وعندما قرئ برنامج الوزارة الجديدة في المجلس نالت 187 صوتا ضد 34 من المعارضين. واستنكف 21 مبعوثا عن إعطاء أصواتهم، فكان مبدأ وزارة حقي باشا مؤذنا بالنجاح، إلا أنه كان الأمر لا يزال في يد الاتحاديين، فاشتدت من أجل ذلك المعارضة. وكان حقي باشا ومحمود شوكت باشا ورفعت باشا من أعضاء الوزارة معتدلين، على حين أن طلعت بك وجاويد بك وحلاجيان أفندي كانوا يريدون إجراء برنامج الاتحاد والترقي «بزرة وعروته» فوقع الخلاف في وسط الوزار وصار الاتحاديون الغلاة يريدون إسقاط حقي باشا من الصدارة، وفي ذلك الوقت جرت ثورة الأرناؤوط وأساسها أنه بعد مؤتمر برلين تألفت جمعية في بلاد الأرناؤوط مبدؤها المحافظة على الوطن الألباني، وهذه المحافظة كانت تقتضي مقاومة الأروام من جهة، والسربيين من جهة أخرى. فنظر السلطان عبد الحميد إلى الموضوع فوجده موافقا لسياسته ولسياسة الدولة العثمانية، فأخذ يقوي الأرناؤوط عمدا ويمدهم بالمال، ويوليهم المناصب ويعتمد عليهم أكثر من سواهم. وما عاشت الجمعية الأرناؤوطية إلا بفضل إمداد السلطان عبد الحميد لها، فقد كان يتخذ الأرناؤوط ردها له في مقاومة البلقانيين الذين ينوون الاستيلاء على بلاد الرومللي كالسرب والبلغار، واليونان، وكان أيضا يتخذ الأرناؤوط بطانة له ضد حزب «جون تورك» الذي كان يعلم أنه لن يرضى عنه. وكان بلغ عدم ثقته بالترك أنه جعل الحرس السلطاني الخاص كله من العرب والأرناؤوط، فكان حول قصر يلدز بضعة عشر تابورا من العساكر نصفها من العرب بزي خاص بهم يلبسون العمائم وأكثرهم من عرب اليمن، والنصف الآخر كان من الأرناؤوط بزيهم الخاص. وكان قد اعتنى جد الاعتناء بتعليم هذا العسكر الخاص وتدريبه وترفيه معيشته، والتأنق في كسوته حتى صار من الطبقة الأولى في عساكر العالم، لا يفضله عسكر آخر. ولما زار إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني صديقه السلطان عبد الحميد الثاني واستعرض أمامه هذا الحرس الخاص، ابتهج الإمبراطور به ابتهاجا أكيدا وقال: إنه يضاهي أحسن عسكره في ألمانيا. وكان إذا خرج السلطان يوم الجمعة للصلاة أقيمت له مراسم حافلة تتجلى فيها الهيبة الملوكية إلى الدرجة القصوى، وتسير الوزراء والقواد أمام مركبة السلطان مشاة على الأقدام، وتصطف عساكر الحرس المذكور عن الجانبين، العرب من جهة، والأرناؤوط من جهة، فيكون لذلك أبهة وروعة لا ينكرها أحد. وكان يسمى هذا الاحتفال برسم السلملك، فتقصده كبار الأجانب والسياح من جميع الأقطار، وقلما كان السلطان يخرج من قصره إلا لصلاة الجمعة، وكان سفراء الدول يذهبون غالبا لشهود هذه الحفلة، وكان اقتصار السلطان في حرسه على العرب والأرناؤوط دليلا واضحا على عدم ثقته في الأتراك الذين يوجد منهم غالبا من ينوي له السوء
وقد كنا نلاحظ أيضا أنه عند ما يخرج لصلاة الجمعة - سواء كان راكبا جوادا أو راكبا عربة - يكون عن جانبيه فارسان، كل منهما سيفه مسلول في يده وهما أيضا عربيان أحدهما محمد باشا العرقسوسي من دمشق، والثاني علي باشا قيراط من طرابلس الغرب. فلما تدلى السلطان محمد رشاد وصار الأمر إلى حزب جون ترك نثروا هذا الحرس الخاص من أرناؤوط وعرب نثرا، ولم يبقوا له أثرا.
