المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جاء بالأشياء معرفة وعلمًا، وجعل الإحسان في جواب طاعته حتمًا، وخلق الإنسان وعلَّمه البيان، فوفر له منه حظًا وقسمًا، والصلاة والسلام على نبيه الذي هو أفصح من نطق بالضاد، وأدقُّ فهمًا، القائل: إنَّ من البيان لسِحرًا وإنَّ من الشعر لحُكمًا ﷺ وآله وصحبه صلاة يعود لهم بها حَرب الأيام سِلمًا، ويكشف عن وجه الدهر ظُلَمًا وظُلْمًا.
وبعد فإنَّ الأدب لم يزل على قديم الوقت محبوبًا، وصاحبه على تباين الأحوال مقرَّبًا مطلوبًا، وكان من أعظم آداب العرب الشعرُ، الذي هو ديوان بيانهم وجامع إحسانهم ومقيِّد ذكر أيامهم وأنسابهم وحافظ أُصولهم وأحسابهم، يعطرون بأرجه مجالس أنسهم ويعرفون به مزيّة يومهم على أمسهم، ولهذا قال الطائي:
وإن العُلى ما لم يُرَ الشعر سنها ... لكالأرض غُفْلًا ليس فيها معالمُ
ولولا خِلالٌ سنَّها الشعْرُ ما درى ... بغاةُ الندى من أين تُؤتى المكارمُ
مَن رفعه الشعر ارتفع، ومن وضعه الشعر اتَّضع، يُبنى بالبيت من الشعر شرف الوضيع ويُهدم بالبيت الهجاء مجد الرفيع.
قال الزبرقان بن بدر كان سيد قومه غير مدافع هجاه الحطيئة بقوله:
دعِ المكارم لا تَرْحلْ لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي
فهدم شرفه وضعضع مجده فاستعدى عليه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وأنشده الشهر، فقال: لا أرى موضع هجاءٍ، فأحضر حسان بن ثابت وسأله، فقال: يا أمير المؤمنين ما يسُرّني أن يلحقني ما لحقه ولي حُمر النّعم، فحبسَ الحطيئة فكتب إليه من محبسه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شَجَرُ
أُلْقيتُ كالمَيْتِ في سِجنٍ لمَظْلَمةٍ ... فاغفرْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
أنت الإمامُ الذي من بعدِ صاحبهِ ... ألقتْ إليكَ مقاليدَ النهى البَشَرُ
لم يُؤْثِروكَ بها إذْ قدَّموكَ لها ... لكنْ لأَنْفُسهم كانتْ بِكَ الإثَرُ
فبكى وعفا عنه واشترى منه أعراض المسلمين بدراهم وتقلَّد الزبرقان عارَه على الأبد وأخنى على شرفه الذي أخنى على لُبَد.
وكان بنو أنف الناقة يُعيَّرون بهذا الاسم، وكان سببه أنهم نحروا ناقةً وفرَّقوا لحمها وبقي أنفها، فجاء سائلٌ فأعطوه أنفَها فسمّوا أنف الناقة على سبيل التعيير لهم فلمَّا مدحهم الحطيئة بقوله ذلك:
قومٌ هم الأنْفُ والأذنابُ غيْرهُمُ ... ومن يُسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا
عاد ذلك الهجاء مديحًا وانقلب ذلك الذم حمدًا صريحًا وصار من أحبّ الأسماء والألقاب إليهم. ولما قال النُّميري:
يا صاحِبيّ دنا الرّواح فسِيرا ... غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهجاءِ جريرا
دعا جرير بعض أصحابه، وقال: اكتب عنِّي:
أقلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا ... وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابا
قال كاتبه: فكتبت وهو يفكر فأخذتني سِنَةٌ فصاح ووثب فكاد رأسه يُصيب السقف، وقال: اكتب، فوالله أخريتُه ولن يُفلح بعدها أبدًا:
فغُضّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا
وكنتَ متى نزلتَ بدارِ قوْمٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عابا
فما أفلح النميري بعدها وخرج هاربًا إلى البادية فما اجتاز بحيٍّ من أحياء العرب إلا وقد سبقه الهجاء إليه، ولمَّا ورد حيّ قومه قالوا: بئسما جئتنا به، ومن هذه الأبيات يهجو أُمَّ النميري:
لها وَضَحٌ بجانب اسْكتيها ... كعنفقةِ الفرزْدَقِ حينَ شابا
قال ابن الفرزدق: كنت مع أبي في مربد البصرة وجرير ينشد هذه الأبيات فلما انتهى إلى قوله: لها وَضَحٌ، غطَّى أبي وجهه وولَّى، فأنشد جرير: كعنفقة الفرزدق البيت فقال أبي: قاتلك الله، والله إني عرفت أنه لا يقول غيرها ولقد غطَّيت وجهي فما أغناني.
وممن ارتفع بالشعر محلُّه، وسار به فضلُه، وعلا به قدرُه، وشاع به ذكره، وسَمَت به مكانُه، وعظُم شأنُه، عَرابة الأوسي، الذي قيل فيه:
رأيتُ عَرابةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيراتِ مُنْقَطِعَ القَرينِ
إذا بلّغتِني وحملتِ رَحْلي ... عَرابةَ فاشْرقي بدمِ الوَتينِ
1 / 1
إذا ما رايةٌ رُفِعتْ لمجدٍ ... تلقَّاها عَرابةُ باليَمينِ
أبو نُواس أحسن رعايةً حيث يقول:
وإذا المطيّ بنا بلغنَ محمدًا ... فظهورُهُنَّ على الرجالِ حرامُ
ومثل الأول قولُ ذي الرُّمَّة:
إذا ابنَ أبي موسى بلالًا بلغته ... فقامَ بفأسٍ بينَ وَصْلَيْكِ جازِرُ
فإنه لولا هذا الشعر لما ذُكر اسمه، ولا عُرف رسمه، ولا فاز له قدحٌ، ولا أشرق له صبحٌ، ولكنْ سارَ بهذا الشعر صيتُه، وعلا صوتُه، وحيَّ ذكرُه وإن تقادم موته، وقد كان الأجواد يتغايرون على بناتِ الأفكار كتغايرهم على البنات الأبكار.
