وبعد هذا اليوم الذي ابتدأ فيه غرامنا الحقيقي، صرت أقابلها كل أسبوع في منزلهم، ففي ذات أسبوع خرجت من المدرسة وذهبت إلى المنزل، فلما دخلت محل الاستقبال وجدت والدها جالسا وبيده جريدة، فلما رآني سلم علي وأجلسني بجانبه، وأخذ يسألني عن أحوالي في المدرسة وعن عدم مقابلتي له أغلب أيام الجمع، فأجبته: «إنني كنت دائما أحضر هنا، ولكن لم أكن أراكم في المنزل، وكنت أمضي أغلب الوقت مع سكينة نتباحث في الدروس - دروس الغرام»، فسألني: «هل تقرأ الجرائد؟» فأجبته: «إني لا أعتني بها، ولكن لي صديق في المدرسة مولع بقراءتها حتى إذا مر عليه يوم بدون أن يعرف الأخبار فإنه يتكدر.» - ومن هو هذا الصديق؟ - هو فتى من الشبان الأذكياء، وكل التلامذة تحبه وتمدحه؛ لأنه يحب وطنه كما يحب نفسه. - ولم لا تكون مثله، هل الوطن وطنه وليس وطنك؟ - نعم، إنه وطني وأغار عليه وأحب له السعادة، ولكني لا أهتم كثيرا بالأمور السياسية، ولا أشغل وقتي بها كما يعتني ذلك الفتى، فإنه يجمع التلامذة وقت الفراغ ويتكلم عما يجب على الشبان أن يعملوه لرفع شأن بلادهم من بث التعليم وتهذيب جهال الأمة، ولكني أظن أن كلامه يذهب أدراج الرياح؛ فإنه إذا لم تهتم الرجال الكبار بمصالح البلاد فإن الشبان لا يعملون شيئا، فهم كشجيرات بجانب أشجار كبيرة.
فقال: «ولكن الأشجار الكبيرة تتساقط أوراقها وتنكسر فروعها، وليس فيها ماء نمو ولا غذاء حياة، وأما الشجيرات فوإن كانت صغيرة ولكنها آخذة في النمو، وعندما تجف الأشجار الكبيرة الضخمة غير النافعة تفسح مكانا للشجيرات تنمو فيه وتتمتع بجو الصفاء لا يشاركها مشارك، وإذا كانت هذه الشجيرات معتنى بأمرها من الصغر نمت نموا عظيما وأفرعت وأثمرت أحسن ثمار تستفيد منه البلاد في الحال والاستقبال، وإلا فالعكس ظاهر. ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من وهدة الدمار والانحطاط، فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون لصالحها كما يسعون لصالح أنفسهم، متحدين، مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم، وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛ لتقوم بكم ما أعوج من أمورها، فكونوا معها لا عليها.
وهب أنكم لا تجنون ثمار اجتهادكم، ولا إخالكم إلا جانيها في حياتكم، فإنكم تبقون ذكرا حسنا لأبنائكم يتناشدونه بعدكم. وأنتم تقولون إنهم غرسوا شجرة الإهمال فأكلتم ثمرها استعباد الغير لكم، فاغرسوا أنتم شجرة النشاط تتمتعوا برؤية نموها في حياتكم وتجني بعدكم أولادكم ثمرها؛ السعادة والحرية، ويدعون لكم لا عليكم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.»
فأجبته قائلا: «إننا نسمع عن شبان أوروبا من الأعمال والنشاط ما يحير أفكارنا، ولا سيما حيث نسمع أنهم يتركون بلادهم ويذهبون إلى بلاد أخرى، والإنسان منا يخاف أن يخرج من بلده، كل ذلك يجعلنا نظنهم من طبقة أعلى من طبقتنا في القوى العقلية والبدنية.» - لو اعتبرت الحقيقة فأنتم أفضل من شبان أوروبا الذين نسمع بمدحهم؛ لأن آباءهم غرسوا لهم السعادة فجنوا ثمارها بالراحة والشرف وساعدوا على زيادة نموها، وأما أنتم فالحالة معكم بالعكس، فإنه فضلا عن أن آباءكم لم يغرسوا لكم شيئا فإنهم لم يتركوكم وشأنكم بل زادوا الطين بلة، وأما عن سفرهم إلى خارج بلادهم فذلك أمر لا يستغرب، ولا يكسبهم فخرا عظيما؛ لأنهم أنى يحلوا يكرموا، وأنى ينزلوا يعظموا، يخرجون من بلادهم لا يملكون شروى نقير فيعودون وقد ملئوا الأوطبة من الأصفر الرنان، كل ذلك بمساعدة إخوانهم في مستعمراتهم التي أوجدها لهم آباؤهم، والمكسب يولد النشاط، وأنتم أين تذهبون إن أردتم؟ أإلى أوروبا فتموتون من الجوع إن فقراء وتصرفون أموالكم إن أغنياء، والوبال في الحالتين، أم إلى البلاد المتوحشة تذبحون وتقتلون، ولا من يسأل عنكم، لا سفير ولا وزير، ولا تحميكم قوة مثل قوة بلادهم؟ شبانهم يترنمون بما فعلته أجدادهم لرفع شأن بلادهم وأنتم بمن تترنمون وبمن تفتخرون؟ شبانهم سعداء وأنتم تعساء. فاسعوا لإزالة هذه التعاسة، إن لم يكن عنكم فعن آبائكم.
فلما رأى علامات التأثر ظاهرة واليأس باديا على وجهي، قال: «لا تظن أن الزمان يستمر على هذه الحال؛ فإنكم ولا شك أحسن من إخوانكم الذين تقدموكم، فأنتم تربون الآن وتعرفون ما لكم وما عليكم ولذلك ترون تعبا في حياتكم، أما الشبان الذين تقدموكم فقد كانوا أسعد بالا لجهلهم، و«لذة الدنيا لمن جهلا»، والحالة تبشر بالنجاح، وإن التأثير الذي ظهر على وجهك يدلني على حسن عواطفك وحبك لبلادك وإخوانك، فساعد صديقك الذي تقول عنه؛ فإن الأمم تشقى برجال قلائل وتسعد برجال قلائل.
ولما قرب ميعاد المدرسة استأذنته وخرجت وأنا منشرح الصدر من محادثة ذلك الرجل العاقل الكامل، وتأسفت قليلا لأني لم أقابل سكينة التي بلغني أنها ذهبت لزيارة بعض العائلات مع والدتها، وعلى مثل هذه الحال مرت السنة وأنا أقابل سكينة كل يوم جمعة، ولما جاء فصل الصيف ذهبت أسرة سكينة إلى الرمل، وقد قضينا مدة المسامحة في تمثيل رواية الغرام، حتى جاء وقت المدرسة وودعت حبيبتي بفؤاد مندمل من الفراق، ولكن على أي حال مسرور بحبها.
ولما وصلت إلى المدرسة واجتمعت بالإخوان وأمضينا الأسبوع وخرجنا يوم الجمعة، تذكرت أيام وجود سكينة بالقاهرة، والأوقات التي أمضيتها معها في مثل ذلك اليوم، ثم خطرت ببالي أيام المسامحة، ولكني كنت أخفف لواعج الغرام لثقتي بحبها، ولم أعلم ما تخبئه الحوادث وتبطنه الأيام.
الفصل الثالث
إيه عصر الهناء لو أبت أو لم
يعر أيامك العزاز انقضاء
अज्ञात पृष्ठ