ونعود إلى ذكر إقبال السلطان عبد الحميد على الأرناؤوط فنقول: إنه أمتعهم بامتيازات كثيرة، وأعلقهم حبال الارتباط بشخصه حتى صاروا لا يبغون منه بدلا ولا عنه حولا. ولما قال الاتحاديون بالانقلاب وإعلان القانون الأساسي ثقل ذلك على الأرناؤوط وتوجسوا خيفة قصر حريتهم، لأن القانون الأساس كان معناه المساواة التامة بين الرعية، وهم لم يكن السلطان يعاملهم بالحقيقة بالمساواة، بل كان يميزهم على غيرهم، ويسبغ عليهم من النعم ما لا يعرفه فريق آخر من الرعية، ولذلك اجتهدت جمعية الاتحاد والترقي في استرضاء الأرناؤوط بجميع الوسائل حتى لا يناهضوا الدستور، ووعدتهم بإبقاء امتيازاتهم الأولى، وبفتح مدارس تعلم فيها لغتهم، وباعتبار اللغة الأرناؤوطية لغة رسمية في بلادهم، وبمعاملتهم في كثير من الأحيان بحسب تقاليدهم عاداتهم، وبتعزيز الشرع الإسلامي فيما بينهم، وأخذت توزع الأسلحة على الأرناؤوط ليتمكنوا من مقاومة السربيين ، وأهالي الجبل الأسود وكل هذا قصدت به جمعية الاتحاد والترقي اجتذاب الأرناؤوط إلى ناحيتها حتى لا يعارضوا نشر الدستور، ولا يحدثوا عليه ثورة وهم أسرع الناس إلى الثورات. إلا أن الأرناؤوط كانوا لا ينسون منزلتهم الخاصة عند السلطان عبد الحميد، وكانوا لا يثقون في حزب «جون تورك» ففي أول سبتمبر سنة 1909 أرسلوا وفدا إلى سلانيك يطالب بإعادة الأحكام في ألبانيا إلى الشرع الشريف، وبالاعتراف بامتيازاتهم وبتأسيس مكاتب أرناؤوطية على نفقة الدولة مما لم يكن ليرضي جمعية الاتحاد والترقي التي داهنتهم في أول الأمر من قبيل التسكين وتخدير الأعصاب، حتى لا يثوروا في وجه النظام الجديد. فلما رأتهم ممعنين في الإدلال، متعنتين على الدولة بصنوف المطالب قررت بإزائهم إرهاف الحد، وإدخالهم في الطاعة كسائر أجناس الرعية. وكان بين الأرناؤوط رجل اسمه «عيسى بولاطين» من زعمائهم، ولم يكن يراعي القوانين ولا يتحرج عن القتل والنهب إذا ألجأه الأمر. وكان السلطان عبد الحميد يصيبه بنعمه المتواترة حتى تسلم البلاد من عيثه، فلما أعلن الدستور لزم عيسى بولاطين بيته ساكنا ولكن الاتحاديين لبثوا يحسبون له حسابا، فأصدروا الأوامر إلى الحكومة المحلية بنزع سلاح عيسى بولاطين والجماعة التي حوله، ومن المعلوم أن الأرناؤوطي يؤثر الموت على تسليم سلاحه، فعصى عيسى بولاطين الأمر فساقت الدولة عسكرا بقيادة جاويد باشا فذهب هذا الجيش ودمر القرى وأوقع بأهلها، ودك الحصن الذي يسكنه عيسى بولاطين، فثار الأرناؤوط في كل الجهات من أجل ذلك، واتسعت الثورة فضاعف جاويد باشا القوة وبطش بالثائرين بطشة جبارين، ونزع الأسلحة من أيدي الأرناؤوط وتقاضاهم غرامات ثقيلة، وقيل إنه قتل النساء والأولاد - وهذا ما لا نعتقده، ولكنه أشيع يومئذ عمدا - فاجتمع ثلاثة آلاف أرناؤوطي في «فيرازوفيتش» لأجل الاحتجاج فرماهم جاويد باشا بالقنابر، وشرد بهم من خلفهم، ثم أخذت الدولة بإحصاء النفوس فازداد قلق الأرناؤوط، وعلموا من هذا أن الدولة تريد إجراء الخدمة العسكرية في ألبانيا. وكان مقصد الجون تورك في الواقع أن يلغوا امتيازات الأرناؤوط تدريجيا، وأن يجبروهم على دفع الضرائب التي تدفعها سائر الرعية ، وأن ينسوهم تلك الدولة التي عودهم إياها السلطان عبد الحميد، وكل هذا كان بعيدا عن أن يرضى به الأرناؤوط وفي 17 يوليو سنة 1909 عقد الأرناؤوط في «فريز وفيتش» مجمعا عاما للتحدث فيما بينهم في ما يجب أن يعملوه لمعالجة هذه