كما حُكي أن أبا دُلَفٍ العِجلي كان يساير أخاه فبصرت بهما امرأتان، فقالت إحداهما للأخرى: هذا أبو دلف الذي يقول فيه عليّ بن جَبَلَة الطوسيّ:
إنَّما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بينَ بادِيه ومحتضره
فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولَّتِ الدنيا على أثَرِه
قالت: نعم فبكى أبو دلف، فقال أخوه: مم تبكي، قال: كوني لم أجازِ عليًّا على شعره، قال: أوَلَم تُعطه مائة ألف درهم، قال: بلى ولكني والله نادم إذ لم أجعلها دنانير. أخذتها أنا فقلت:
إنما الدنيا ابنُ نَصْرٍ ... ونَداه والعَطاءُ
فإذا ولَّى ابنُ نَصْرٍ ... فعلى الدنيا العَفاءُ
وقد كرَّرهما ابنُ جَبَلَة، فقال:
إنما الدنيا حُمَيْدٌ ... وأياديه الجِسَامُ
فإذا ولَّى حُمَيْدٌ ... فعلى الدنيا السَّلامُ
ووفد عليه أبو تمام ومدحه بقصيدته التي أولها:
على مِثْلها مِن أرْسُمٍ وملاعبِ ... أُذيلَتْ مصوناتُ الدموع السواكبِ
وهي من جيد شعره، يقول فيها:
إذا افتخرتْ يومًا هذيلٌ بقوسِها ... وزادت على ما وطّدَتْ من مَناقِبِ
فأنتمْ بذي قارٍ أمالتْ سيوفكُم ... عروشَ الذينَ استرهَنوا قَوْسَ حاجِبِ
محاسِنُ من مَجْدٍ متى يقرنوا بها ... محاسنَ أقوامٍ تَكُنْ كالمعايبِ
مناقبُ لَجّتْ في عُلُوٍّ كأنما ... تحاول ثأرًا عندَ بعضِ الكواكبِ
فطرب لها وأحسن صلته، وقال: أنشدني قصيدتك الرائية التي ترثي بها محمد بن حميد فأنشده:
كذا فليَجِلَّ الخَطْبُ وليفدحِ الأمرُ ... وليسَ لعينٍ لم يَفِضْ ماؤها عُذْرُ
توفيت الآمال بعدُ محمدٍ ... وأصبحَ في شُغْلٍ عن السّفر السّفْرُ
وما كان إلاّ مالَ مَنْ قَلَّ مالُهُ ... وذخرًا لمن أمسى وليس له ذُخْرُ
تردى ثيابَ الموتِ حُمْرًا فما أتى ... لها الليلُ إلاّ وَهْيَ من سُنْدُسٍ خُضْرُ
كأنَّ بني نبهان يوم وفاته ... نجومُ سماءٍ خَرَّ من بينها البَدْرُ
هذا البيت مأخوذ من النابغة الذبياني:
ألَم تَرَ أنَّ اللهَ أعطاك سُرةً ... ترى كلّ مَلْك دونَها يَتَذَبْذَبُ
لأنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طَلَعَتْ لم يبقَ منهنّ كوكبُ
وأخذه النابغة من بعض شعراء كِندة يمدح عمرو بن هند:
تكادُ تميدُ الأرضُ بالناس إنْ رأوا ... لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتبُ
هو الشمسُ وافتْ يومَ سَعْدٍ فأفضلت ... على كلِّ شمسٍ والملوكُ كواكبُ
وقال نُصَيْبٌ:
هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حولَهُ ... وهل تُشبهُ البدرَ المضيءَ الكواكبُ
ومثله لصفية الباهلية:
أخنى على واحدي ريب الزمان ولا ... يُبقي الزمانُ على شيءٍ ولا يَذَرُ
كنَّا كأنْجُمِ ليلٍ بيننا قمرٌ ... هو الدّجى فَهَوَى من بيننا القمرُ
نعود إلى خبر أبي دُلف، قال: فبكى، وقال: والله وددت أنّها فيّ، فقال أبو تمام: بل يُطيل الله عمر الأمير، فقال: فإنَّه لم يمتْ مَنْ قِيل فيه مثل هذا الشعر.
فانظر إلى هذه الأنفس الكريمة التي ترغب في الذكر الجميل فتختار الحِمامَ وتصبو إلى ابتناء المجد فتهجر في تحصيله الراحة والمنام.
ولو تصدَّى متصدٍّ لذكر هذا النمط فحسب، لملأ به بطون الدفاتر، واستنفد به أنفاس المحابر، وعطَّر الآفاق منه بما هو أضوعُ من أنفاس المجامر. وقد سمع النبيُّ، ﷺ، الشعر وأُنشد في مجلسه وأجاز عليه، وقصَّة كعب بن زهير وقصيدته:
بانتْ سُعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
1 / 2
يمدح بها النبيَّ، ﷺ، قصة مشهورة وقد خلدها المصنفون كتبهم وأودعوها بطون أوراقهم. وخرج النبي، ﷺ، وجارية حسان بن ثابت تنشد:
هل عليَّ ويحكما ... إنْ لهوتُ من حَرَجِ
فقال: لا حَرَجَ إنْ شاءَ الله.
وأنشده النابغة الجعدي قوله:
بلغنا السماءَ مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوقَ ذلكَ مَظْهَرا
فغضب ﷺ، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى، فقال: الجنة يا رسول الله، فقال: إن شاء الله تعالى، وضحك، وأنشده منها:
ولا خيرَ في حلم إذا لم تكن له ... بوادِرُ تحمي صفوه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أوردَ الأمر أصْدَرا
فقال: أجدتَ، لا يفضض الله فاك، فنيّف على المائة وكأنَّ فاهُ البَرَدُ المنهلُّ ما سقط له سنٌّ ولا انغلت.
وعن عكرمة قال: كان عبد الله بن رواحة مضطجعًا إلى جانب امرأته في الليل، فقام إلى جاريته فأتاها، فندرت به امرأته فأخذت شفرةً وجاءت إليه لتضربه، وقالت: لو أدركتكَ بها وجاءت بين كتفيك، قال: لِمَ، قالت: رأيتك، قال: أليس رسول الله، ﷺ، قد نهى الجُنب أن يقرأ، قالت: فاقرأ، فقال:
وفينا رسولُ الله يتلو كتابه ... كما لاحَ مشهورٌ من الصبح ساطعُ
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... له موقنات إنَّما قالَ واقِعُ
يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركينَ المضاجعُ
فقالت: آمنت بالله وكذبتُ البَصَرَ، ثم غدوت على رسول الله، ﷺ، فأخبرته، فضحك حتى بانت نواجذه.
وسمعت هذه الحكاية على ما هي عليه عدا الشعر فإني سمعته هكذا:
شهدت بأنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ ... وأنَّ النارَ مثوى الظالمينا
وأنَّ العرشَ فوقَ الماءِ طافٍ ... وفوقَ العَرْشِ ربُّ العالمينا
وعن الشَّعبي عن ابن عباس، قال: قدِم وفد بكر بن وائل على رسول الله، ﷺ، فلما فرغوا من شأنهم، قال لهم: هل فيكم أحدٌ من إياد، قالوا: نعم، قال: أفيكم أحدٌ يعرف قُسَّ بن ساعدة الإيادي، قالوا: نعم، كلُّنا نعرفه، قال: فما فعل، قالوا: هلك، قال: ما أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام يخطب الناسَ على جمل له أحمر، وهو يقول: يا أيُّها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، مًنْ عاش مات، ومَنْ مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آت.
أما بعد فإن في السماء لخبرًا وإنَّ في الأرض لعبرًا، سقفٌ مرفوع، ونجومٌ تمور، وبحارٌ لا تغور، وتجارة لن تبور، أقسَمَ قسّ بالله وما أثِمَ لئنْ كان بعض الأمر رِضىً لك إن في بعضه لسخطًا وما هذا لعبًا، وإن من وراء هذا لعجبًا، أقسَمَ قسّ بالله إن لله دينًا هو أرضى له من دينٍ نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرَضوا فأفاقوا، أم تُركوا فناموا، قال: وقال رسول الله، ﷺ: لقد سمعته ينشد أبياتًا لا أحفظها، فقال بعضهم: أنا أحفظها يا رسول الله، قال: قُل، فقال:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائرْ
لما رأيتُ مواردًا للموتِ ... ليس لها مصادرْ
ورأيت قومي نحوها ... يمشي الأصاغر والأكابرْ
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابرْ
أيقنتُ أني لا محا ... لةَ حيثُ صارَ القومُ صائرْ
وروي عن قتادة عن أنس أنه لما بنى مسجده، ﷺ، كان ينقل اللبن مع المسلمين، ويقول:
اللهم إنَّ الخيرَ خيرُ الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
وقال، ﷺ، يوم حنين:
أنا النبي لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عبدِ المطلبْ
والرجز بحر من أبحر الشعر ونوع من أنواعه.
قال جامعه: ربما كان هذا موضوعًا عليه، ﷺ، لأن الشعر لا ينبغي له وهو ممنوع عنه، وإن كان قد روي فالعهدة على راويه وأنا أستغفر الله من نقل ما لا يجوز نقله ولا تصح الرواية فيه، وإياه أسأل أن يعصمني من موبقات الدنيا والآخرة.
1 / 3
ولما هجته قريش دعا حسان بن ثابت، وقال: يا حسان إنَّ قريشًا هجتني فهاجِهم وجبريل معك. وفي رواية: فهاجِهم وروح القدس ينفث على لسانك. وفي رواية عن عائشة، رضوان الله عليها، قالت: سمعتُ رسول الله، ﷺ يقول لحسان: إنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافَحْتَ عن الله ورسوله.
