ثم حدثنا الشيخ المشار إليه بكثير من حسن المحاضرات، ولطيف المحاورات، التي مانت تصدر بينه وبين فاضلها المرحوم سيدي الشيخ محمد بن ولي الله المرحوم الشيخ علوان، وكان يتعجب من فصاحته وبلاغته التي حارت فيها العقول والأذهان، ويمدح فضائله وفواضله الغزار، ويذكر صفاء العيش الذي قضاه صحبته في تلك الديار، ويشكر ما أسدى إليهمن الفضل والإنعام، وينشد في ذلك المقام:
نزلت على آل المهلب شاتيًا ... غريبًا عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إحسانهم وأفتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
فمن أجل ذلك طاب لي فيها المقيل، وآويت لها إلالى ظل ظليل:
رأيت بها ما يملأ العين قرة ... ويسلي عن الأوطان كل غريب
وقص علينا أحاديث ما شاهده من لطفها ومياهها وجناتها، ودهشتها الغناء وميدانها وبساتينها ومتنزهاتها وما يطرب من تغريد طيورها في السحر، على أعاليالشجر، بفصيح لغاتها، فعند ذلك أنشدته:
لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعليّ أن أبكي بدمعٍ قانِ
ثم أوردنا شيئًا مما تغزل به في محاسنها أهل الدب، وما أطرب من التشبيب فيها بأعين القصب، إلى أن أنتهينا إلى قول القائل:
ما بين صرح وسرحٍ منظر عجب ... تنأى همومك عنه وهومقترب
عاصٍ تتم به الطاعات حيث صفا ... يكاد من رقة باللحظ ينتهب
أنسيت اهلي وكم قد أنسأت رجلا ... قبلي إذا كان للذات يغترب
تشاجر الطير في أشجارها سحرًا ... والماء حيث أجال الطرف ينسكب
يسلي الغريب عن الأوطان رونقه ... في لذة بلداها اللهو والطرب
وافى بنا رجب طيب المقام بها ... فحبذا حبذا شهر التقى رجب
فيا حماة حماك الله فزت بما ... عيا دمشق ولا تحطى به حلب
فالحمد لله حمدًا لا أنتهاء له ... في كل وقت وهذا بعض ما يجب
ثم سألني عن لطفها ولطف الأماكن التي يعهدها فيها الزمن الأول، كقصر أبن حجة ومعاهده التي يمتدح بها في أشعاره ويتغزل، فأنشدته:
وهل عند رسم دارس من معول
وقلت له: يا مولانا أن تلم المنازل والأوطان قد تعرضت لها أيدي الحدثان، ودخلتها في خبر كان، وغيرت منها ما تعهدونه من ذلك الوضع وكاد لسان الحال ينشد عند أطلالها:
فديناك من ربع
ثم أن المشار إليه أطنب في مدح هذه البلدة الغنا، وترنم بلطائف الأشعار وتغنى.
وأنتقلنا إلى مدح دمشق الشام، وأتسعت دائرة بسيط مدحها حيث أقتضاه المقام، فقلنا له: يا مولانا رفقًا أذبت حشاشة المشتاق، وأسلتها دمعًا من الآماق، وبالله عليك إلا ما خففت على هذا المغرم وسليت هذا المروع عنها بالنوى والمتيم، فإن عند هذا الصب حنينا إلى الأوطان ليس يزول، ويكفي في هذا المقام ناهيا قول من يقول:
ولا تذكريني الواديين ولا تري ... لعيني أطلال الربوع فتدمعا
فلولاك ما حن المشوق إلى الحمى ... ولا شام برق الشام من سفح لعلعا
فلما شاهد شدة شوق هذا الصب إلى أحبابه، وان جلده قد وهى، قال راثيًا له:
واهًا له ذكر الحمى فتأوها ... ودع به داع الصبا فتولها
وأنشدنا عند ذلك:
سلام على تلك المعاهد أنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي
ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصالي
فقد صرت ارضى من سوالم أرضها ... بخلب برق أو طروق خيال
وحصل لنا تلك الليلة من مسامرة ذلك الفاضل ما سرينا وابهجنا، وتوجهنا في الصبيحة إلى المنزل لننظر:
أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا ... إن يظعنوا فعجيب أمر من قطنا
فألفيناهم عزموا على المسير من البلدة المذكورة، فتوجهنا لوداع مولانا الشيخ وألتمسنا دعواته المأثورة، فدعا لنا متضرعًا بأدعية صادرة عن صميم الفؤاد، وتلا متيمنًا " أن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ".
1 / 8