الحالة، فأرسلت جمعية الاتحاد والترقي نيازي بك أحد أركانها لأنه أرناؤوطي، وأصحبته بجماعة من المخلصين لها على أمل أن يصرفوا الأرناؤوط عن المطالبة بما يخالف مصالح الدولة، فلم تقترن مساعيها بالنجاح، لأن المؤتمر الأرناؤوطي قرر أن يكون للأرناؤوط حق بتولي المناصب الإدارية، وبتعليم اللغة الأرناؤوطية، واقترح توسيع سلطة مجالس الولايات وإنشاء الطرق وعقد اجتماع سنوي للأمة الأرناؤوطية، وعدم تقاضي الأرناؤوط شيئا من الضرائب عدا العشر، وأن يؤخذ معدل خمس سنوات ويجعل منه متوسط ويصبر جباية ثابت، وغير ذلك من الاقتراحات التي رأت فيها جمعية الاتحاد والترقي مقدمة لاستقلال داخلي في ألبانيا، وكانت بلاد ألبانيا الجنوبية ساكنة، بخلاف ألبانيا الوسطى والشمالية إلا أن الحركة في آخر الأمر شملت الجميع، وقرر الأرناؤوط فيما بينهم الحرب لأجل الاستقلال بإدارتهم الداخلية وتحفزوا للقتال.
وفي سنة 1910 بدأت الثورة في نواحي «برشتنة» بسبب الضرائب فأسرع الأرناؤوط من سائر الجهات إلى نجدة أرناؤوط برشتنة، فأرسلت الدولة جيشا نحو عشرين ألف مقاتل، ومعهم ثلاثون بطارية من المدافع تحت قيادة شوكت طورغوط باشا، فقاتلوا الأرناؤوط قتالا شديدا ولكنهم لم يقدروا عليهم ولاسيما في مضيق «كاتشانيق» وهو موقع شديد المنعة في ولاية قوصوه احتله الأرناؤوط، وعجز العسكر عن أخذه، فما زالت ترد الإمدادات إلى شوكت طورغوط باشا حتى تمكن من الاستيلاء على المضيق وهزم الأرناؤوط بعد وقائع دموية، ودمر لهم قرى كثيرة فانتقلت مقاتلة الأرناؤوط إلى مضيق «تشرنالوفة» ولبثوا يقاتلون. فأرسلت الدولة محمود شوكت باشا ينصح للأرناؤوط بالكف عن القتال وبالدخول في طاعة الدولة فتوفق في مهمته وأخلد الأرناؤوط إلى السكينة. إلا أن عيسى بولاطين وإدريس صقر وعدة آلاف من الثائرين معهما لاذوا بالقرار إلى جهة الجبل الأسود، وإلى قرى الأرناؤوط الكاثوليك، وكانت الثورة الأرناؤوطية، في بادية الأمر قاصرة على الأرناؤوط المسلمين، ففي سنة 1911 انضم إلى المسلمين قبائل الأرناؤوط الكاثلويك وصارت جمعيات الأرناؤوط في إيطاليا ورومانيا تمد الثورة، وجاءت إلى الأرناؤوط نجدات من الجبل الأسود، وصار ثوار الأرناؤوط يلجأون إذا ضاقت بهم الحال إلى أرض الجبل وعادت الثورة فازدادت اشتعالا، وعبت الدولة ستين تابورا، وأخذ شوكت طورغوط يدمر قرى الماليسور المارديت من الأرناؤوط الكاثوليكيين، فعند ذلك توسطت دولة النمسا والمجر لدى الباب العالي لأجل الكف عن سفك الدماء، فاستمعت الدولة نصيحة النمسا وأخذت في تضميد جروح الأرناؤوط بما أمكن، وسكن الأرناؤوط ولكنهم رجعوا إلى اقتراحاتهم الأولى وهي احترام الدولة لعاداتهم القومية واستقلال التعليم في مكاتبهم، واستعمال الحروف اللاتينية ومنح البانيا إدارة لا مركزية، وانفاق ما يفيض من واردات ألبانيا على منافع هذه البلاد، واجتمع مبعوثو الأرناؤوط تحت رئاسة حسن بك مبعوث اسكوب وقرروا هذه المطالب فأجابت الدولة بالقبول ورضيت بأن تكون الخدمة العسكرية سنة في الأستانة وسنتين في نفس البانية، وأوجبت أن يكون المأمورون في ألبانيا عارفين باللغة الأرناؤوطية، وأخذت الدولة ترمم البيوت التي دمرتها العساكر، ووزعت مبالغ من النقود على المصابين، وهكذا سكنت الثائرة الأرناؤوطية، وذهب السلطان محمد الخامس بنفسه إلى بلاد الأرناؤوط وصلى في صحراء توصوه ووراءه جمع قيل إنه ألف مصل، ورجع إلى الأستانة مسرورا.
