداب العامة.
وانتهت التلاوة، وبدأ يفكر في الحركة التي يمكن أن يبدأ بها، وخيل إليه أن حركة الذراع قد تكون أكثر لياقة من غيرها، ولعله حرك ذراعه فعلا؛ لأن الشعر الكثيف تحت إبطه أصبح ظاهرا للعيان، لكن خلجة واحدة لم تتحرك فيها، كانت لا تزال جالسة تقرأ في الكتاب، وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع العادي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تستغرقها القراءة، ذلك الاستغراق الطبيعي لأي شخص مثقف، لكنه لم يكن يظن أو لم يكن يدور بخلده أبدا أن الاستغراق مهما بلغ من العمق أو الثقافة يمكن أن يحول بين المرأة وبين رجل عار.
وكانت أذناها قد التقطتا صوت المقرئ، فامتدت يدها بغير وعي وأدارت المسمار بشيء من الرهبة، وبدأ صوت كالهدير يذيع نشرة الأخبار. ربما لو كانت وحدها لامتدت يدها مرة أخرى وأدارت المسمار، لكنها كانت تعرف أنه جالس في كرسيه، عنقه مشدود ومربوط بالكرافتة، ونصفه الأعلى صندوق أحكم إغلاقه بصفين من الأزرار، وساقاه مضمومتان ملتصقتان في احتشام؛ الوضع الطبيعي الذي تتخذه ساقا الرجل الحديث حين يستمع إلى النشرة. وكانت عيناها قد تسربتا من فوق السطر خلسة فوق ذراعها البض الناعم، لكنهما لم تلبثا أن تعثرتا ببضع شعرات نافرات خشنات فتذكرت موعد الحلاقة.
وكان هو قد بدأ يشعر بالحيرة، فما الذي يفعله ليخرجها من ذلك الاستغراق؟ وضع أصبعه في فمه ليصفر كما كان يفعل وهو طفل حاف يلعب في الحارة عاري الأرداف، وربما وضع أصبعه في فمه فعلا لكنه لم يصفر، لم تعد عضلات فمه قادرة على إحداث تلك الأصوات المنافية للذوق العام، وظل واقفا جامدا عاريا كالتمثال، لكن الصمت دب فجأة في الصالة؛ ربما انقطع تيار الكهرباء، ورفعت رأسها من فوق الكتاب فإذا بالصالة غارقة في الظلام، وكادت تصطدم به وهي متجهة إلى حجرة المكتب، لولا أنه تراجع خطوة إلى الوراء، ولما عادت بكتاب آخر كان التيار قد عاد، وكان هو جالسا في كرسيه المعتاد بكامل ملابسه وكامل وقاره.
المربع
كان نائما في تلك المساحة المحددة له بالسنتيمترات، ومن تحته أرض صلبة ناعمة تنفث برودة ورطوبة كبلاط الحمام، ومن حوله من كل جانب كتل من اللحم، طرية وساخنة ولزجة، مختلفة الأشكال والأحجام، أذرع وأرجل ورءوس وظهور وبطون، آدمية كلها من درجة السخونة ومن رائحة الأنفاس، وقد لا تكون آدمية كلها بجوار حصان أو حمار ليقف على هذه الفروق، لكنه يعلم بما يشبه اليقين أنها آدمية كلها، ويعلم بما يشبه اليقين أيضا أنه واحد منها وأنه آدمي مثلها، لكنه ليس يقينا كاليقين، فالشيء هنا لا يبدو كالشيء نفسه، إنه يبدو شيئا آخر، مختلفا تماما، مختلفا إلى حد أنه لا يصبح هو الشيء نفسه وإنما شيئا آخر قد يصل في بعض الأحيان أن يكون هو النقيض نفسه، فهذا اليقين مثلا لم يعد يقينا كما تعوده أن يكون، وإنما أصبح أبعد ما يكون عن اليقين، وأقرب ما يكون إلى الشك، لكنه أيضا ليس شكا كالشك وإنما شك غريب يتأرجح بين الشك واليقين، فلا هو شك ولا هو يقين، تلك الحالة الشاذة التي تمر بنا أحيانا، ربما أثناء النوم، ليس النوم تماما وإنما تلك اللحظة الخاطفة السابقة للنوم، أو تلك اللحظة الخاطفة السابقة لفقدان الوعي أو ربما الموت الكامل. وهو لحظة لا يمكن لي أن أصفها، ولا يمكن لأحد غيري أن يصفها، إلا إذا مارس الموت مرة ثم صحا وجلس كالأحياء ومسك القلم ووصف لنا تلك اللحظة وصفا دقيقا، وهذا ما لم يحدث أبدا.
