ثم لما كان بتاريخ العشرين من شهر رمضان وصلنا إلى المنزل المعروف بقطية من عمل بلبيس الشرقية فاستقبلنا قاضيها وصحبته جماعة من قضاة الديار المصرية وهو مولانا فخر القضاة والمدققين، عمدة الأفاضل والمحققين، تقي الدين ابن المحروم من بالفضائل والكمالات موصوف، عمدة القضاة القاضي معروف، فحصل لنا غاية السرور بملاقاته، وكنا بفرط الأشواق إلى مشاهدة ذاته. وكان مولانا قاضي القضاة عامله الله تعالى بألطافه الخفية، لما جاءه الخبر بتوليه القاهرة المحمية، أرسل لحضرة الباشا بمصر يستخلف المشار إليه مكانه، لتميزه بالفضائل التي فاق بها اقرانه، فسأله عن بعض ما وقع في البين من الأحوال، واستخبر عنها بالتفصيل والإجمال، فأنهى إليه بعض الأمور بطريق العرض، وعرفه ببعضها وأعرض عن بعض. وبتنا بذلك المنزل ليلة واحدة، وعندنا إلى مصر أشواق متزايدة. ثم في ثاني يوم قوضنا الخيام، ورحلنا عن ذلك المقام، فأتينا محمية الخانقاه في خامس عشري رمضان، وخرج لإستقبال مولانا قاضيها فخر القضاة شهاب الملة والدين أحمد بن شعبان، وتواتر المستقبلون في ذلك اليوم أفواجًا، وتواردوا للقاء مولانا فرادى وازواجا. فلما كان نهار الأربعاء سادس عشري شهر رمضان أشرفنا على المحمية القاهرة، ولاحت لنا قصورها العالية العامرة، وخرج لاستقبال مولانا - أدام الله تعالى مدده وطوله - جميع القضاة والعلماء وارباب الدولة، ودخل في أبهة عظيمة، ومهابة جسيمة، وكأن الله تعالى ألقى محبة مولانا في قلوب جميع الخليقة، فأستبشروا بمعدلته التي سار بها في دمشق على أحسن طريقة:
وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبة تجري من الأنفاس
وإذا أحب الله يومًا عبده ... ألقى عليه محبة للناس
وخرج جميع أهل البلدة لاستقباله فرحًا، ووافينا دخولها ذلك النهار ضحى، فدخلناها فرحين مستبشرين، وتلونا قوله تعالى " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ".
ثم لما كان السبب الأعظم في هذه الرحلة مشاهدة من ذاته أضحت للمعارف قبلة: علامة الزمان، وواحد الدهر والأوان، أو الأعلم الأفضل الأفخم، والحبر الذي من خصاصه أن تصغي الفصحاء إذا تكلم، والفصيح الذي إذا قال لم يترك مقالا لقائل، والبليغ الذي إذا أنشا أنسى سحبان وائل:
لو أدرك الفصحاء العرب أفحمها ... وقصرت عن معانيه معانيها
ولو جرى عند أهل السبق في طلق ... من البلاغة جلى عن مجليها
ما سيرت حكمة في الناس مذ نشأت ... تجلو صدى القلب إلا وهو منشيها
أعني به سيدنا ومولانا شمس الملة والدنيا والدين، الاستاذ الأعظم والعارف الأفخم سيدي محمد البدري لا زال بيت البلاغة بدعائم بدائعه معمورًا، ولواء الأدب على ملوك براعته منشورًا. فأن هذا العبد مذ أميطت عنه التمائم، ونيطت به العمائم، وتشرف بالعلم الشريف وخدمة أهله أئمة الأقتداء، كان كما لمع من سنا نجده بارق آنست من جانب طوره هدى، وإذا نقلت الرواة أحاديث علومه المعنعنة المسلسلة، وتلت الأفاضل آيات فضله المرتلة، ينشق من تلك الروايات نفحات أنسية، ويجد نفس الرحمن من جهة يمانية. ولم يزل يأنس بتلك الأخبار آونة وأزمانا. والأذن تعشق قبل العين أحيانًا. حتى كلف بها الفؤاد، لكن بنار أوقد فيه جمره، وعلق بالقلب علوق الهوى ببني عذرة:
ألا أن أهوائي بليلى قديمة ... واقتل أهواء الرجال قديمها
1 / 9