وفي تلك الأيام بدأ الشقاق بين أعضاء الاتحاد والترقي أنفسهم، واختلفت الآراء في مجرى السياسة التي يجب على الجمعية اتباعها، فخرج منها أناس مغاضبين، منهم أمير الألاي صادق بك الذي كان من مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي، فانفصل عن الجمعية وألف حزبا جديدا معاكسا لها ثم استعفى طلعت بك، وأمر الله أفندي وحلاجيان أفندي من النظارات، التي كانوا يتولونها وظهر الناس ضعف الحكومة ولم يكن مجلس المبعوثين بأحسن منها حالا بل كانت تتوالى فيه المشاحنات والمهاترات بين الأحزاب، ومرة جرت حادثة بين نواب العرب ونواب الترك وكادوا يتضاربون والخلاصة أن العثمانيين كانوا في ذلك الوقت يمزق بعضهم بعضا، وكانت كل العلامات تؤذن بسوء المصير، وإذا بحادث طرأ بغتة وهو أن إيطاليا أعلنت الحرب على تركيا أو تتخلى لها عن طرابلس الغرب وبرقة، وكانت مطالب إيطاليا عبارة عن خمسة وهي: خروج العساكر العثمانية من طرابلس، وبنغازي، ودرنة، وتشكيل جندرمة فيها تحت قيادة ضباط من الطليان، وأن تكون إدارة الجمارك بأيدي مأمورين من الطليان أيضا، وأن لا يتعين وال لطرابس إلا برضى إيطاليا، وأعطى الباب العالي مدة أربع وعشرين ساعة ليجيب بالقبول. فاجتمع مجلس فوق العادة في القصر السلطاني، وسمع حقي باشا الصدر الأعظم كلاما مهينا بسبب إهماله وعدم احتياطه لأن سعيد باشا رئيس مجل الأعيان ذكر له أن مطامع إيطاليا لم تكن مجهولة عند تركيا، وأنه سبق لإيطاليا كونها قدمت مذكرة إلى الباب العالي سنة 1904 بعد اتفاق إيطاليا مع فرنسا وإنجلترا تقول فيها،: إنها ما دامت الحالة غير متغيرة في البحر المتوسط، فإن إيطاليا لا تدعي بشيء في طرابلس الغرب، ولكن إذا حصل تغيير في البحر المتوسط يخل بالتوازن الدولي فهي مضطرة أن تتخذ تدابير لوقاية مصالحها. ثم إن حقي باشا كان سفيرا في روما، فكان يجب عليه أن يطلع على حقيقة نيات إيطاليا وليس لحقي باشا عذر في غفلته هذه. فثبت بحق حقي باشا ما أوجب استقالته ملوما بل مغضوبا عليه، ولم يقدر هو أن يدافع عن نفسه. ثم أجاب الباب العالي برفض مطالب إيطاليا قائلا لها: إذا كانت ستصمم على احتلال طرابلس فإن الدولة تقوم بالواجب عليها بإزاء اعتداء إيطاليا.
