وقد كان من الممكن تهريب السلاح بواسطة سواحل مصر لولا أن الإنجليز شددوا المراقبة إلى الدرجة القصوى بواسطة مصلحة خفر السواحل المصرية، فلم تتمكن الدولة من تهريب بندقية واحدة بواسطة سواحل مصر. ولما كنت قد أقمت في معسكر عين منصور عدة أشهر، فقد علمت أن السلاح الذي كان يقاتل به العرب هناك قليل منه كان من بقايا سلاح الدولة، ومنه قسم من السلاح اليوناني المهرب الذي يقال له «غراه» والأكثر كان من البنادق الطليانية التي كان العرب يغنمونها في أثناء الوقائع.
وقد أعجب العرب بحمية أنور وبسالته فأحبوه حبا جما، ولما وصلت إلى هناك وجدت في مخيم عين منصور من الجبل الأخضر على مسافة ساعتين من درنة إلى الجنوب سبعة أو ثمانية آلاف مقاتل من العرب من قبيلة العبيدات، وقبيلة البراعصة وقبيلة الحاسة، وبينهم المشايخ السنوسية لزوايا الجبل الأخضر، مثل سيدي محمد العالمي الغماري شيخ الزاوية البيضاء، وسيدي محمد الدردفي شيخ زاوية شحات، وسيدي محمد الغزالي شيخ زاوية ترت، وغيرهم من أشياخ السنوسية.
وكان مع أنور بضعة عشر ضابطا من الأتراك، منهم مصطفى كمال رئيس جمهورية تركيا اليوم، وبضعة عشر ضابطا آخرون من أبناء العرب. ولما مررت بطبرق كان الطليان احتلوها، ولكنهم بنوا استحكاما بقرب البحر امتنعوا من ورائه فلم يكونوا يقدرون أن يخرجوا منه، وكان هناك أمامهم معسكر للعرب قائده أدهم باشا الحلبي، ولا يزيد عدد المقاتلين فيه على ألفين، وبينه وبين معسكر الطليان في طبرق ساعة ونصف، وكان عمدة المقاتلين للطليان في معسكر طبرق قبيلة يقال لها عائلة مريم من العبيدات، وكان لها زعيم يقال له الشيخ المبرى قتل في الجهاد، وكان القائمون بالجهاد في برقة هم السادة السنوسية تحت رئاسة السيد أحمد الشريف الذي استنفر القبائل كلها فانضرت تحت علم السنوسي، وانقادت إلى الضباط العثمانيين تحت رئاسة أنور القائد العام، فكان معسكر صغير في طبرق أمام الحامية الطليانية التي نزلت في ذلك المرسى، ومعسكر ثان في عين منصور تحت قيادة أنور بنفسه وهو يقابل الطليان الذين في درنة، وكان عدد الطليان عشرين ألف مقاتل، ولكنهم كانوا لا يقدرون على الخروج، ولكما خرجوا ردهم العرب إلى حيث كانوا، لا يقدرون على الخروج، ولكما خرجوا ردهم العرب إلى حيث كانوا، وقد بنوا استحكامات حول درنة يعتصمون بها إذا هاجمهم العرب إلى البلدة، ولكن مهاجمة كهذه كان ينبغي لها مدافع، ولم يكن في معسكر أنور إلا مدفعان صغيران لا غير.
وكانت مدافع الطليان من أضخم المدافع، وكانوا يقذفون علينا بالشرانبل بدون انقطاع، وأظن أنه لولا المدافع الكبيرة ما استطاع الطليان الثبات في درنة نفسها.
