بعد مضي شهرين من السنة، في صبيحة يوم من شهر ديسمبر سنة 1894، ناولني أحد التلامذة تلغرافا ففتحته بقلب ثابت ظنا مني أنه ربما كان من سكينة تخبرني بأنها ستمضي فصل الشتاء مع والدها بالقاهرة وتود أن تراني على المحطة، ولكن ما وقع نظري على الكلمات الآتية حتى اضطربت مفاصلي وجمد الدم في عروقي:
إسكندرية الرمل الساعة 5,8 صباحا.
ولدنا أمين فريد بالمدرسة التوفيقية.
احضر حالا بأول وابور.
والدك
فتحيرت في أمري، ولم أعرف لذلك سببا سوى أن يكون والدي مريضا، أو أن سكينة حصل لها أمر لا سمح الله، ولكن ذهبت في الحال إلى الناظر واستأذنته في السفر، وكانت الساعة 9 فتمكنت من لحوق إكسبريس 9,5 الذي يصل إسكندرية الساعة واحدة، ولما وصلت إلى محطة سيدي جابر وجدت خادمي في الانتظار وعيناه مغرورقتان بالدموع، فلما رأيته على تلك الحالة ارتعشت مفاصلي وخفق قلبي وشعرت بقرب مصاب أو أمر خطير، فسألت عن صحة والدي فأجابني: «إنه بخير»، «وكيف حال سكينة ووالدها؟» فقال: «بخير»، «ولكن ما السبب في استدعائي هنا فجأة؟» - أمر مهم لا أعرفه. - ولماذا تبكي؟! أخبرني.
فهملت دموعه، ولعلمي أن هذا الخادم أمين وأنه يحب والدي محبة عظيمة، تيقنت أن والدي حصل له شيء، فكررت السؤال فأجاب: إن والدك مريض. - مريض! هل في خطر؟ - نعم، في خطر.
فشعرت بارتخاء في مفاصلي وزيادة خفقان في قلبي، فسألت الخادم: «هل يمكن والدي أن يتكلم؟» فأجاب: «إنه يتكلم قليلا.»
ثم جاء القطار فركبنا وأنا في حالة لا أقدر على شرحها، وليس لي إلا أن أتركها للقارئ اللبيب، ليتصور حالة شاب لا يعرف له أقارب ولا أما ولا أخا سوى ذلك الوالد الذي أصبح على شفا جرف هار.
ولما وصلنا إلى محطة باخوص أسرعت بالمشي إلى البيت، فقابلني والد سكينة وسلم علي، ولكني بدأته قائلا: كيف حال والدي؟ - والدك بخير، سكن روعك، ما لي أراك متغيرا؟! - ولكن الخادم يقول غير ما تقول. - الخادم جاهل لا يعرف شيئا، وقد طمأننا الحكيم على صحة والدك، وأنه يشفى بعد قليل من الزمن، غير أنه يحتاج للراحة قليلا، وهو نائم الآن فلا تدخل عليه لئلا يستيقظ؛ فالنوم قد يكون للمريض دواء. اجلس يا ولدي.
अज्ञात पृष्ठ