وحقيقة مسألة طرابلس الغرب من أولها إلى آخرها لا تخرج عن كون إنجلترا وفرنسا تقاسمتا أفريقيا، وذلك على أثر حادثة فاشودة المشهورة التي كادت توقع الحرب بين الدولتين، فعند ما اقتنعت فرنسا بإرجاع جنودها من فاشودة اتفقت الدولتان على تقسيم أفريقيا كلها تقريبا بينهما على قاعدة أن فرنسا تسكت لإنجلترا على وادي النيل وجميع توابعه، وهن امتلاك الخط الممتد من البحر المتوسط إلى الكاب، وبمقابلة ذلك توافق إنجلترا على احتلال فرنسا للمغرب بحذافيره وتوابعه، وقد كانت هذه السياسة التي اتفقت فرنسا وإنجلترا عليها هي الأصل الأصيل في الحرب العامة ولولاها كان يبعد كثيرا وقوع هذه المجزرة البشرية الكبرى، وذلك لأن ألمانيا وجدت في عمل فرنسا وإنجلترا هذا استخفافا بها، وجهالة لمكانها بين الدول العظام وأخذت من ذلك الوقت تترصد الفرصة لإظهار ما في نفسها من عمل إنجلترا وفرنسا وأبت أن تعترف لفرنسا بحق احتلال مراكش. وسيكون لهذه المسألة أدوار أخرى تمر بها وتزيد العداوة بين ألمانيا وإنجلترا إلى أن تنشب الحرب العامة، لأنه عند ما اشتدت الأزمة بين فرنسا وألمانيا من أجل استيلاء فرنسا على مراكش، كان الفرنسيس سألوا الإنجليز عما يكون من موقفهم في هذا الخلاف؟ فأجابوهم بأن الأسطول الانلكيزي حاضر للعمل في جانب فرنسا. فكان هذا الجواب هو أعظم عامل في زرع العداوة بين الألمان والإنجليز. فالحرب العامة إذا وإن تعددت أسبابها فقد كان السبب الأقوى في نشوبها اتفاق إنجلترا وفرنسا على تقسيم أفريقيا وانتهاء الأمر باحتلال فرنسا للمغرب بمساعدة إنجلترا، فإنجلترا من زمن قديم تريد أن تربط شرقي أفريقيا بالهند، وتجعل من ذلك مستعمرة واحدة، ولأجل تحقيق هذا المشروع توسلت بوسائل لا تحصى، أولها القضاء على الدولة العثمانية حتى يتسنى لإنجلترا وضع يدها على جزيرة العرب التي هي حائلة في الوسط بين أفريقيا والهند، والثاني القضاء على استقلال الدولة الإيرانية، وقد كنت إنجلترا اتفقت سنة 1911 مع الروسيا على اقتسام المملكة الفارسية فجعلوها ثلاث مناطق، الشمالية تحت تصرف الروسيا، والجنوبية تحت تصرف إنجلترا، والمتوسطة مستقلة إلى حد محدود تحت نفوذ الدولتين.
وهكذا أصبح ممكنا أن تمد إنجلترا خطا حديديا في جنوبي فارس آتيا من الهند إلى العراق، ثم تمده في أراضي الدولة العثمانية من حدود فارس في أرض العراق وفلسطين إلى مصر، وهكذا إلى رأس الرجاء الصالح، وتكون جميع البلدان التي سيمر بها هذا الخط من أملاك إنجلترا خالصة لها. فما اكتفت إنجلترا بالاستيلاء على الهند التي فيها 320 مليونا من السكان، بل حاولت أن تطفر من الهند إلى أفريقيا، وتجعل هاتين القارتين، غربي آسيا، وشرقي أفريقيا قطعة واحدة، لا ينازعها فيها منازع. وكأنها تريد أن تأخذ موثقا على الدهر، وتجعل الفلك الدوار يدور على محور إرادتها، فجميع هذه الأمم من هنود وإيرانيين وعرب ومصريين وأحباش وصوماليين وزنوج لم يوجدوا في نظر إنجلترا ليكون لهم حرية في أنفسهم! وإنما أوجدهم الله ليكونوا رعايا لإنجلترا حتى تكون لها الكبرياء في الأرض، ولأجل إتمام تصورها هذا لزم لها أن تسترضي فرنسا فتبيحها احتلال المغرب، واسترضاء إيطاليا فتتفق مع فرنسا ويسمحان لها باحتلال طرابلس الغرب، فهل تمكنت إنجلترا من تطبيق برنامجها الواسع هذا؟ الجواب إنها قد لقيت في تطبيقه ما لم تكن تتوقعه بل ما لم يكن يخطر لها على بال! فأول خرق وقع في هذا البرنامج وقع من جهة فارس فإن إنجلترا كانت تقاسمت فارس هي والروسيا قبل الحرب العامة، ثم جاءت الحرب العامة فكانت نتيجتها الظفر الأكبر لإنجلترا، وكان من المعقول أن إيران بعد هذا الظفر تصبح - لاسيما المنطقة الجنوبية منها - مستعمرة إنجليزية، فكان الذي حصل هو عكس ذلك، ورجعت إيران فأخرجت الإنجليز والروس من بلادها، ورجع خط الاتصال بين الهند ومصر منقطعا.