على أن الأمر ليس هاما بالنسبة إليه إلى هذا الحد أن شيئا لا يعنيه من تلك الأمور التي تعنينا، أن مجرد التفكير على هذا النحو فيما إذا كان ما يحدث له يقينا أو لا يقينا، أنه نائم أو غير نائم، أن هذه اللحظة التي يمر بها تندرج في حكم الزمن تحت اليقظة أو النوم أو الموت، هذه كلها تفصيلات تافهة لا تعنيه، فهو مشغول بما هو أهم، وهو مستغرق فيما هو ضروري له الآن، ضرورة ملحة إجبارية، ضرورة لا تخطر على بال أحدنا؛ لأنها ليست ضرورية لنا، أو لعلها ضرورية لكنها موجودة ومتوفرة في كل مكان وزمان، كالهواء نستنشقه من الجو دون أن يفرغ، وكالأرض نمشي عليها ونرقد فوقها دون أن تنوء بثقلنا أو تضيق بأحجامنا.
Halaman tidak diketahui
لكنه ليس واحدا منا، أو بعبارة أصح: لم يعد واحدا منا. أشياء كثيرة تغيرت بالنسبة إليه، ليس تغييرا بطيئا متدرجا كذلك الذي يحدث في حياة البشر العادية، وإنما هو تغيير فجائي، كزوبعة تهب وتكتسح كل شيء، أو فيضان يغرق كل شيء، أو زلزال أو بركان يقضي على كل شيء، هكذا في لحظة واحدة تغير كل شيء، في لحظة من تلك اللحظات التي تسبق ظهور أول خيوط النهار، وتسبق ظهور أول خيوط الوعي، قبل أن يستيقظ تماما من النوم وقبل أن يرتدي البدلة والحذاء. أجل، لم يكن هناك وقت لارتداء البدلة والحذاء، لكنه أصر على أن يرتدي البدلة والحذاء، كيف يخرج من بيته بغير بدلة وبغير حذاء؟ وضاعت بضع ثوان في ارتداء البدلة والحذاء، ولم يكن هناك وقت لأن يودع ابنه الصغير الراقد في الحجرة المجاورة، ليته ودعه قبل أن يمشي، لكن ذلك لم يبد ضروريا في تلك اللحظة، كان ارتداء البدلة والحذاء يبدو ضروريا أكثر. أشياء ما كانت تبدو ضرورية أكثر من غيرها، حفلات العشاء مع رئيس الفرع كانت تبدو ضرورية أكثر من قضاء الليلة مع ابنه الصغير، كل ما يتعلق برئيس الفرع كان يبدو ضروريا أكثر من أي شيء آخر، لكن البدلة خلعها والحذاء خلعه ولم يعد يستخدمهما، وابنه الصغير سيصحو من النوم ويعرف أنه اختفى دون أن يخطره.
على أن كل هذا لا يخطر بباله الآن، أن يفكر في ابنه لم يعد ضروريا، إن التفكير في الآخرين من الكماليات، بل إنه رفاهية وأي رفاهية، أن يفكر المرء في شخص آخر غير شخصه، بل أن يفكر في شيء آخر غير جسمه، جسمه هذا الذي لم يكن يتصور أنه بهذا الحجم الضخم. لم يسبق له أبدا أن عرف حجم جسمه، ربما عرف الطول والوزن ولكن الحجم؟ من منا فكر في أن يعرف حجم جسمه ويقيس ذلك الحيز الذي يشغله؟ لم يفكر واحد منا في هذا، لم تكن هناك ضرورة لذلك أبدا، فالمساحة بين الأرض والسماء تتسع للناس جميعا، لا تتسع فحسب ولكنها واسعة فضفاضة.