ويقال: نافحتَ عن فلان: خاصمتَ عنه.
وكان أبو بكر وعمر، رضوان الله عليهما، شاعرين، وكان عليٌّ، ﵇، أشعر منهما. ولما احتضر أبو بكر قالت عائشة، رضوان الله عليهما:
لعمرك ما تغني التمائم والرقى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
الحشرجة: الغرغرة عند الموت وتردد النفس. ففتح عينه، وقال: يا بُنَيّة قولي: وجاءت سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ.
وكان عمر، رضوان الله عليه، إذا خلا ترنم بالشعر وأنشده. وأما عليٌّ، ﵇، فقد ذكر الرواة أن له ديوانًا، وكان يستشهد بالشعر في خطبه ورسائله، أنشد في ذكره ابن ملجم، لعنه الله تعالى:
أُريد حِباءهُ ويريدُ قتلي ... عذيري من خليلي من مُرادِ
وأنشد في قصة أخرى قول دُرَيْد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصحَ إلاّ ضحى الغدِ
وهو من أبيات الحماسة. وأنشد في قصة أخرى:
شتَّانَ ما يومي على كورها ... ويومَ حيَّان أخي جابرِ
وكانت فاطمة، ﵍، تتمثل بعد موت النبي، ﷺ، بهذه الأبيات:
يا عينُ بكي عند كل صباح ... جودي بأربعة على الجراحِ
الأربعة: الشؤون، وهي مجاري الدموع.
قد كنتُ ذاتَ حميّةٍ ما عشتَ لي ... أمشي البراحَ وكنتَ أنتَ سلاحي
البراح، بالفتح: المتسع من الأرض، لا زرع لي ولا شجر، أي أمشي في الفضاء عزيزةً ظاهرةً لا أخاف أحدًا، وما بعده يفسره.
فاليوم أخضعُ للذليلِ وأتقي ... منه وأدفعُ ظالمي بالراحِ
وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حدّ صوارمي ورماحي
وإذا دعت قمريّة شجنًا لها ... يومًا على شجنٍ دعوت صباحي
أي قلت: وا صباحاه.
وكان علي ينشد بعد موت فاطمة متمثلًا:
لكل اجتماع من خليلين فرقةٌ ... وكلُّ الذي بعدَ الفراقِ قليلُ
وإن افتقادي فاطمًا بعد أحمد ... دليل على أن لا يدوم خليلُ
ويُروى: واحدًا بعد واحدٍ، وقبلهما:
ذكرت أبا أروى فبتُّ كأنني ... بردِّ الهمومِ الماضياتِ وكيلُ
وكان الحسين بن علي، ﵉، ينشد وهما من شعره:
لعمرك إنني لأحبُّ دارًا ... تحل سكينةُ والرَّبابُ
أُحبهما وأنفق جلَّ مالي ... وليس لعاذلٍ عندي عتابُ
وكان عبد الله بن عباس جالسًا يفتي فدخل عليه عمر بن أبي ربيعة المخزومي وأنشده قصيدته التي أولها:
أمن نعمٍ أنتَ غادٍ فمبكرُ ... غداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فمهجرُ
حتى انتهى إلى قوله فيها:
رأت رجلًا أما إذا الشمسُ قابلتْ ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصرُ
أخا سفرٍ جوّابَ أرضٍ تقاذفتْ ... بهِ فلواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ
حتى انتهى إلى آخرها، فعاد إلى الحديث مع الجماعة، فقالوا: يا حبر الأمة نحن نضرب إليك أكباد الإبل لنستفتيك في الحلال والحرام فيأتيك مترف من قريش فينشدك:
رأت رجلًا أما إذا الشمس قابلت ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخسر
فتعرض عنا وتقبل عليه، فقال: ما هكذا قال، ولكنه قال:
فيضحَى وأما بالعشي فيخصرُ
ولقد حفظت القصيدة، وإن شئتم أنشدتها من آخرها إلى أولها، قالوا: نعم، ففعل.
فأما التابعون وغيرهم من الخلفاء والأمراء فلو أراد أحد أن يجمع من أشعارهم واستشهاداتهم كتابًا كبيرًا لكان ذلك سهلًا عليه. فلولا كان الشعر من الشرف ومحله من الفضل لما جاز لهؤلاء سماعه فضلًا عن عمله وإنشاده والاستشهاد به في الوقائع، وعلى كتاب الله، وأخبار رسوله.
فأما الآن فهذه شريعة قد نسخت وسنّة قد مسخت وقاعدة قد درست وطريقة قد طَمست وطُمست ومذهب قد ذهب ضياعًا وتفرق شعاعًا وهجر فلا يرى عيانًا ولا يسمع سماعًا، وبناءٌ دعا بالرجل مشيدوه فوهى وتداعى، فالنسيان أولى بالإنسان واطراح هذه الأمور أشبه بالحال في هذا الزمان.
1 / 4
وحيث وصلتُ بغداد في شهر الله الأصم رجب سنة ستين وستمائة إلى خدمة المولى الصاحب الأعظم سلطان وزراء العالم علاء الحق والدين صاحب الديوان عطا ملك بن المولى الصاحب السعيد الشهيد بهاء الدين محمد الجويني، أعز الله نصره. وأعلى على الأقدار قدره، وانتظمتُ في سلك أتباعه، وعددت من حواشيه وأشياعه، وغمرت بأياديه، وسالت عليّ شعاب واديه، وعمّتني مبرته، ووجدت اليمن حين لاحت لي غرته، وأهلّني لكتابة الإنشاء، وأسبغ علي ملابس النعم والآلاء، وجدته كريمًا في نفسه، مهذبًا في خلقه، تامًا في خلقه، قد جمع إلى شرف نفسه شرف نسبه، وإلى طيب أخلاقه طهارة أعراقه، وإلى كرم مولده كرم محتده، فهو وأخوه المولى الصاحب الأعظم سلطان وزراء العالم شمس الحق والدين محمد، أعز الله نصرته، وأدام قدرته، إنسانًا عيني الزمان ونيرًا فلك الإنعام والإحسان، قد بذلا الرغائب، وأظهرا في اصطناع المعروف العجائب، وجادا فالماء جامدٌ والتبر ذائب:
وكذا الكريم إذا أقامَ ببلدة ... سالَ النضارُ بها وقامَ الماءُ
لا زالت دولتهما باقية على الدوام والاستمرار وإيالتهما مؤيدة بمعاونة الأقضية والأقدار فإنهما مدا بضبعي وسقيا غرسي فأينع أصلي وفرعي ونفعا جدي فأجادا نفعي فحالي بإقبالهما حالي، وقد نما بهما جاهي ومالي، وأوجداني جدة فنيت بها آمالي، فأنا أملي في مدحهما الأمالي، وأرصّع تيجان شرفهما من درر أفكاري، بالجواهر واللآلي: فابلغا أكمل السعادة في ظل العلى وابقيا أتم البقاء أنتما ذاك الذي أخبر القرآن عنه في دوحة علياء أصلها ثابتٌ كما ذكر الله تعالى وفرعها في السماء.
وكان من منتهما التي أكرر صفاتها وأرددها، ونعمهما التي أعد منها ولا أعددها، أن عرفت في خدمتهما الملك المعظم الكبير فخر الدولة والدين جمال الإسلام والمسلمين مفخر الزمان منوجهر بن أبي الكرم الهمذاني، أسبغ الله ظله وأعلى محله، فجلوت بمعرفته صدأ القلب والعين وأحللته مني في الأسودين، وعقدت في محبته خنصري وأفضيت إليه بعجري وبجري، ورأيته مهذب الأخلاق كريمها، جميل الغرة وسيمها، لو جسد العقل لكان إياه، أو مني السداد لما تعداه، حسن الصمت حلو الحديث جامعًا بين الشرف القديم والمجد الحديث، قد أضاف إلى الكرم الطريف الكرم التالد، وأشبه أباه في الفضل فقيل: هذا الولد من ذلك الوالد، جمع الله به أشتات المناقب وأحسن إليه في المبادي والعواقب.