وأما الخرق الثاني في برنامج السلطنة البريطانية هذا فقد وقع من جهة بلاد العرب، فقد كانت إنجلترا تفكر بأنها إذا قضت على الدولة العثمانية كانت هي الوارثة لها في بلاد العرب فتتصرف بهذه البلاد كما تشاء، والملك حسين بن علي الذي زعمت أنها حالفته واعترفت باستقلاله بدل قيامه على الأتراك، إنما تجعل له الحكم في الحرمين الشريفين فقط، وهو مع ذلك سيكون مضطرا إلى قبول أية كلمة تصدر منها. وأما نجد والعراق وفلسطين فهذه كانت في نظر إنجلترا مرشحة تكون من المستعمرات البريطانية، فظهر لها بعد الحرب العامة وبعد ظفهرها مع حلفائها أن العراق لا يرضى أن يكون من جملة مستعمرات إنجلترا، وما زال يثور حتى اضطرت إنجلترا إلى الاعتراف باستقلاله، وهي وإن كانت اتفقت مع العراقيين على تأمين المواصلات الإمبراطورية كما يقال، فهذا التأمين للمواصلات ليس بسرمد، كما أن نجدا مع توابعه الواصلة إلى الجوف، وإلى قريات الملح على مقربة من شرقي الأردن، بقى مستقلا تمام الاستقلال، يليه ملك عظيم الشأن هو «عبد العزيز بن سعود» وقد أوسع ملكه بالاستيلاء على الحجاز وصارت هناك دولة عربية مؤلفة من نجد والحجاز وعسير يسكنها زهاء خمسة ملايين من قبائل العرب المسلحة، ولا يسهل على إنجلترا أن تلعب بها كما تشاء، ولا أن تجعل فيها خطوط مواصلات. فلذلك كان هو هذا الخرق الثاني في البرنامج البريطاني.
ثم بينما هي تظن أنها قد تملكت مصر ولم يبق لها معارض فيها ولا في السودان وبينما هي تقيم القيامة اليوم لأجل منع إيطاليا، من الاستيلاء على الحبشة حتى تؤمن السلطنة التي تحلم بها من البحر المتوسط إلى رأس الرجاء الصالح، ظهر لها خرق ثالث في هذا البرنامج، وهو قيام المصريين عن بكرة أبيهم يبلغون إنجلترا أن جميع مماطلاتها لن تفيدها شيئا في حل الخلاف الذي بينها وبين مصر، وهو الخلاف الذي يأبى المصريون أن يعرفوا له حلا غير مؤسس على استقلال مصر التام!. فهذه إذا ثلاثة خروق، أولها إيراني، والثاني عربي، والثالث مصري، في هذا البرنامج الواسع الذي حلمت به إنجلترا، وليس الإنجليز بأول كتلة بشرية اتسع سلطانها حتى أفقدها رشدها، وجعلها تحاول تخليد حكمها على آفاق لا تغرب الشمس عنها. بل من قبلها سكرت أمم كثيرة بخمرة العز! وبينما هي تظن أن لم يبق لها منازع في الدنيا، جامتها الحوادث بما لم يكن في سحبانها، وخسرت ما كانت قد تظنته مما ملكت أيمانها، وظهر على الأمر من لم يكونوا لها على بال. ولا بد أن يصدق فيها قوله تعالى:
كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين
अज्ञात पृष्ठ