على أن الأمر لم يعد كما كان، وكل شيء تغير بسرعة مذهلة، لم تعد هناك سماء وإنما جدار عال أجرب تبرز منه ألواح رفيعة طويلة كالقضبان الحديد، والأرض لم تعد أرضا وإنما مربعات صغيرة مرسومة ومحددة كصفحة في كراسة الرسم البياني، وهو لا يملك إلا مربعا واحدا فقط، هكذا بالمسطرة لا يزيد سنتيمترا واحدا ولا ينقص، بل إنه قد ينقص إذا ما تكاثر العدد، والعدد قد يتكاثر، بل دائم التكاثر، كالخلية الحية تنقسم وتتكاثر بغير توقف.
على أنه أيضا لا يفكر الآن فيما سيكون من بعد، سيزيد العدد أو لن يزيد، ستقل المساحة المحددة له أو لن تقل، هذا شيء لا يعنيه؛ فالتفكير في المستقبل رفاهية لا يستمتع به إلا من تجاوز بفكره اللحظة الحاضرة وتغلب عليها، لكنه لا زال يعيش هذه اللحظة الحاضرة، وبعبارة أصح: لا زالت هي تعيشه ولا زالت تحتويه، إنه يعيش داخلها وتحوطه خيوطها كالعنكبوت، وكان هذا في حد ذاته شيئا غريبا مروعا؛ ذلك أنه بدلا من أن يعيش هو اللحظة ويستهلكها، إذا بها هي تمسكه وتلتف حوله وتستهلكه.
لكنه لا يستهلك أبدا، لا يتلاشى أبدا ولو أراد، إنه باق وموجود رغم كل شيء، بل إن وجوده هو الشيء الوحيد الذي يعيه، وجسمه هو الشيء الوحيد الذي يحسه، بل لم يسبق له أبدا أن وعى وجوده هذا الوعي، أو أحس جسمه كل هذا الإحساس؛ فالجسم كجسم أو كتلة معينة من اللحم لها وزن وحجم لا نحس به، نحمله معنا في كل مكان بغير تردد وبغير عبء، وحين نأكل يأكل بغير حرج، وحين نمارس الجنس يمارس معنا الجنس بغير خجل، وحين ننام ينام.
لكن الأمر بالنسبة إليه أصبح مختلفا، وهو لا يعرف كيف أصبح مختلفا، ولماذا أصبح مختلفا، إنه لا يعرف شيئا، كل ما يعرفه أنه كان واحدا من الناس، وكان له زوجة وابن وبيت وسرير ينام عليه، وكان له مكتب يقف على بابه ساع، وكان له رئيس هو رئيس الفرع، وكان يعمل كثيرا، طول النهار وجزءا من الليل، لم يكن يعرف ماذا يعمل تماما، ولكنه كان يعمل بكل تأكيد ويتقاضى أجرا عن عمله يكفيه، وكانت سمعته طيبة، يؤدي الفرائض ولا يسكر ولا يعربد ولا يسرق ولا يكذب. والحق ربما كذب في بعض الأحيان، ذلك النوع من الكذب الذي ليس كذبا، كأن يذهب مع رئيس الفرع إلى حفل عشاء ويقول لزوجته إنه ذاهب لاجتماع اللجنة الدائمة، ذلك النوع من الكذب البسيط الذي لا يغضب أحدا إلا زوجته، وغضب زوجته لم يكن شيئا يذكر؛ لأنه لم يكن له ضرر يذكر.
وهكذا كان واحدا من الناس، عاديا ومحترما وله سمعة طيبة، وله بيت من ثلاث غرف وسرير ينام عليه ويمد ساقيه عن آخرهما دون أن يعوقهما شيء، فما الذي حدث؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ أهو عقاب ما؟ وإذا كان عقابا، فما هو الذنب الذي اقترفه؟ ومن هو الذي شرع العقاب أو وقفه؟
أسئلة كثيرة لا تدور بذهنه الآن كما تدور بأذهاننا؛ ذلك أنها أسئلة تتعلق بشيء مضى، والتفكير في الماضي كالتفكير في المستقبل رفاهية لا يستمتع بها إلا من تجاوز بفكره الحاضر، أو من هو قادر على تجاوزه. لكنه غير قادر على الخروج من قبضة اللحظة الحاضرة، لقد سقط فيها واحتوته وحاصرته، ولم يعد أمامه إلا أن يدور في جوفها إلى الأبد، أو يختنق ويموت ويتلاشى.
