ونعود إلى غارة إيطاليا على طرابلس الغرب فنقول: إنها وإن كانت قد اعتذرت بكون الإنجليز والفرنسيس تقاسمتا أفريقيا، ولم تبقيا لها شيئا غير طرابلس الغرب فاضطرت إلى احتلالها، فإنه لم يكن من ضمير حي، ووجدان قوي، ليقبل هذا التعليل ويجعله حجة!!. وإن كان مما لا شك فيه أن إنجلترا وفرنسا كانتا على وفاق مع إيطاليا في قضية طرابلس. ولذلك عند ما استغاثت تركيا بدول أوروبا جمعاء مما فعلته إيطاليا أصمت إنجلترا وفرنسا آذانهما عن سماع نداء تركيا !! وليتأمل المتأمل في تلوي السياسة ودناءة مباديها، وذلك عندما يرى أن اعتداء إيطاليا على طرابلس لم تقابله إنجلترا بأدنى كلمة استنكار، على حين أنها اليوم تحشد إنجلترا 180 بارجة حربية، وتجمع كلمة خمسين دولة من أعضاء جمعية الأمم على مقاطعة إيطاليا التجارية بحجة أن إيطاليا شنت الغارة على الحبشة ظلما وعدوانا، كأن الغارة على طرابلس لم تكن ظلما وعدوانا!! كأن الغارة على طرابلس لم تكن ظلما وعدوانا!! يحللونه عاما ويحرمونه عاما، ويفضحون أنفسهم أمام التاريخ ولا يبالون بما يقال عنهم.
أرسلت إيطاليا في 29 سبتمبر سنة 1911 أسطولا عظيما إلى مرسى طرابلس فأنذر البلدة بالضرب إن لم تستسلم له، فأبت البلدة الخضوع بدأ يرميها بالقنابر وما زال يرميها حتى تمكن من احتلالها في 7 أكتوبر ولم يكن فيها قوة من الجيش لا في العدد ولا في العتاد، وإنما كان الأهالي العرب هم الذين تولوا كبر المقاومة. وبعد أن نزل الطليان بساحة طرابلس حاول العرب أن يردوا العسكر الإيطالي إلى البحر، فاقتتل الفريقان من 23 أكتوبر إلى 26 منه بشدة نادرة المثال، وكاد العرب يقلعون الطليان من طرابلس، ولولا امتناع الطليان بقلاع طرابلس لأخرجوهم منها ولكنهم امتنعوا ريثما تكاملت جموعهم بوصول الامدادات من البحر، ورد والعرب إلى الوراء بعد أن لحقت بالطليان خسائر جسيمة. ومن شدة ما لحق بهم من الخسائر ارتكبوا فظائع لا تزال وصمة عار عليهم في التاريخ، وذلك في حادثة المنشية التي ذبحوا فيها الأهالي ولم يستثنوا أحدا ولا النساء ولا الأطفال!! ونشرت ذلك الصحف الأوروبية - حتى الصحف المعادية منها للإسلام - فانكفأ الطرابلسيون إلى «واحة عين زارة» فتقدم الطليان بقوة كبيرة وأخرجوهم منها، فانكفأوا إلى «غريان» وصاروا يناوشون الطليان القتال بينها وبين مدينة طرابلس. وقد طرح مبعوثو طرابلس قضية بلادهم في مجلس الأمة العثمانية، فحصلت المناقشات فيها فتبين من إهمال الحكومة العثمانية في ظل الدستور والحرية ما لم يكن معهودا في زمن السلطان عبد الحميد الذي رموه بكل سوء. فمن جملة ذلك أن حامية طرابلس كان ينبغي أن تكون بحسب النظام 17 تابورا من المشاة و10 كواكب من الفرسان، وست بطاريات من مدافع الصحراء، والحال أنه لم يوجد في كل طرابلس إلا أربعة آلاف جندي نظامي لا يزيدون، وأنه كان أهالي طرابلس قد اقترحوا التجنيد من تلقاء أنفسهم، وقرر المجلس في السنة السابقة النفقات المالية لذلك، وعند ما حضر الشبان للتجند وكانوا ستة عشر ألفا لم تقبل القيادة منهم إلا ثلاثة آلاف وأربع مئة. وكان يوجد في طرابلس أربعون ألف بندقية من نوع مرتيني ونوع شنيدر، فاسترجعتها الحكومة إلى الأستانة على وعد أن ترسل بدلا عنها أربعين ألف بندقية موزر، فنسيت الحكومة هذا الوعد ولم ترسل شيئا، وتبين أنا المشير إبراهيم باشا الذي كان واليا لطرابلس قبل ذلك بسنوات اقترح تأسيس معمل سلاح وقراطيس للبنادق في نفس طرابلس وكتب إلى الباب العالي بأن أهالي طرابلس أشداء ذوو بصائر في الحروب إذا أغارت عليهم دولة أجنبية يقدرون أن يدفعوها عن بلادهم، بشرط أن يكون عندهم الأعتدة والأسلحة الكافية، ولما كان لا يوجد عند الدولة قوة بحرية تؤمن إيصال الأسلحة إلى طرابلس فيما إذا أغارت على هذا القطر دولة كدولة إيطاليا، فإنه يجب إرسال كمية وافرة من الأسلحة إلى ثكن طرابلس، وتأسيس معمل للسلاح أو للرصاص بالأقل في نفس طرابلس، بحيث يكون في أيدي الأهالي عدة كافية يدافعون بها عن أنفسهم عند الحاجة، فهذا الاقتراح أهمله الباب العالي ولم ينظر فيه برغم النذر الكثيرة التي كان يتلو بعضها بعضا بأن إيطاليا تتأهب من زمن طويل للإغارة على طرابلس وبرقة.