ولما أحكمت الأيام في حكمته عهود الوداد، وحصل من طول الصحبة حسن الاتحاد، طلب أن أجمع له مجموعًا مشتملًا على معان من الأشعار ولمع من محاسن الأخبار، ليشرفه بمطالعته، وينوب عن حضوري إذا غبت عن خدمته، ويكون كالمذكر بعهدي والمنبه على حفظ ودي، وإن كانت عهوده، جمل الله ببقائه، محفوظة على الدوام، مصونة مع تصرف الأيام، لأن من حل محله من النبل كان مثله من أهل الفضل فهو إلى أعلى رتب المجد راق، وعلى عهوده في كل حال باق، فلبيت دعوته حيث ناداني، ومريت خلف القريحة فدر وأتاني.
ولولا ما افترضته من اتباع إشارته، وآثرته من النهوض بخدمته، لكان في الزمان وأكداره المتعددة وفوادحه المتكررة المتعددة ما يشغل الإنسان عن نفسه، وتذهله عن معرفة يومه فضلًا عن أمسه، وقد استخرت الله في جمع هذا المجموع وجعلته أوصافًا وسميته: التذكرة الفخرية، والتزمت بشرح ما يعرض في أثنائه من كلمة لغوية أو معنى يحتاج إلى إيضاح ولي على الناظر فيه ستر العوار والزلات والإغضاء على الخطأ والهفوات، فما رفع قلم عن كتاب والإنسان معرض للنسيان، والمختار معان، والناس مختلفون في الاستحسان، وقد أمليت جملة منه من خاطري فمن وجد فيه خطأ وأصلحه أو خللًا فهذبه قام مقام المفهم وقمت مقام المتفهم، وعرفت له فضل العالم على المتعلم، إكرامًا لما رزقه الله من الأدب وقضاء لحق العلم فلولا الوئام هلك الأنام.
1 / 5
وقد ملت في أكثره إلى أشعار المحدثين من أهل العصر إلاّ ما قل من أشعار القدماء وما لم أر للمعاصرين فيه شيئًا، فالضرورة تدعوني إلى استعمال أشعار المتقدمين فيه ورغبني في أشعار المتأخرين قرب متناول معانيهم وسلامة ألفاظهم وتناسبها وحسن مذهبهم في تلطيف الألفاظ والمعاني ورشاقة السبك وإصابة الغرض وتجنب حواشي اللغة ووحشيها ليكون ذلك أدعى إلى الرغبة فيه وأنسب إلى ما اقتضته الحال التي جمع لها، وأليق بطباع أهل العصر ولأن الجيد من أشعار الجاهلية ومخضرمي الإسلام ومخضرمي الدولتين والمحدثين لا يخلو منها كتاب أو مجموع وأن المصنفين لم يغادروا منها صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصوها وقد كان، جمل الله ببقائه وجمع القلوب، وقد فعل، على ولائه، طلب أن أضيف إلى هذا المجموع شيئًا من الدوبيت والمواليا والموشحات فأجبته إجابة مطيع، وسارعت إلى امتثال أمره مسارعة سميع وتبعت غرضه في الاختيار وملت معه في الإيراد والإصدار، وبالله أعتمد وأعتضد، وعليه أتوكل، وهو حسبي ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
وصف في الشباب والخضاب والمشيب
الشباب باكورة الحياة وإبان صفو العيش ووقت التمكن من الأغراض وزمن الطرب والغزل وفيه استقامة القوى الطبيعية وجريها على أحسن حالة وأتم انتظام والتصرف في ملاذ النفس واقتضاء الجوارح للحركات والنشاط على التمام وفيه تقوى خيالات الهوى وتنبسط الروح وتنبعث الهمم والمزاج الطبيعي فيه الحر واليبس.
وقد اختلف الأطباء في حرارة الصبيان والشباب وأيهما أشد، واستدل كل قوم على نصر مذهبهم بأمور قد بسطوا القول فيها لا يتعلق غرضنا بذكرها. وجالينوس يقول: إنها متساوية في الفريقين وإنما هي متعلقة في الشباب بموضوع يابس وفي الصبيان بموضوع رطب، قال: ولو فرضنا نارًا متساوية أوقدت على حجر وماء زمانًا واحدًا وجدنا في الحجر ممانعة لا نجد مثلها في الماء ليبس موضوعها.
وقد ذكر الشعراء الشباب وطولوا في أوصافه ونعتوه فأحسنوا نعته وبكوا عليه فأكثروا البكاء إلاّ أنهم قل أن يذكروه إلاّ عند فقده أو يبكوا عليه إلاّ بعد فراقه ووقت التظلم من الشيب، والأصل في جميع ذلك حب الحياة والرغبة في السلامة وقد ذُم الشباب أيضًا وذكرت معايبه وهذا عائد إلى العياء.
وها أنا أذكر ما يخطر من ذلك وبالله التوفيق.
أنشد المبرد قال: أنشدنا أبو عثمان المازني لأبي حية النميري:
زمان الصبا ليتَ أيامنا ... رجعنَ لنا الصالحاتِ القصارا
زمانٌ عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطيّرهُ الدهرُ عني فطارا
فلا يُبعد اللهُ ذاك الغرابَ ... وإن هو لم يبقَ إلاّ ادِّكارا
كأنَّ الشابَ ولذاتهِ ... وريقَ الصبا كانَ ثوبًا مُعارا
ريق الصبا وريّقه ورونقه أوّله.
وهازئةٍ إذْ رأت لمّتي ... تلفعَ شيبٌ بها فاستدارا
وقلدني منه بعد الخطام ... عذارًا فما أسطيعُ عنه اعتذارا
أجارتنا إنَّ ريبَ الزما ... ن قبليَ غالَ الرجالَ الخيارا
فأما تريْ لمَّتي هكذا ... فأسرعتِ منها لشيبي النفارا
فقد أرتدي طلةً وحفةً ... وقد أُبرزُ الفتياتِ الخفارا
الطلة: اللذيذة، وشعرٌ وحفٌ: أي كثير حسن أسود، ووحفٌ، بالتحريك، والخفر شدة الحياء، وامرأة خفرة، ويقال: خفِرة بالكسر، يقول: ارتديت شيبةً طلةً، أي لذيذة. قوله: وكان عليَّ غراب غداف: أراد به الشباب ويشبه أن يكون مثل قول الأعشى:
وما طلابكَ شيئًا لستَ مدركهُ ... إنْ كانَ عنكَ غرابُ الجهل قد وقعا
ومنه أخذ القائل، أظن الأبيات للإمام الشافعي:
أيا بومةً قد عشعشتْ فوقَ هامتي ... على الرغمِ مني حينَ طارَ غرابُها
علمتِ خرابَ العمرِ مني فزرتني ... ومأواك من كلِّ الديارِ خرابُها
ومنه أخذ الفلنك الموصلي، من شعراء العصر، كان وتوفي، وكان لا يعرف الكتابة والأدب، وله مع هذا أشعار رائقة:
سهرت لياليه وفيها مسامري ... أغنّ من الأتراك نامتْ وشاتهُ
فآهًا على مخضلّ عيش به انقضى ... وما طيَّرتْ غربانَ فودي بزاتُهُ
وقال أبو حية النميري:
لعمرُ أبي الشبابُ لقد تولَّى ... حميدًا لا يرادُ به بديلُ
إذِ الأيامُ مقبلةٌ علينا ... وظلُ أراكةِ الدنيا ظليلُ
1 / 6
فرحّلَ بالشبابِ الشيبُ عنَّا ... فليتَ الشيبَ كانَ به الرحيلُ
وقد كانَ الشبابُ لنا خليلًا ... فقد قضَّى مآربهُ الخليلُ
وقال أبو نواس:
كانَ الشبابُ مطيَّةَ الجهلِ ... ومحسّنَ الضحكاتِ والهزلِ
كانَ الشفيعَ إلى مآربهِ ... عندَ الفتاةِ ومدركَ التبلِ
التبل: الترة والذَّحل، يقال: أصبت بتبل أي بذحل، والجمع تبول، ويقال: تبلهم الدهر وأتبلهم: أفناهم.