لكنه أبدا لا يتلاشى، وليس هناك من شيء يبشر بهذا التلاشي، جسمه هو جسمه بل لعله يبدو أكبر حجما مما كان يظن، لم يكن يظن أبدا أن جسمه بهذا الحجم الكبير، وأن ساقيه حين تمتدان تصبحان بكل هذا الطول. لو كان أصغر حجما، لو كانت ساقاه أقل طولا، ربما كان في إمكانه أن يتكور حول نفسه بسهولة أكثر، وربما كان في مقدوره أن يشغل بالضبط المساحة المحددة له، ذلك المربع الصغير من الأرض، مرسوما ومحددا بالمسطرة لا يزيد سنتيمترا واحدا، وأبدا مهما زاد حجم جسمه، ومهما طالت ساقاه، ومهما علت درجته، ومهما كانت علاقته طيبة برئيس الفرع، فالكل هنا سواء؛ النحيف والسمين، والطويل والقصير، المتعلم والجاهل، الساعي والمدير، كلهم سواء، متساوون كأسنان المشط، يلبسون من قماش واحد، وينامون فوق مربعات صغيرة كمربعات البلاط، مرسومة ومحددة ومتساوية، ولكل منهم مربع واحد فقط.
وهذا التساوي في حد ذاته شيء فظيع مروع، ليس هو التساوي بمعنى التساوي، ليس هو أن يأكل مع الكل من صحن واحد، أو يلبس مع الكل من قماش واحد، أو يبول مع الكل في وعاء واحد، أو ينام مع الكل في مربع واحد، ليس هو التساوي كحدث يحدث، وإنما هو الإحساس بالتساوي، الإحساس بأنه واحد من هذه الكتل اللحمية المتراصة في صفوف والمتلاصقة، لا شيء يميزه عنها، لا شيء يدل على أنه هو نفسه وليس واحدا آخر، لا اسم ولا لقب ولا ملابس ولا شهادة ولا درجة ولا علامة، ولا حتى ختم أو وشم طبع على بطن يده، وهو لا يكره التساوي، أو بعبارة أصح: لم يكن يكرهه، بل إنه كثيرا ما قرأ عنه وانفعل، وكثيرا ما تأثر لمنظر طفل يشحذ، وثار لمنظر ثري متخم، كثيرا ما تأثر وكثيرا ما ثار، وفي كل مرة كان صادقا، صادقا أكثر من أي مرة سابقة، حتى إن الدموع كانت تطفر من عينيه أحيانا من شدة الصدق، على أنه لم يعد يذكر الآن شيئا؛ فالتذكر رفاهية لا يستمتع به إلا ذلك الذي يستطيع أن يرقد فوق بطنه أو ظهره، ويمد ساقيه عن آخرهما دون أن يعوقهما شيء ويتذكر، لكنه لا يستطيع أن يمد ساقيه، فالمساحة صغيرة لا تزيد عن مربع واحد من مربعات البلاط، ومن حوله أذرع وأرجل ورءوس وبطون، تحوطه من كل جانب، وتضغط عليه من كل ناحية، وهو يحاول بكل قوة وكل جهد أن يتكور حول نفسه، وأن يتقلص وينكمش ويتضاءل؛ ليحشر نفسه داخل المساحة المحددة ويدخل في المربع، وهو لا يعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك، كيف يمكن أن ينكمش جسمه الضخم ليصل إلى ذلك الحجم الصغير، كيف يمكن أن يتكور ويتكور ليصبح كالجنين وفي حجم الجنين. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ إنه لا يعرف، ولكنه يعرف أنه لا بد أن يحدث؛ فليس هناك من حل آخر، المساحة محددة، والمربع واحد فقط لا يزيد سنتيمترا واحدا لأي سبب، وجسمه هو جسمه بحجمه وكثافته لا ينقص جزءا ولا يعود جنينا بأي حال، لكنه لا بد أن يدخل في المربع، نعم لا بد. لماذا لا بد؟ وكيف؟ إنه لا يعرف، ولكنه يعرف أنه لا بد أن يحدث، ربما بعد مجهود فظيع مروع ليس في طاقة البشر، وربما بعد وقت طويل بغير حدود، ربما بعد أي شيء، ولكنه في النهاية سيحدث.