وأما المعسكر الثالث في برقة فكان في بنغازي تحت قيادة عزيز بك المصري وكانت فيه قبائل العواقير، والمغاربة، والدرسة، والعرفا، والعبيد، وفيه من زعماء السنوسية سيدي عمران السكوري، وسيدي محمد بن عبد المولى، وجم غفير معهما وكان المعسكر العربي مخيما في سهل يبعد ساعتين عن بنغازي إلى الجنوب، وكنا نخمن عدده بأربعين ألف مقاتل كلها تحت المضارب. وقد وقعت سواء في درنة أو في بنغازي وقائع في غاية الشدة، وخسر الطليان فيها ألوفا مؤلفة من الجنود، وما استطاع الطليان أن يخرجوا مسافة شبر واحد إلا ردهم العرب إلى المدن فاعتصموا بها تمدهم بوارجهم من البحر.
وقد ذكرت هذه الحوادث في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» في مبحث خاص بطرابلس الغرب أوسع من هذا. وبقيت هذه الحالة كما نحن واصفوها إلى أن نشبت الحرب البلقانية، وهي التي هجمت فيها دول البلقان مجتمعة بسياسة قيصر الروسيا على تركيا مفاجأة، فتغلبت عليها فبعثوا من الأستانة إلى أور يستقدمونه إلى الأستانة بإلحاح شديد، فاضطر إلى ترك القيادة كارها، وعاد إلى استانبول وخاض في حرب البلقان، ولكن بعد أن كانت دارت الدائرة على الدولة وكان لأنور بلاء حسن بمعية القائد أحمد عزت باشا الأرناؤوطي عندما استرجع الأتراك ولاية أدرنة وبعد رجوع أنور إلى الأستانة صارت قيادة المجاهدين في يد عزيز بك المصري فبقي يقاوم الطليان مدة من الزمن لكنه اختلف مع السنوسية اختلافا شديدا، وكانت إيطاليا قد اتفقت مع عباس حلمي خديوي مصر لذلك العهد، وذلك على أنه يبذل جهده في تسكين حركة المقاومة فاقتنع بذلك، وأرسل وفودا إلى السنوسية ينصح لهم بترك الجهاد فلم يقبلوا كلامه. وحدثني السيد أحمد الشريف أنه عندما جاءه رسول الخيدوي آخر مرة قال له: كنا نتلقاك بالإكرام والاحترام مراعاة للذي أرسلك وإن كنا لم نستطع إجابة طلبه، ولكن بعد أن تكرر قدومك علينا بالطلب نفسه فإننا مضطرون أن ننذرك بأنك إذا جئت بعد هذه المرة من قبل سمو الخديوي تنصح لنا بترك الجهاد فليس لك عندنا أمان على نفسك.
ولما قطع الخديوي أمله من السنوسية استقدم عزيز بك المصري إلى مصر وكانت الدولة قد عقدت معاهدة الصلح مع إيطاليا وأمرت عزيز بك على بإخلاء برقة فجأة ومعه أربع مئة جندي هم بقية العسكر العثماني الذي كان في برقة، والتمس السنوسية من عزيز بك أن يترك لهم الأسلحة والأعتدة التي كانت في يد العسكر، فاحتج بعدم إمكانه ذلك لأن الدولة كانت صالحت إيطاليا على طرابلس بعد أن هاجمتها الدول البلقانية، ومن أجل ذلك لا يقدر هو أني سحب العسكر إلا بسلاحه، فحصل بينه وبين العرب من أجل قضية السلاح هذه معركة في سهر «دفنة» من البطمان غير بعيد عن السلوم، قتل فيها من العسكر بضعة عشر رجلا، ومن العرب زيادة على ستين فتكاثرت العرب واستصرخ بعضهم بعضا وأحاطوا بالعسكر ومنعوه من المسير وكان مرادهم إصلاء عزيز بك والجند الذي معه معركة لم تكن تنتهي إلا بفناء الأربع مئة جندي، وعدد كبير من العرب المهاجمين، فوصل الخبر إلى السيد أحمد الشريف بمكانه من الجبل الأخضر، فأرسل السيد عمر المختار الشهيد المشهور يأمر العرب بالانصراف، وترك عزيز بك المصري بعسكره يسير إلى جهة مصر، وكانت المسافة بين مكان السيد السنوسي ومكان عزيز بك مسيرة أربعة أيام، فقطعها الشيخ عمر المختار في أربع وعشرين ساعة، ولما وصل وجد العرب كلها تجمعت وقد أحاطت بعزيز بك وعسكره تريد الأخذ بالثأر، فأبلغ عمر المختار قبائل العرب أمر السيد أحمد الشريف وقال لهم : مهما كان قد حصل فإنه لا يليق بنا أن تكون نهاية مساعدة الدولة لنا في هذه الحرب أن نفتك بعساكرها لأجل مسألة سلاح، وهم مجاهدون ومسلمون مثلنا. وهكذا ألقى عمر المختار السلام بين الفريقين، ومضى عزيز بك بعسكره إلى مصر وقد ترك السلاح للعرب.
