فقصدنا الآن الدخول إلى القاهرة، التوجه للسلام عليه ومشاهدة أنوار طلعته الباهرة، وإذا بجنابه الشريف - أطال الله تعالى بقائه وأدام فضله - جاء للسلام على مولانا قاضي القضاة على حين غفلة. فشاهدنا تلك الذات السامية المقام، ولزم مفاجآته ذلك الوقت بالسلام، وقلت له: يا مولانا أن هذا سلام إتفاقي إضافي، ويتلوه إن شاء الله تعالى السلام الحقيقي الشافي. وتوجهنا ثاني يوم للسلام عليه في منزله السعيد، لا برحت ربوعه عالية الذرى، فشاهدنا منه سماء الفضل بدرا مسفرا. وشهدنا من وافر فضله ومزيد لطفه، ما يعجز اللسان عن بعض وصفه. وكان ابتداء مخاطبته ان قال ملاطفا، ونطق عاطفا: وهذا السلام الحقيقي، تلميحا الى قول ابي العلاء ومن بالعراق، وابدى لنا من معارفه ما يعجز عنه نطاق النطاق، وكنا في السابق نظن الناس يطنبون في المسند اليه من المدح، ويقولون: ان كلامه لا يكاند ان يكون من قوة البشر بل من قبيل الفتح. حتى شاهدنا ذلك راي العين فوجدناه يعجز عن وصفه الكيف والاين. وراينا اطنانهم في مدحه في غاية الايجاز، ومطول وصفهم مختصرًا بالنسبة الى ما قامت عليه " دلائل الاعجاز " فعند ذلك تمثلنا بقول القائل:
لقد كنت في الاخبار اسمع عنكم ... حديثا كنشر المسك اذ يتضوعد
فلما تلاقينا وجدت محاسنا ... من اللطف اضعاف الذي كنت اسمع
وبالجملة فجميع من في القاهرة - وهي ام الدنيا - من العلماء اذا نسب اليه يكون هباء منثورًا، واذا قيس عليه لم يكن شيئًا مذكورًا. وفي الحقيقة فما علماء هذه الديار، الا كالنجوم وهو كالشمس في رابعة النهار، مشى في كل فن سويا على سراط مستقيم، وتلا لسان الكون على من قصر عن رتبته " وفوق كل ذي علم عليم " حاز قصبات السبق في علم التفسير، وفاق الاوائل والاواخر بحسن التحرير فيه والتحبير، لا يهتدي احدهم لسلوك طرائقه، وغوامض دقائقه، ولا يغوص على شيء مما يبرزه في تقرير من درر حقائقه:
إذا عد أهل الفضل يومًا فكلهم ... على فضله لو ينشرون عيال
ترى عنده ما عندهم من فضيلةٍ ... وفيه خلال فوقها وخلال
أُجِلُّ معانيه البديعة أن يحصرها بياني، أو يسطرها بنان قلمي وقلم بناني:
وكيف أطيق البحث عن بعض فضله ... وقد كل فيه السن الفضلاء
أقر بعجزي حين أحصي خصاله ... فما لي سوى ختم بخير دعاء
أبقاه الله تعالى إمامًا اصطفت خلفه صفوف البلغاء، فأمهم بنوافل بره، فرأوا شكر ذلك فرضًا مؤبدا، وأطنبوا في حمد أوصافه، ولا غرو أن أصبح بها محمدًا. وقد حصل بين العبد وبين حضرته السعيدة، مودة خالصة ومحبة أكيدة، مؤسسة على قواعد الإخلاص، ومؤكدة من توابع الود بمزيد الاختصاص.
هذا ومما كتبته لحضرته العلية، صحبة شيء من قلب الفستق أهدي لنا من الديار الحموية، ما صورته:
لما تملك قلبي حبكم فغدا ... مجردًا منه قلبًا رقّ واستعرا
حررته فغدا طوعًا لخدمتكم ... محررًا خادمًا وأفاك معتذرا
فقابلوه بجبر حيث داءكم ... مجردا بمزيد الحب منكسرا
يقبل اليد الشريفة، ويلثم الراحة اللطيفة، وينهي إلى الحضرة العلية، عظم الله شأنها، وصانها عما شأنها، أنه اهدى غليه من تلك الديار ما يناسب اهداؤه لأرباب القلوب، ويلائم غرساله لاصحاب الغيوب، فقدم العبد رجلًا وأخر أخرى، في أن يهدي إلى جنابكم الشريف منه قدرًا، علماص بأنه شيء حقير، لا يوازي مقامكم الخطير، وقد توارى بالحجاب حيث وافاكم وهو حسير وما مثل من يهدي مثله إلى ذلك الجناب، إلا كالبحر يمطره السحاب، ثم أنه تهجم باهداء هذا القدر اليسير، فان وقع في حيز القبول انجبر القلب الكسير. ولا يعزب عن علم مولانا بلغه الله أملا، النمل يعذر في مقدار ما حملا، والسلام.
ثم اجتمعت بعد ذلك بجنابه الشريف، فكان من خطابه المنيف، أنه قال: ما يقول اللسان في هدية كلها قلب، وانشدني بديها في معنى ذلك بيتًا جمع فيه المحاسن وهو مفرد، واشتمل من اللطف على مزيد وهو مجرد، وهو:
بحاميم اقسم أني فتى ... صديق حميم بقلبي محب
ثم صار مجلسه الشريف إذ ذاك غاصًا بأفاضل الأنام، واعترض في أثناء الخطاب مع حضرته جمل من الكلام، فقال معتذرا: إن هذا من نظم الوقت، وأن لم يكن هذا وقت النظم.
1 / 10