وانتهت دورة الزميل على مستشفيات القاهرة كلها، وقد عاد بلتر واحد، آخر لتر من الدم في البلد، وآخر ما نتعلق به، وقد يئسنا من الأمل.
وكنا قد يئسنا.
فصدره الصاعد الهابط كان قد بدأ يخرخش، والفقاقيع التي تكونت في كرات حول فمه، وسمرته أخذت مكانها رمادية لا تمت إلى الأحياء.
وكثيرا ما رأيت أناسا، ورأيت جرحى، ورأيت جرحى يموتون، ولكن كان صعبا علي أن أصدق أن عبد القادر سيموت. كان قد أقبل في أول الليل فما أحسست أن في صدره رصاصا، وقضيت بجواره ساعات، خمس ساعات. أسمع حديثه اللاهث، وأرى فتوته تنكمش وتنكمش، والعملاق الذي كان يضمر ويضمر، وجسده الذي كان قد ابتلع الجروح فما ظهر لها أثر، أصبح كل ما فيه الجروح، وكنت أكثر الوقت معه وحيدا، وكان هو خائفا من الموت، وكنت خائفا عليه، وكان كلانا عنده أمل. كنت أستمد أملي من الزجاجات والمورفين وحمام الكهرباء، وكان يستخلص أمله من أملي، ويناضل وهو يستخلصه كما يقاتل وهو يستمد الهواء.
وكان يقول لي في أول الليل: يا دكتور، وكنت أقول له يا كابتن، ثم ناداني باسمي، وناديته باسمه. وكان الوقت يمضي، في بطء ثقيل، وكانت الأحداث كثيرة تكاد تستغرق عمرا بأكمله، وكنت أحس طوال العمر الثقيل أنه مضروب في ظهره، وأنه مغتال، وأنه مظلوم؛ لأننا كلنا مظلومون.
وما كنت وحدي الذي حدث له هذا.
كنت والممرضة والتومرجي قد ألف بيننا ذلك العمر، وهدتنا الخمس ساعات، وصاحبنا عبد القادر في رحلته، فعزت علينا الصحبة، وأصبحنا كالأسرة الواحدة ذات الجرح الواحد.
وكان اليأس هو أمض ما نستطيع ابتلاعه.
وكان اللتر الأخير الذي جاء به الزميل أهم حدث في ليلتنا.
ورحنا نعالج وضعه وإحكامه بحرص، ونكل في البحث عن وريد نضع فيه الإبرة، وقد اختفت كل الأوردة، فلا تومرجي أو حكيم، إنما مجموعة من البشر تكافح من أجل إنسان، إنسان قد أصبح عزيزا عليها.
Halaman tidak diketahui