ولابد من التنويه بالمقام المحمود الذي كان لأهل مصر في هذا الجهاد، فإن هجوم الطليان على طرابلس وق بغتة، فما مضت أيام حتى بدأوا بالتفاوض مع العرب واستجلبوا أناسا منهم على جهتهم لأن الطرابلسيين رأوا أن الدولة لم ترسل قوة تدافع بها عن بلادهم، ووجدوا القوة التي لها من قبل في طرابلس تكاد تكون عدما، فانقطعت آمالهم من إمكان الجهاد. وبينما هم في منتهى الانكسار إذ وصلت إليهم قوافل من مصر موقرة أرزاقا يتلو بعضها بعضا، فكانوا كالأرض الميتة التي أصابها وابل فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن ذلك الوقت بدأوا بالجهاد العظيم، وعلموا أن المسلمين من ورائهم ظهير، ثم لم يلبث أنور أن وصل فازدادت بذلك ثقتهم واشتدت حماستهم، وكان منهم هذا الجهاد الذي استمر عشرين سنة. على أنه لولا دعوة السيد أحمد الشريف هذه القبائل إلى الجهاد ما كان مجئ أنور من الأستانة ولا كانت جمعية الإعانة المصرية التي ترأسها الأمير عمر طوسون ليتمكنوا من تأسيس هذا الجهاد المبين على هذا الأساس المتين، الذي أذن للعرب بأن يصدوا دولة عظيمة كإيطاليا مدة عشرين سنة!
وأما من جهة غربي طرابلس فقد كان الجهاد لا يختلف في شيء عما كان في جهة برقة، واجتمعت هناك الكلمة على الحرب دفاعا عن الوطن، والتفوا حول نشأت بك قائد الجند العثماني الذي جاءه فتحي بك الملحق العسكري العثماني في سفارة الدولة في باريز، وصار هو رئيس أركان الحرب، وانضم إليهم رجالات طرابلس مثل الشيخ سليمان الباروني زعيم الأباضية، وآل سيف النصر، والمحاميد، وأهالي مصراته وترهونه، وزليطن، وأرفلة، وغيرهم. وكان للدولة معسكر أمام طرابلس، ومعسكر آخر أمام خمس، وكان في المعسكر الأول نشأت بك، وفتحي بك، وفي المعسكر الثاني خليل بك خال أنور باشا، نورى بك أخوه. وكانت الحالة هناك كما كانت في برقة تماما، أي أن المجاهدين كانوا يصدون الطليان عن الخروج من طرابلس وخمس، وبقي هذا الأمر إلى أن نشبت الحرب البلقانية وصالحت الدولة إيطاليا على طرابلس، فانفضت هذه الجموع، وركب نشأت بك وفتحي بك ببقية العساكر إلى الأستانة، وكما أن المصريين قاموا بالواجب تحت رئاسة الأمير عمر طوسون من إمداد مجاهدي برقة، فإن التونسيين قاموا أيضا بمثل ذلك من إمداد مجاهدي طرابلس وكل من الفريقين أنفق بدون حساب، وتجلى هناك تعاون المسلمين بما يسر الخواطر ويحقق قوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة .
अज्ञात पृष्ठ