وبينما أنا أتفكر وإذا بيد وضعت على كتفي بلطف، فالتفت فرأيت صديقي ... فقال لي: أنت هنا وأنا أبحث عليك في الحوش والمذاكرة ومحل الأكل! - أنا هنا من الساعة السادسة وما فوق. - لكن لم أرك في العشاء. - وهل أكلتم؟ - أي نعم، من ساعة مضت. - ظننتكم لم تأكلوا للآن. - مسكين! ألم تأكل؟ وأين كنت من الساعة السادسة؟ أكنت واقفا هنا؟! ... أنت كثير التفكر يا صديقي، لا بد أن أفكارك منشغلة بأمر مهم، هل أنت في حاجة للأكل؟ - لا؛ لأني أكلت متأخرا. - وأين كنت اليوم؟ - في انتظار بعض أقاربنا على المحطة.
ولما كان صديقي المذكور من الشبان المطلعين على أشعار العرب وآدابهم وهو من النابغين في الشعر، سألته أن يسمعني بعض أبيات غزلية، فلما سألته ذلك قال: ولماذا تطلب أشعارا غزلية، هل أنت مغرم؟ - لا، ولكن أحب الشعر العربي، وخصوصا المؤثر منه، فهل تحفظ شيئا من شعرك أو من شعر غيرك؟ - يعجبني قول ابن زريق:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
وكم تشفع أني لا أفارقه!
وللضرورات حال لا تشفعه
وما كاد يفرغ من إنشاده حتى دق جرس المذاكرة، وبعد ساعة ذهبنا إلى عنابر النوم فنمت، والقارئ اللبيب يعرف كيف كان نومي وسهادي. ولما استيقظت في الصباح أديت فرضه، وعلى مثل هذا الحال من الشوق والقلق مر الأسبوع، وذهبت إلى منزل سكينة ولما دخلت وجدتها في انتظاري في الحديقة، ثم بعد السلام أخذت تسألني عن المدرسة وأحوالي حتى استطردت إلى ذكر غرامي، وقالت: ألا تقول لي اسم من هويتها لكي أتوصل إليها وأميل قلبها نحوك فإن الغرام أنحلك. - أنا لا أكلفك الذهاب إليها، ولا أظنك تقصدين الذهاب، اللهم إلا إذا كان كلامك هذا من باب المغالطة. - ماذا تقصد بذلك، ومن باب المغالطة؟ - أنت تعرفين من أهواها، لو كان في قلبك ما في قلبي. - وحرمة تربيتنا معا لا أعرف من تعني ومن تهوى! غير أني أقول لك إنك أخطأت في حبك لها خطأ عظيما. - أنت تجرحين عواطفي قبل أن أجرح عواطفك، نعم إنها من عائلة أغنى من عائلتي ولكن الحب يجمع بين الكبير والصغير. - أنت تقول إنني جرحت عواطفك، وأنت قد جرحت عواطفي من أسبوع مضى وما زلت تجرحها، ولم تكن هكذا آمالي منك. دعنا، هل حبيبتك غنية؟ وفي اعتقادي لو كانت تحبك كما تحبها لا تمنع ثروتها من الاقتران بك. - كفاني محاولة يا سكينة، أنت لا تحبينني كما أحبك، ألا تعرفين من أهواها؟ - قلت لك لا أعرفها وحياة حبك لها! - كفى يا سكينة، ألا يعرف الإنسان، ألا تعرفين نفسك؟!
فلما سمعت مني هذه الكلمة احمرت خدودها وطوقتني بذراعها، وبقينا كأننا سكرى من خمر الغرام المودع في طبقات النسيم، ولم أدر إلا وقد مر علينا على الأقل نصف ساعة زمانية ونحن ذهول من لذة الهوى، فحمدت الله حيث لم يأت والدها أو والدتها أو خادمتها فيروننا على تلك الحال، ثم قالت سكينة: إني كنت واهمة في حقيقة أقوالك، فأنت تحبني كما أحبك. وأخذت يدي ووضعتها بين يديها وضغطت عليها فشعرت بحرارة تدب في مفاصلي، ومسكت يدها وقبلتها، ثم قلت لها: «الآن يرتاح فؤادي؛ فأنت تحبينني كما أحبك.» - وهل عندك شك في ذلك؟ - إن الشك هو الذي أضناني. - لقد أسأتني بسوء ظنك، فكيف أحب غيرك؟ - بل أنت أسأتني بسوء ظنك، فكيف لا أحبك؟ - إذن فلنعش كما نشاء، وكما يشاء الغرام.
अज्ञात पृष्ठ