كانَ الجميلَ إذا ارتديتُ به ... ومشيتُ أخطر صيّت النعلِ
والباعثي والناسُ قد رقدوا ... حتى أكونَ خليفةَ البعلِ
ومنها، وقد أجاد ما شاء:
والآمري حتى إذا عزمتْ ... نفسي أعانَ يديَّ بالفعلِ
أبو عبادة البحتري:
فأضللت حلمي والتفتُّ إلى الصبا ... سفاهًا وقد جزتُ الشبابَ مراحلا
فللهِ أيامُ الشبابِ وحسنُ ما ... فعلنَ بنا لو لم يكنّ قلائلا
ابن نباتة السعدي:
لا يبعدن زمن البطالة والصبا ... والعيشُ في ظلِّ الزمانِ الناضرِ
أيامَ تُغفرُ للشباب ذنوبهُ ... والشيبُ ليسَ لذنبهِ من غافرِ
بشار بن برد:
ولقد جريتُ مع الصبا طلقَ الصبا ... وركضتُ حتى لم أجدْ لي مركضا
وعدمتُ ما علمَ امرؤٌ من دهرهِ ... فأطعتُ عاذلتي وأعطيتُ الرِّضا
أخذه أبو نواس فقال:
ولقد نهزتُ مع الغواة بدلوهم ... وأسمتُ سرحَ اللهو حيثُ أساموا
وبلغتُ ما بلغَ امرؤ بشبابهِ ... فإذا عصارةُ كلِّ ذاكَ أثام
أخذه أمين الدولة بن التلميذ:
كانتْ بلهنيةُ الشبيبةِ سكرةً ... فصحوتُ واستأنفتُ سيرةَ مجملِ
وقعدت أرتقبُ الفناءَ كراكبٍ ... عرفَ المحل فباتَ دونَ المنزلِ
ومثله لأحمد بن أبي طاهر طيفور:
كان الشبابُ مطيةً أنضيتُها ... في اللهو بين محرمٍ ومحللِ
وبلغتُ غايةَ ما يلذّ به الفتى ... من صبوةٍ وفتوَّةٍ وتغزّلِ
فلهوتُ غيرَ معللِ وفتكتُ غي ... ر مضللٍ ونسكت غير معذلِ
وأخذته منهم فقلت:
ولقد سكرتُ غداة خمّاري الصبا ... وصحوتُ إذْ لاحَ المشيبُ بمفرقي
ونزعت عن عيني وقلتُ للائمي ... ها قد أطعتكَ في مرادك فارفقِ
أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري التنوخي:
إذا الفتى ذمّ عيشًا في شبيبتهِ ... فما يقولُ إذا عصرُ الشبابِ مضى
وقد تعوضتُ عن كلٍّ بمشبههِ ... فما وجدتُ لأيامِ الصبا عوضا
وقد أحسن مهيار في قوله:
ما أنكرتْ إلاّ المشيبَ فصدتِ ... وهي التي جنتِ المشيبَ هي التي
وأُلامُ فيكِ وفيكِ شبتُ على الصبا ... يا جورَ لائمتي عليكِ ولمَّتي
أنشدني كمال الدين بن محمد للسيد ابن طباطبا العلوي:
كان عصر الشباب ظلًا ظليلًا ... تتفيا بعقوتيه الظباء
العقوة: الساحة وما حول الدار.
كانَ عصر الشباب جنة دنيا ... أجتني من ثماره ما أشاءُ
لو ثوى نازلًا لما قلتُ فيه ... ربَّ ثاوٍ يملُّ منه الثواءُ
آخر:
شيآنِ لو بكتِ الدماءُ عليهما ... عيناي حتى يأذنا بذهابِ
لم يبلغا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحبابِ
شرخ الشباب: أوله، والشارخ: الشباب.
وقلت:
هل معيدٌ عصرَ الشبابِ وعيشًا ... خلتُ أوقاتَه خيالًا زارا
إذْ مغاني الحمى أواهل تجلو ... للعيونِ الشموسَ والأقمارا
وقلت:
زمن اللهو والبطالة جادت ... ك دموعي فصوبهنّ مطيرُ
وسقى عهدنا بمخدعها در ... شؤبوبها مُلثٌّ غزيرُ
الشؤبوب: الدفعة من الغيث، والجمع: الشآبيب، والملث: الدائم.
دار لهو قضيت فيها شبابي ... وخلعت العذار وهو طريرُ
يقال: طرَّ النبت يطرُّ، بالضم، طرورًا: نبت، ومنه: طر شارب الغلام.
وإذا ما الشبابُ ولَّى فما أن ... ت على فعل أهله معذورُ
فاتباعُ الهوى وقد وخطَ الشيبُ ... وأودى غصنُ التصابي غرورُ
وخطه الشيب: خالطه. وقلت:
ولقد ذكرت وأيّ صبّ شفه ... بعدٌ وهجران ولم يتذكرِ
أيام لا ظل الصبا بمقلص ... عنا ولا ورد الهوى بمكدرِ
1 / 7
وقال الشيخ تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، ﵀، أجاز لي جماعة أن أروي عنهم ما تصح روايته من مقول ومنقول، وكان شيخ زمانه غير مدافع، قرأ علي موهوب بن الخضر الجواليقي، رحمهم الله تعالى:
عفا اللهُ عمَّا جرَّه اللهوُ والصبا ... وما مرَّ من قالِ الشبابِ وقيلهِ
زمانَ صحبناهُ بأرغد عيشةٍ ... إلى أن مضى مستكرهًا لسبيلهِ
وأعقبنا منْ بعدهِ غير مشتهى ... مشيبٌ نفى عنَّا الكرى بحلولهِ
لئن عظمت أحزانُنا بنزولهِ ... لأعظمُ منها خوفنا من رحيلهِ
البيت الأخير مثل قول الأول:
الشيبُ كرهٌ وكرهٌ أنْ يفارقني ... فاعجبْ لشيءٍ على البغضاءِ مودودُ
وقال آخر:
يا زمانَ الشبابِ ما زلتُ أبكي ... ك دم المقلتينِ دونَ الدموعِ
أنتَ كنتَ الدنيا فلما تولي ... ت تولَّت فهل لها من رجوعِ
أبو الحسن الخراساني:
ذريني أواصل لذتي قبل فوتها ... وشيكًا لتوديع الشباب المفارقِ
فما العيشُ إلاّ صحةٌ وشبيبةٌ ... وكأسٌ وقربٌ من حبيبٍ موافقِ
ومَنْ عرفَ الأيامَ لم يغتررْ بها ... وبادرَ باللذاتِ قبلَ العوابقِ
صفي الدين منصور الإربلي: اجتمعتُ به مرارًا، وكان شاعرًا تجيء في أشعاره أشياء جيدة:
أشتاق أيامَ الشبابِ وحسن ما ... فعلتْ وحقَّ لمثلها يشتاقُ
ردُّوا عليَّ من الشبابِ بقدرِ ما ... كسدَ المشيبُ فللشبابِ نفاقُ
ومن شعره:
أوانس في ليل الشباب كأنجمٍ ... ينفّرها عن صبحِ لمتهِ الوخطُ
وقالوا سلا عصرَ الشبابِ كما سلا ال ... حزينُ وظني أنهُ ما سلا قطُّ
أخذ البيت الأول من أبي العلاء المعري وقصر عنه ما شاء حيث قال:
هي قالت لما رأت شيبَ رأسي ... وأرادتْ تنفرًا وازورارا
أنا بدرٌ والصبحُ قد لاحَ في رأ ... سك والصبحُ يطردُ الأقمارا
وقد كرره أبو العلاء، ﵀، وهي غاية في معناها وتروى للمغاربة:
نزل المشيبُ بعارضيه فاعرضوا ... وتقوَّضتْ خيم الشباب فقوضوا
فكأنَّ في الليل البهيم تبسطوا ... خفرًا وفي الصبح المنير تقبضوا
ولقد رأيت وما سمعت بمثله ... بينًا غرابُ البينِ فيه أبيضُ
أبو تمام:
