وإذا هجرت على الدنوّ فما الذي ... نأسى عليه إذا عزمت رحيلا
يا ربة الطرفِ الكحيلِ تركتني ... قلقًا وطرفي بالسهاد كحيلا
فكما جعلتِ الصدَّ منكِ كثيِّرًا ... هلا جعلتِ الصبرَ عنكِ جميلا
وقال أيضًا:
أدارَ علينا من مراشفه خمرا ... وأطلعَ من زهر الثنايا لنا زهرا
وهزَّ علينا من تمايل قده ... رشيق التثني يخجل الصعدة السمرا
وفي فرقهِ والفرعِ والوجهِ إذ بدا ... أرى الناسَ خيط الصبح والليل والبدرا
وأهيفَ صاحٍ من جوى الحبِّ قلبه ... ثنى عطفه حتى حسبنا به سكرا
يضرّمُ ماءُ الحسنِ نيرانَ خدهِ ... ولم أرَ ماءً قبله يضرمُ الجمرا
هو البدرُ أسرى في دجى الليلِ شعره ... فما غاب إلاّ والقلوبُ له أسرى
عهدنا محل المسك في الظبي سرةً ... إلى أن رأينا المسك في خده سطرا
ولو أنَّ هاروتًا رآه ببابلٍ ... لأصبحَ من أجفانه ينفثُ السحرا
ذكرت بالبيت الثالث قول القائل، وأجاد ما شاء، أنشدنيه السعيد تاج الدين، ﵀:
وغزال سبى فؤاديَ منه ... ناظر راشق وخدٌّ رشيقُ
حلّ صدغيه ثم قال أفرقٌ ... بينَ هذينِ قلتُ: فرقٌ دقيقُ
شمس الدين أحمد بن غزّي، أصله من القائم، قرية من بلد سنجار، ومولده ومنشؤه بالموصل، شاعر مجيد وأديب ما عليه مزيد، له شعر أنضر من زهر الرياض، وأعمل في الخواطر من رشق العيون المراض، قد أفرغ في قالب الإحسان وحل من كل قلب بمكان، فما الدر في انتظامه أزهى من درر كلامه، ولا السحر الحلال أوقع في النفوس من نثره ونظامه، له خط مثل الجمان، زانه النظام والزهر جاده الغمام.
تردد إلى إربل عدة نوب ومدح السعيد المرحوم تاج الدين، قدس الله روحه وجعل في أعلى عليين غبوقه وصبوحه، بقصائد أصاب بها أغراض الصواب والسداد وأبرزها لآلئًا لا يزيفها الانتقاد، وسأذكر ما يخطر لي منها في مواضعها من هذا الكتاب. بات عندي ليلة نتجاذب أطراف الأناشيد ونحاكي ونحن بنو الهوى بنات الهديل في التغريد ونتساقى خمرة البيان فتميل سكرًا ونميد وننثر معادن المعاني ونجني قطاف الآداب دانية المجاني، وكان عندنا امرأة عجوز تدعى أم عزيز فطلبناها مرارًا وكلفناها حوائج كثيرة وأتعبناها. وكان قد طلب مجلدًا من شعر ابن الحجاج فلما أصبح مشى وكتب إلي:
يا وزيرًا إذا مدحناه راح ال ... جودُ يجري من عطفهِ المهزوزِ
وبليغًا متى أراد المعاني ... جئن فيه من الكلامِ الوجيزِ
ما أرى ابن الحجاج يقدم وهل ... أخرج في رحله صواع العزيزِ
جدْ بإرساله لأنظر فيه ... كل نصبي هذا على التمييزِ
ثم بعدُ كيف أنت على الأنعا ... مِ في حقّ ضيفك الملزوزِ
وعزيز عليّ ما لقيتهُ ... من صنوف العذاب أمُّ عزيزِ
وما زال يتردد إلى إربل مدة، وعرض له وسواس وكان من ظراف المجانين إذ خفت علته، واشتد مرضه بعد ذلك فاختلط عقله وغاب ذهنه وألقى نفسه من شاهق فانكسرت يده وصلب نفسه بعد ذلك فيما أظن سنة إحدى وخمسين وستمائة. أعوذ بالله من كل مكروه وأستعيذه وأستهديه وأسأله حسن الخاتمة وسلامة المنقلب بمنه ورحمته.
فمن شعره:
وحياة فيك وما حوى ... قسمًا عظيمًا في الهوى
ما ضل صاحبُ مهجةٍ ... ذابت عليك وما غوى
يا أيها القمر الذي ... نجم السلوّ له هوى
ماذا أثرت على القلوب ... من الصبابة والجوى
بأبي وأمي غادر ... رفع العذار له لِوا
في هذا إشارة إلى قوله ﵇ لكل غادرٍ لواء يوم القيامة:
وأغنّ في أردافه ... هزٌّ بكثبان اللوى
قد زان مشبع ردفه ... خصرٌ يبيت على الطوى
أفدي الذي ناديته ... وركابهُ بيد النوى
مولاي عشقك نيتي ... ولكل عبد ما نوى
وقال أيضًا:
وطيبة المراشف والنسيم ... يقصر وصلها ليلَ السليمِ
نضتْ عنها النقاب فوكلتني ... بصبر ظاعن وأسًى مقيم
منعمةَ الشباب لها ثنايا ... تضيمُ فرائدَ الدرِّ النظيمِ
ولفظ لو دعا عظمًا رميمًا ... أعادَ الروحَ في العظم الرميمِ
لها من نشرها ومن المحيّا ... وقامتها وناظرها السقيم
1 / 30