Halaman tidak diketahui
على أن ذلك لا يحدث، وجسمه لا زال كما هو بحجمه، ومن حوله أذرع وأرجل ورءوس وبطون ساخنة ولزجة تحيط به من كل جانب وتضغط وتضغط، لكنه لا ينضغط وتبقى تحت أي ثقل قطرة زئبق، وهو ليس أضعف من قطرة زئبق، إنه يقاوم بكل قوة؛ يقاوم حجم جسده، ويقاوم طول ساقيه، يقاوم كثافة لحمه وعظامه، يقاوم بكل قوته وكل حيله وفكره، يقاوم بغير كلل أو ملل وبغير فتور أو يأس، يتكور ويتقلص وينكمش داخل نفسه كثعبان يحاول أن يدخل في ثقب ضيق، تماما كثعبان، ليس تماما فهو ليس ثعبانا، إنه إنسان، أكثر مرونة، أكثر حيلة، وأكثر قدرة. كان له مكتب وساع ورئيس فرع، وكان له زوجة وابن وبيت من ثلاث غرف، وكان له سرير، أجل كان له سرير واسع ، يمد فوقه ساقيه لآخرهما ويتمدد فوق بطنه أو ظهره، ويغمض عينيه ويحلم، يحلم كما يحلم أي أحد أراد أو لم يرد، يحلم بحفل عشاء مع رئيس الفرع، يحلم بعلاوة استثنائية، يحلم بتحقيق المساواة بين البشر. أجل كان يحلم كل ليلة كأي أحد، وربما هو يحلم الآن، لكن السرير ليس تحته وإنما أرض صلبة رطبة كأرض الحمام، وعيناه غير مقفلتين، وساقاه ليستا ممدودتين أفقيتين كما يحدث في النوم، ولكنهما مرفوعتان إلى أعلى مقوستان متشابكتان فوق بطنه منثنيتان تحت ظهره. كيف استطاع أن يثني ساقيه إلى هذا الحد؟ كيف لانت مفاصله؟ كيف انثنت عظامه؟ إنه لا يدري، فهو لم يكن بطلا من أبطال اليوجا، ولكنه كان رجلا مفكرا يعيش بذهنه، ولا يحرك عضلاته إلا لقضاء ضرورة ملحة، وكانت مفاصله من قلة الحركة قد يبست وتصلبت، تطقطق أحيانا كلما جلس أو وقف كمفاصل الباب الصدئ، غير أن ذلك لم يكن يهمه أو يضره؛ فهو قادر في النهاية على أن يمشي ويجلس ويقف ويأكل ويمارس الجنس. ثم إن مفاصله ليست هي الوحيدة التي تطقطق، كثيرا ما سمع مفاصل زملائه، بل إن رئيس الفرع أيضا كانت مفاصله تطرقع.
على أن كل شيء أصبح مختلفا بطريقة مذهلة، وما كان في وسع أحد أن يتصور أن تلك الكتلة المستديرة المتكورة كانت في الأصل رجلا، أو يمكن أن تكون رجلا بعد أن تنفك وتتمدد، ما كان لأحد أن يتصور، لكن الأمر لم يكن خيالا أو حلما، كان حقيقة، حقيقة الأرض الصلبة الباردة تحت أليتيه، حقيقة السخونة ذات الرائحة الآدمية التي تملأ أنفه، وحقيقة وجود جسمه بثقله وحجمه، وجودا حقيقيا أكثر من أي شيء آخر، بل لا شيء غيره يبدو حقيقيا، لا شيء غيره يبدو موجودا، أو كان موجودا في وقت من الأوقات، لا مكتبه ولا الساعي ولا رئيس الفرع ولا زوجته ولا ابنه ولا بيته ولا حتى السرير، ربما كان كل عمره السابق حلما، حلما طويلا جدا، ربما كان أملا أو وهما أو دعوة صلاة، ربما كان أي شيء لكنه كان، وهو الآن بجسمه الضخم فوق تلك المساحة الصغيرة المحددة، يحاول أن يدخل في المربع، لكنه لا يدخل؛ فالمربع أصغر من جسمه، وجسمه أكبر من المربع، لكنه لا بد أن يدخل ولا بد لهذه اللحظة من أن تمر، هذه اللحظة التي احتوته في داخلها والتفت حوله وضيقت عليه الخناق كاللجام أو سلسلة من حديد، هذه اللحظة الضخمة الطويلة الممتدة إلى الأبد، كيف تكون لحظة واحدة من الزمن طويلة إلى هذا الحد؟ وكيف كانت اللحظات تمر به من قبل؟ وهل يمكن لهذه اللحظة أن تمر؟ إنه لا يعلم، ولكنه يعلم أنها لا بد ستمر، ربما بعد وقت طويل جدا لا يعرف طوله، وربما بعد مجهود فظيع مروع ليس في طاقة البشر، لكنها في النهاية ستمر هكذا كما تمر أي لحظة من العمر، وربما بالبساطة نفسها التي تمر بها أي لحظة أخرى.