شابَ رأسي وما أضنُّ مشيبَ ال ... رأسِ إلاّ من فضلِ شيبِ الفؤادِ
طالَ إنكاري البياضَ وإنْ عُم ... رتُ شيئًا أنكرت لونَ السوادِ
وكذاك العيونُ في كلِّ بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائعُ الأكبادِ
ابن التعاويذي البغدادي الشاعر المجيد الحسن الشعر، البديع المقاصد، أوحد زمانه، وشاعر أوانه، الذي يجاري الهواء رقة طبع، ويقول:
لم أقل للشباب في دعة الل ... هـ ولا حفظه غداة استقلا
زائر زارنا أقام قليلًا ... سوّد الصحفَ بالذنوبِ وولَّى
وعمل فيه ابن الفقيه المحولي:
يا هاجيًا عصرَ المشي ... ب ومادحًا عصر التصابي
لو جزت يومًا بالمحو ... ول ما ذممت سوى الشباب
ابن الرومي:
لا تلحَ منْ يبكي شبيبته ... إلاّ إذا لم تبكِها بدمِ
لسنا نراها حقَّ رؤيتها ... إلاّ زمانَ الشيبِ والهرمِ
كالشمسِ لا تبدو فضيلتُها ... حتى تُغشَّى الأرضُ بالظلمِ
ولربَّ أمرٍ لا يُبيِّنهُ ... وجدانهُ إلاّ معَ العدمِ
وأنشدني بعض الأصحاب:
قبل الشبابِ شبيبةٌ محمودةٌ ... والالتحاءُ هو المشيبُ الأولُ
يأتي السوادُ على البياضِ وبعده ... يأتي البياضُ على السوادِ فيرحلُ
ومما يأخذ بمجامع الإحسان قول البحتري:
أأخيبُ عندكِ والصبا لي شافعٌ ... وأُردُّ دونكِ والشبابُ رسولي
ابن التعاويذي:
أعائدٌ وأحاديث المنى خدعٌ ... على الغضى زمنٌ من عيشِنا سلفا
هيهاتَ أن ترجعَ الأيامُ من عمري ... شبيبةً عندكم أنفقتُها سرفا
وقال أيضًا:
فلربَّ ليلاتٍ سلفنَ لنا بها ... والقلب بالتفريق غير مروَّعِ
أيام لا ظل الصبا بمقلصٍ ... عنَّا ولا شمل الهوى بمصدعِ
أيام لهو طالما أنضيتها ... في مشهد للغانيات مجمعِ
لو كنتَ شاهدنا بها لرأيتَ ما ... يصيبكَ من مرأى هناك ومسمعِ
1 / 8
فيهدي الصواب إلى كل سمع كأنما نسج على منوال وغذي من لطف المعاني بلبان، وتصرف كما شاء في البيان، ولولا تقدم زمانه على زماني، لأطلقت في نعته لساني، وثنيت في ميدان أوصافه عناني، وذكرت من بدائع مقاصده ما هو علق بالقلوب من نغمات الأغاني، ولكن غرضي مقصور على ذكر أهل عصري وأبناء دهري، إلاّ ما لم أجد لهم فيه مقالًا، ولا نسجوا على منواله مثالًا، لأن المعاصر ما تنوّق تنوق المتقدم، ولهذا قال عنترة:
هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ
وإن ذكرت من هؤلاء الجماعة أحدًا فلموضع شرف قدرهم، ولئلا أخل بذكرهم، كيف ولم نعترف إلاّ من بحرهم، ولا شنّفنا أسماعنا إلاّ بدُرهم، ولا ارتوينا إلاّ من درهم.
مدح الإمام الناصر، ومحاسن شعره فيه له من قصيدة:
سقاكِ سارٍ من الوسميِّ هنانُ ... ولا رقتْ للغوادي فيكِ أجفانُ
يا دارَ لهوي وأطرابي وملعب أت ... رابي وللهوِ والأوطارِ أوطانُ
أعائدٌ ليَ ماضٍ من جديدِ هوًى ... أبليتهُ وشبابٌ فيكِ فينانُ
إذِ الرقيبُ لنا عينٌ مساعدةٌ ... والكاشحونَ لنا في الحبِّ أعوانُ
ولي إلى البانِ من رملِ الحمى طربٌ ... فاليومَ لا الرملُ يصيبني ولا البانُ
السيد الشريف الرضي الموسوي:
دعاني أفز باللهو والرأس مظلم ... فما أبعد الأطرابُ والرأسُ مقمرُ
رأيت شباب المرء ليلًا يجنهُ ... يغطي على بادي العيوبِ ويسترُ
وشيبُ الفتى صبحٌ يبينُ عوارَه ... ويرمقُ فيه بالعيونِ فينظرُ
وإنَّ ضلالي في النهارِ لهجنةٌ ... وإنَّ ضلالي في دجى الليلِ أعذرُ
أنشدني بعض الأصحاب في ذم الشباب واتفق أني ودعت شرف الدولة عبيد الله بن الدوامي، وكان يلقب بالشباب، فأنشدته إياها في سنة خمس وخمسين وستمائة:
والآن فارقتُ الشبابَ وقلتُ ل ... لعيشِ الذي فارقتُ غير مودعِ
ودعا المشيبُ إلى النهى فأجبتهُ ... بضميرِ مختارٌ وقلبٌ طيعِ
ورمى العذارَ بنافذٍ من أسهمٍ ... للصبحِ في ليلِ الشبيبةِ تدعي
وقلت:
ولائم في الهوى أضحى يفندني ... بلومهِ وعذول لجّ في عذلِ
قالا تسلّ فأيام الصبا سفهٌ ... وذكرها قلت قد أكثرتما جدلي
وقلت:
لا تسمني صبرًا فقد حرم ال ... صبر عيونٌ ترمي بسحرٍ حلال
واستعر لي دمع السحاب فقد أف ... نيت دمعي على الرسوم الخوالي
وأعد لي ذكر العقيقِ وأيا ... م تقضت لنا به وليالي
فطلابي رجوع ما فات من عص ... رِ الصبا والشباب عين الضلال
وسؤالي رسمًا محيلًا ونؤيًا ... عاطلًا من تعللات المحال
فالهُ عني يا عاذلي فغرامي ... حاكم باستهانة العذالِ
آخر:
وكانَ الشبابُ الغضُّ لي فيه راحةٌ ... فوقرني فيه المشيبُ وأدبا
فسقيًا ورعيًا للشباب الذي مضى ... وأهلًا وسهلًا بالمشيب ومرحبًا
محمد بن حازم:
لا حينَ صبرٍ فخلِّ الدمعَ ينهملُ ... فقدُ الشبابِ بيومِ المرءِ متصلُ
لا تكذبنَّ فما الدنيا بأجمعها ... من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بدلُ
كفاكَ بالشيبِ ذنبًا عند غانيةٍ ... وبالشبابِ شفيعًا أيها الرجلُ
عبد الله بن حسن بن حسن:
لو أنَّ أسرابَ الدموعِ ثنت ... شرخَ الشبابِ على امرئ قبلي
لبكيته دهري بأربعة ... فسفحتها سجلًا على سجلِ
السيد الرضي الموسوي:
فمالي أذمُّ الغادرينَ وإنما ... شبابيَ أوفى غادرٍ بي وما ذقِ
تعيرني شيبي كأني ابتدعتُهُ ... ومَنْ لي أنْ يبقى بياضُ المفارقِ
منصور النمري:
لا حسرةٌ تنقضي مني ولا جزعُ ... إذا ذكرتُ شبابًا ليس يرتجعُ
ما كنتُ أُوفي شبابي كنهَ غرتهِ ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبعُ
وقد ذكرت ما يتعلق بالشباب حسبما يقتضيه هذا المختصر. ومن هذا الباب ما قيل في الخضاب فإنه شباب مستعار.