بل حدثني من أثق به من زعماء الطرابلسيين.
ومنهم كبيرهم السيد أحمد الشريف السنوسي رحمه الله بأن الدولة في زمن السلطان عبد الحميد كانت ترغب في تجريد أهالي طرابلس من السلاح، وتكبس الزوايا السنوسية التي تظن فيها وجود أسلحة وأن انتقال السيد المهدي السنوسي من واحة جغبوب إلى واحة الكفرة على مسافة 25 مرحلة من بنغازي إلى الجنوب كان أصل السبب فيه اعتقاد المهدي السنوسي أن هذا القطر سيتعرض في يوم من الأيام لاحتلال إيطاليا، أنه سيحتاج الأهالي إلى السلاح حتما، والحال أن الدولة العثمانية - بعماية قلب غير مفهومة - كانت تحاول تجريد الأهالي من أسلحتهم، ولا تريد أن تدرك أن هذا القطر دون غيره هو تحت خطر غارة أجنبية لا تقدر الدولة أن تدفعها إلا إذا كان الأهالي متسلحين. فالسيد المهدي السنوسي رضي الله عنه كان يرى ضرورة التسلح في وجه الأجانب، ولكنه لم يكن يريد أن يخاصم الحكومة العثمانية التي كانت ضد هذا الأمر، فأوغل في الصحراء وسكن في الكفرة بعيدا عن الحكومة، وذلك حيث يمكنه أن يتسلح هو ومن معه، وأن يستقل بآرائه. ولما ذهبت أنا إلى برقة لأجل الجهاد بعد الغارة الإيطاليا ببضعة أشهر، سمعت أن متصرف بنغازي كان قبل حرب طرابلس بشهرين يكبس زاوية من زوايا السنوسيين اسمها زاوية القطفية بتهمة أنه مخبأ فيها سلاح.
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
ولما اجتمعت بأنور رحمه الله بمعسكر عيد منصور فوق درنة، حيث أقمت ثمانية أشهر مجاهدا. كنت أتحدث إليه بما في نفسي من تقصيرات الدولة الفظيعة بحق طرابلس، وكان يوافق على ذلك كله ولا يجد عن إهمالها عذرا.
ثم إنه كان تقرر لدى الدولة تعليم أهالي طرابلس الحركات العسكرية، وأن هذا القرار أيضا قد أهملته الحكومة، ولهذا طلب مجلس الأمة محاكمة حقي باشا وزملائه الوزراء لأجل ما ارتكبوه من هذه الإهمالات كلها، فلم ينفذا القرار بسبب أن بعض الوزراء كانوا من أركان الاتحاد الترقي، فكيف يمكن الجمعية أن توافق على إدانتهم ومحاكمتهم؟ فبقي هذا القرار من المجلس حبرا على ورق.