الأنف
إذا كان واقفا على قدميه، فلماذا لا تكون قامته بطولها المعهود؟ ولماذا لا تكون أعضاء جسمه متراصة بعضها فوق البعض بالترتيب القديم: الرأس فوق، ومن تحتها الرقبة، فالصدر، فالبطن، فالساقان. والقدمان أليستا هما اللتين ترتكزان على الأرض؟
يبدو أن هذا ليس هو ما يحدث. إنه واقف، هذا شيء يدركه منذ وصل إلى هذا المكان، لكنه ليس واقفا على قدميه، وإنما على شيء مفلطح طري له طراوة بطنه. أيكون نائما؟ ولكنه يرتدي البدلة والحذاء والكرافتة، الكرافتة تلتف حول رقبته بإحكام، وربطتها تحت ذقنه مقوسة ومبرومة بإتقان. أجل، كرافتة محكمة حول الرقبة، كان هذا هو شرط الدخول إلى المكان.
ما العلاقة بين شريط طويل يغطي الرقبة وبين الاحترام؟ ولكن هناك أمكنة أكثر احتراما من الرقبة، وكان هو يحب رقبته عارية، وخاصة ذلك الغضروف المدبب «تفاحة آدم» دليل الرجولة الذي لا يقبل الشك، لكن تأتي أوقات لا يحتاج المرء فيها إلى دليل الرجولة أو الرجولة نفسها. ثم ما علاقة غضروف مدبب في الرقبة بالرجولة؟ هذا ما لا يستطيع أن يفهمه.
لكن الأشياء تبدو أكثر وضوحا، إنها ليست أشياء ولكنها شيء واحد، شيء واحد ابتلع كل الأشياء وأصبح ضخما، أكثر ضخامة من أي شيء رآه في حياته، أكثر ضخامة من الهرم الأكبر. حين وقف أمام الهرم كان يستطيع أن يرفع رأسه ويرى قمته، أما الآن فهو لا يستطيع أن يرى القمة، وربما لا يستطيع أن يرفع رأسه. إن رأسه ليس في ذلك الوضع الرأسي المألوف الذي يستطيع منه أن يحركه بسهولة ويرفعه، رأسه في وضع أفقي غريب، يتساوى في ارتفاعه عن الأرض مع رقبته وصدره وبطنه ومؤخرته، كأنه منبطح فوق بطنه على الأرض، أو على أقل تقدير: نائم على بطنه.
لكنه واقف، إذا كان الوقوف يعني الارتكاز على القدمين. إنه مرتكز بقدميه على الأرض، هذا شيء مؤكد أو يصبح مؤكدا الآن، والشيء الطري المفلطح ليس بطنه بأدنى شك، فهو يدوس عليه، يدوس عليه بكل ثقله حتى يكاد يغوص فيه. قد يكون الغوص هو السبب في ذلك القصر الشديد الذي أصاب قامته فأصبح قزما لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض.
ربما هو فخ نصب له. أي شيء يمكن أن يكون فخا في هذه الأوقات، وهو بطبيعته حذر شكاك يرتاب في كل شيء، ولكن أحيانا ما يخطئ ويثق، ليست ثقة تماما ولكن ثقة متشككة؛ فالأشياء لا تبدو هي الأشياء، والكلمات لا تبدو هي الكلمات، بل هو أيضا لا يبدو أنه هو. كان فارع الطول؛ إذا ما وقف على قدميه ارتفع رأسه فوق رقبته واستطاع أن يطل بعينيه إلى فوق.
لكن عينيه لا تستطيعان رؤية ما هو فوق، فالبناء ضخم، أضخم من الأهرامات لو أنها تراصت بعضها فوق البعض وأصبحت هرما واحدا قمته أعلى من قدرة البصر، وجسمه أكبر من حدود الحواس الخمس، بناء ضخم يحجب من خلفه السماء والشمس، ويرسم ظله الأسود الكثيف فوق الأرض وفوق البيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام.
Halaman tidak diketahui