قال الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، وقيل: إنه لم يعمل غيرها:
خضبتُ الشيبَ لما كانَ عيبًا ... وخضبُ الشيبِ أولى أن يُعابا
ولم أخضبْ مخافةَ هجرِ خلٍّ ... ولا عنتًا خشيت ولا عتابا
1 / 9
ولكن المشيب بدا ذميمًا ... فصيّرتُ الخِضابَ له عقابا
أنشدني بعض الأصحاب:
وهي التي قالت لجارة بيتها ... قولًا دموعي كنَّ رجعَ جوابهِ
ما كان ينفعه لديّ شبابهُ ... فعلامَ يُتعبُ نفسهُ بخضابهِ
آخر:
وحقك ما خضبتُ مشيبَ رأسي ... رجاءً أنْ يدومَ لي الشبابُ
ولكنّي خشيت يراد مني ... عقول ذوي المشيب فلا يصابُ
أنشدني كمال الدين محمد بن البوازيجي:
إنّ الخضابَ لحيلةٌ ... في ردِّ أيامِ الشبابِ
ويغضّ من طرف العدو ... ويستبي قلبَ الكَعابِ
أنشدني آخر:
وقائلة لما رأت شيب لمتي ... استرهُ عن وجهها بخضابِ
أتسترُ عنّي وجهَ حقٍّ بباطلٍ ... وتوهمني ماءً بلمعِ سرابِ
فقلت لها كفّي ملامك إنها ... ملابس أحزاني لفقد شبابي
ابن الرومي:
وقالوا اختضبْ قبلَ المشيبِ فقد بدتْ ... لأسهُمِهِ في عارضيْكَ نُصولُ
فقلتُ خضابُ الأصل لم يبق لونه ... فكيفَ خضابٌ يعتريه نصولُ
وله:
إذا خضب الشيخ المشيب فإنه ... حدادٌ على شرخ الشبيبةِ يلبسُ
وإلا فما يبغي امرؤٌ بخضابهِ ... أيطمعُ أنْ يخفَى شبابٌ مُدلّسُ
وكيفَ بأنّ يخفى المشيبُ بخاضب ... وكلُّ ثلاثٍ صُبحهُ يتنفسُ
وهبه يواري شيبهُ أينَ ماؤهُ ... وأينَ أديمٌ للشبيبةِ أملسُ
وقال:
إذا شَنئتْ عينُ امرئ شيبَ نفسهِ ... فعينُ سواه بالشناءةِ أجدرُ
ألا أيهذا الشيبُ سمعًا وطاعةً ... فأنت لَعمريَ ما حييتُ المظفّرُ
إذا كنت تمحو صبغةَ الله قادرًا ... فأنتَ على ما يصبغُ الناسُ أقدرُ
وقال محمود الوراق:
يا خاضب الشيب الذي ... في كلِّ ثالثةٍ يعودُ
إن النصول إذا بدا ... فكأنّهُ شيبٌ جديدُ
ولابن المعتز في نقض هذا:
وقالوا المشيبُ مشيبٌ جديدُ ... فقلتُ الخضابُ شبابٌ جديدُ
إساءة هذا بإحسانِ ذا ... فإنْ عادَ هذا فهذا يعودُ
وحكي أن بعض ملوك حمير خرج متصيدًا فرأى شيخًا منفردًا فوقف عليه وإذا به يخضب، فقال: يا شيخ هبك تخضب البياض فكيف تخضب الكبر، وأنشده:
إذا دام للمرء السواد وأخلقتْ ... محاسنه ظنَّ السوادَ خضابا
فكيف يظنُّ الشيخُ أنَّ خضابهُ ... يُظنُّ سوادًا أو يخالُ شبابا
أقول: لو أُعطيَ الشيخ نصيبًا من البيان وكانت له قريحة في هذا الشأن لأمكنه أن يجيب الملك مناقضًا وينشده معارضًا:
وحقك لم أخضب رجاءَ شيبةٍ ... تعاد ولا وصل أخافُ ذهابهُ
ولكن بدا شيبي ذميمًا ورائدًا ... لموتي فصيرتُ الخضاب عقابهُ
البيت الأول مأخوذ من قول القائل:
وحقك ما خضبت مشيب رأسي ... رجاء أن يدوم لي الشبابُ
ويزيد عليه:
ولا وصل أخاف ذهابه
والثاني من قول أبي علي الفارسي:
ولكنَّ المشيبَ بدا ذميمًا ... فصيرتُ الخضاب له عقابا
ويزيد عليه:
ورائدًا لموتي
أنشد كمال الدين بن محمد لنفسه:
لما رأيت الشيب نازل لمتي ... أعددتُ عندي للقاء خضابا
وعلمتُ أنَّ الشيبَ موتٌ قادمٌ ... فجعلته دونَ المشيبِ حجابا
علي بن هلال الصابي الكاتب:
خضب الشيبَ إذْ بدا أترابي ... وتوخوا فيه خلافَ الصوابِ
ولو أنِّي خضبتُ ضاعتْ بقايا ... من شبابي صحيحة في خضابي
ومضتْ هيبةُ المشيبِ ولم ير ... جعْ إلى الوجنتين ماءُ الشبابِ
فيضيع الشبابُ مني والشي ... ب جميعًا إذا حسبتُ حساب
أبو نواس:
تمتع من شباب ليس يبقى ... وصل بعرى الغبوق عرى الصبوحِ
وصف في الغزل والنسيب
قال امرؤ القيس في طيب الثغر:
كأنَّ المدامَ وصوبَ الغمامِ ... وريحَ الخزامى ونشرَ القطرْ
القطُر والقطْر عود البخور.
يعلّ به بردُ أنيابِها ... إذا غردَ الطائر المستحرْ
العلّ والنهل نوعان من الشرب، وصفها بطيب الريق طعمًا ورائحة عندما يغرد الطائر في السحر وذلك وقت تغيير الأفواه.