وكان الصدر الأعظم سعيد باشا قد جنح إلى الصلح، لأن إيطاليا كانت قد احتلت رودوس والجزائر التي تجاورها، وكان البحر في يدها، ولم يكن الأسطول العثماني كفؤا للأسطول الإيطالي. فكان الصدر يرى وجوب الصلح على شرط إبقاء السيادة العثمانية على طرابلس ولو بالاسم، وحفظ حقوق الخلافة الإسلامية، وكانت هذه سياسة دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف، إلا أن الرأي العام الإسلامي كان ضد التساهل في قضية طرابلس، لا سيما عندما رأى المسلمون أن عرب طرابلس لبوا داعي الجهاد بشكل لم يكن منتظرا، ووقفوا في وجه إيطاليا وقفة كان الأوروبيون أنفسهم لا يصدقونها لو لم يروها بأعينهم!. فإيطاليا كانت تظن بحسب المعلومات التي عندها ضعف الحامية العثمانية في طرابلس، أنها تستولي على هذا القطر في مدة لا تتجاوز 15 يوما، وهل لا تشك في ذلك، ولما سمع اللورد كتشنر بظن إيطاليا هذا - وهو القائد المحنك المشهور - وكان يومئذ المندوب السامي البريطاني في مصر قال: إني أرى الطليان مفرطين في التفاؤل، وإن تجربتي الطويلة في حروب أفريقيا تجعلني أخطئ هذا الرأي وأقول: إن احتلال إيطاليا لطرابلس الغرب وبرقة قد يستغرق ثلاثة أشهر... فهذه الثلاثة الأشهر التي ضربها أمدا اللورد كتشنر القائد الإنجليزي الكبير، المنجذ في حروب العالم الإسلامي، والخمسة عشر يوما التي ضربتها إيطاليا أمدا لتمام الاستيلاء على طرابلس، كانت لدى الفعل عشرين سنة تامة، وما انتهت إلا بأسر الشهيد عمر المختار وشنق الطليان إياه وذلك سنة 1931 ولو كان أهالي طرابلس يملكون ما فيه بلغة من العتاد والذخيرة لكانوا إلى اليوم حامين لساحتهم. فإيطاليا بعد غارتها على طرابلس بشهرين أو ثلاثة أوصلت جيش الاحتلال هناك إلى مئة ألف عسكري، ولكنها لم تقدر أن تتقدم إلى الأمام شبرا واحدا، بل كان جيشها في نفس مدينة طرابلس، وفي بلدة خمس، وفي مدينة بنغازي التي لم تقدر العساكر الإيطاليا أن تنزل فيها إلا بعد معركة استمرت ثلاثين ساعة، وجرى فيها من الوقائع ما تشيب له ذوائب الأطفال واحتل الطليان أيضا بلدة درنة على البحر في ذيل الجبل الأخضر، وموقع طبرق من البطنان، أي أنهم لم يكونوا داسوا من أرض طرابلس سوى هذه المدن الأربع، بينما لهم هناك مئة ألف عسكري تمدها البوارج الحربية من البحر!!
وكان أنور ملحقا عسكريا بسفارة الدولة في برلين، وكان علي فتحي ملحقا عسكريا بسفارة الدولة في باريز، فخف أنور من برلين إلى الأستانة يقصد الجهاد في طرابلس، ولما أبدى اقتراحه وجوب تسفير جانب من الضباط إلى طرابلس لم يعتقد أحد في الأستانة بأن ذلك يؤدي إلى فائدة عملية، ولما استأذن لنفسه في الذهاب إلى طرابلس قال له محمود شوكت باشا ناظر الحربية: لا أرى فائدة منس فرك، وربما يقتلك العرب في الطريق لأن الطليان يقدرون أن يرشوهم بالمال فيغتالوك؟! فقال له أنور: لقد أهملنا طرابلس إهمالا فظيعا ضاقت فيه فسحة العذر، فيجب علينا أن نعوض تفريطنا في حقها، وأن نبذل كل ما نستطيعه في سبيل الدفاع عنها، وإذا كان العرب يقتلوننا في الطريق فيكون الذنب ذنبهم، ونعود نحن معذورين. قال لي هذا أنور من فمه في معسكر درنة، وقد وقعت بيني وبينه مودة أكيدة، وخلطة ارتفع فيها التكليف بيننا، واستمرت هذه المحبة منذ تعارفنا في عين منصور سنة 1912. ولما رأت الدولة إصرار أنور على الجهاد بنفسه في طرابلس، أدت إليه خمسة آلاف جنيه لا غير لاعتقادها عقم حركته هذه، فذهب ومعه عدة ضباط مروا من مصر متنكرين، وكان مصطفى كمال من جملة هؤلاء الضباط.
ولم يصلوا إلى السلوم حتى وافتهم الأخبار بأن قبيلة من العرب يقال لها الشلاوية وهي من القبائل الصغرى أوقعوا بتابورين من الطليان وردوهم مدحورين إلى درنة وغنموا منها أسلابا كثيرة. فاشتد بهذا الخبر عزم أنور، وأغذ السير، فأول ما لاقى زعماء العرب ومشايخ الزوايا السنوسية في زاوية مرطوبة، وكان العرب ناقمين على الدولة إهمالها أمر طرابلس، ذاكرين تلك الحماقة التي كانت تظهر من عمالها في تجريدهم من سلاحهم، فقالوا لأنور: إننا لا نمشي ولا نقاتل حتى تأتينا بالأسلحة والذخائر الكافية وبالمدافع. فأجابهم بأنه سيأتي بكل ذلك، وكان مقصده بهذا الوعد الفارغ إثارة حماستهم حتى ينغمسوا في الحرب، وإلا فهو كان يعلم صعوبة تهريب السلاح إلى طرابلس وبرقة، فإن الأسطول الإيطالي كان مراقبا السواحل مراقبة شديدة فلم تتمكن تركيا من تسريب الأسلحة إلى المجاهدين إلا في الأندر. والذي أعلمه أنه من محمول البواخر العديدة التي أرسلتها الدولة لم يصل إلا محمول باخرتين لا غير، إحداهما تمكنت من التفريغ في سواحل برقة، والأخرى تمكنت من التفريغ في ساحل طرابلس لأول هذه الحرب .
अज्ञात पृष्ठ