ومثله:
يا أطيبُ الناسِ ريقًا عندَ هجعتِها ... وأحسن الناس عينًا حينَ تنتقبُ
ابن الرومي:
1 / 10
وما تعتريها آفةٌ بشريةٌ ... من النومِ إلاّ أنّها تتخيرُ
وغيرُ عجيبٌ طيبُ أنفاسِ روضةٍ ... منورةٍ باتتْ تراحُ وتمطرُ
كذلك أنفاسُ الرياحِ بسحرةٍ ... تطيبُ وأنفاسُ الأنامِ تتغيرُ
وللتهامي من أبيات مختارة أذكرها لموضعها من الحسن:
يحكي جنى الأقحوان الغضّ مبسمُها ... في اللونِ والريحِ والتفليج والأشرِ
لو لم يكنْ أقحوانًا ثغرُ مبسمِها ... ما كانَ يزدادُ طيبًا ساعةَ السحرِ
الفلج في الأسنان: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات، ورجل مفلج الثنايا: متفرقها، وهو خلاف المتراص الأسنان، وتأشير الأسنان: تحزيزها وتحديد أطرافها، يقال: بأسنانه أشُر وأشَر وأشور أيضًا، ومن أبيات التهامي:
أهتزّ عند تمني وصلها طربًا ... وربَّ أمنيةٍ أحلى من الظفرِ
تجني عليَّ وأجني من مراشفِها ... ففي الجنى والجنايات انقضى عمري
أهدى لنا طيفُها نجدًا وساكنهُ ... حتى اقتنصنا ظباءَ البدو في الحضرِ
بيضاء تسحب ليلًا حسنهُ أبدًا ... في الطولِ منه وحسنُ الليل في القصرِ
وأخذت من التهامي فقلت:
يزيد رضا به في الصبح طيبًا ... لأنَّ الثغر منه جني الأقاحي
ومثله لعميد الدين بن عباس:
وظلم لماها العذب من بعد هدأة ... من الليل سلسال الرحيق المفدم
وللسيد الرضي:
وأقسم ما معتقةٌ شمولٌ ... ثوت في الدنّ عامًا بعد عام
إذا ما شارب القوم احتساها ... أحسَّ لها دبيبًا في العظام
بأطيب من مجاجتهن طعمًا ... إذا استيقظن من سنة المنام
ولم أرشف لهن لمًى ولكن ... شهدن بذاك أعواد البشام
هذا البيت الآخر من المعاني المطروقة وأنا أذكر ما يحضرن منها، قال شاعر الحماسة:
وما نطفةٌ من ماءِ مزن تقاذفت ... به جنبتا الجوديّ والليل دامس
فلما أقرتهُ اللصاب تنفستْ ... شمالٌ بأعلى متنهِ فهو قارسُ
بأطيبَ من فيها وما ذقتُ طعمهُ ... ولكنني فيما ترى العينُ فارسُ
اللصب بالكسر الشعب الصغير في الجبل، والقارس البارد، ويقال: الجامد، والأول هنا أجود، ومثله، وهو في غاية الحسن:
كأنَّ على أنيابها الخمر شجه ... بماء الندى من آخر الليل غابق
وما ذقته إلا بعيني تفرسًا ... كما شيم من أعلى السحابة بارق
ومثله:
جنى النحل في فيه وما ذقت طعمه ... ولكنما قد دبّ من تحته النمل
ومن هذا المعنى للمغاربة:
من نسل هارون تعشقته ... يقتلني بالصدِّ والتيه
قد أنزل السلوى على قلبه ... أقول والمنّ على فيه
ومنه أيضًا:
يا أطيب الناس ريقًا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
ومثله لزهير المصري وقد طرف فيه:
وقد شهدَ المسواكُ عندي بطيبهِ ... ولم أرَ عدلًا وهو سكرانُ يطفحُ
ومثله:
يروي لنا المسواك طيب حديثه ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى
وللفقيه عمارة مثل هذا من أبيات أذكرها لموضعها من الجودة وهي:
سرت نفحة كالمسك أزهى وأعطر ... وأردية الظلماء تطوى وتنشرُ
وما هي إلاّ نفحة بعثت بها ... سليمى إلى صبّ تنام ويسهرُ
وإلا فما بال النسيم الذي سرى ... بذي الأثل عن عرف العبير يعبرُ
شهدت يقينًا أن مرآك جنة ... وقالوا وما أدري وريقك كوثر
ومثله أيضًا:
وفي الحمول سمحة ضنينة ... تبذل وجهًا وتصون ملمسا
سلسالها إن لم أكن أعرفه ... رشفًا فقد وصفته تفرسا
ابن الرومي:
وما ذقته إلاّ بشيم ابتسامها ... وكم مخبرٍ أبداه للعين منظرُ
ومثله لكمال الدين بن العديم:
وما عذبَ المسواك إلاّ لأنه ... يقبلها دوني وإني لراغم
فقلت له صف لي جنى رشفاتها ... فالثمني فاهًا بما هو زاعم
الحديث ذو شجون، وقال امرؤ القيس:
خليليّ مُرا بي على أمّ جندبِ ... نقضِّ لباناتِ الفؤادِ المعذبِ
ألم ترَ أني كلما جئتُ زائرًا ... وجدتُ بها طيبًا وإن لم تطيبِ
هذا أحسن من قول كثيِّر وأدل على الطيب حيث قال:
وما روضةٌ بالحزنِ طيبةُ الثرى ... يمجُّ الثرى جثجاثُها وعرارُها
1 / 11
بأطيبَ من أردانِ عزةَ موهنًا ... وقد أوقدتْ بالمندلِ الرطبِ نارُها
ورأيت بعض الأدباء ينشد:
وما أوقدت بالمندل الرطب
اعتذارًا لكثيّر وإصلاحًا لشعره. على أن العرب يصفون المرأة بهذا لدلالته على النعمة. وقال امرؤ القيس:
أغرَّكِ مني أنّ حبكِ قاتلي ... وأنكِ مهما تأمري القلبَ يفعل
وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضربي ... بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتل
زهير بن أبي سلمى:
ولما عرفتُ الدارَ قلتُ لربعها ... ألا عمْ صباحًا أيها الرَّبعُ وأسلم
وفيهنَّ ملهىً للطيف ومنظرٌ ... أنيقٌ لعينِ الناظرِ المتوسِّمِ
وقال جرير، وقيل إنه أغزل ما قيل:
إنَّ العيونَ التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللبِّ حتى لا حراكَ بهِ ... وهنَّ أضعفُ خلقِ الله أركانا
وأبيات أبي الشيص داخلة في باب الاختيار ومعدودة من محاسن الأشعار، ولولا أن بعض الأدباء قال كلامًا معناه أنه لا ينبغي لمن له أدنى حس أن يخل بحفظها ولا لجامع أن يخلي منها مجموعة لما ذكرتها لاشتهارها وهي:
وقفَ الهوى من حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخرٌ عنهُ ولا متقدمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبًا لذكركِ فليلمني اللُّومُ
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبُّهمُ ... إذْ كانَ حظي منكِ حظي منهمُ
وأهنتني وأهنتُ نفسي عامدًا ... ما منْ يهونُ عليكِ ممنْ يكرمُ
البيت الأول مستعمل وقد نقل من الغزل إلى المديح إلى الهجاء وأنا أذكر منه ما يتفق، فمن ذلك في الغزل:
تركتُ فيك المنى مفرقة ... وأنت منها بمجمع الطرقِ
ومثله في المديح:
إنَّ المكارم والمعروف أودية ... أحلكَ الله منها حيثُ تجتمعُ
ومثله لأبي نواس:
فما فاته جود ولا حلَّ دونه ... ولكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ
وقريبٌ من هذا المعنى:
إنَّ السماحةَ والمروءةَ ضمنا ... قبرًا بمرو على الطريقِ الواضحِ
ومثله أيضًا:
إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى ... في قبةٍ ضُربتْ على ابن الحشرجِ
غيره:
فتىً إذا عدّت تميمٌ معًا ... ساداتها عدّوه بالخنصرِ
ألبسه الله ثياب العلى ... فلم تطل عنه ولم تقصرِ
ومثله في الهجاء:
أنتمْ قرارةُ كلِّ معدنِ سَوءةٍ ... ولكلِّ سائلةٍ تسيلُ قرارُ
عدي بن زيد الرقاع:
لولا الحياءُ وأنَّ رأسيَ قد عسا ... فيه المشيبُ لزرتُ أمَّ القاسمِ
وكأنها بينَ النساءِ أعارها ... عينيهِ أحورُ من جآذرِ جاسمِ
وسنانُ أقصدهُ النعاسُ فرنّقتْ ... في عينه سنةٌ وليس بنائمِ
ذو الرمة، واسمه غيلان:
وقفتُ على ربعٍ لمميَّةَ ناقتي ... فما زلتُ أبكي عنده وأخاطبهُ
وأسقيهِ حتى كادَ مما أبثُّهُ ... تكلمني أحجارهُ وملاعبهُ
ومنها:
وقد حلفتْ بالله ميّةُ ما الذي ... أقولُ لها إلاّ الذي أنا كاذبه
إذًا فرماني الله من حيثُ أتقي ... ولا زال في أرضي عدوّ أحاربه
إذا نازعتكَ القولَ ميّةُ أو بدا ... لك الوجهُ منها أو نضا الدرعَ سالبه
فيا لك من خدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خلْقٍ تعلل جادبه
جادبه، بالدال المهملة: عائبه.
وقال:
نعمْ هاجتِ الأطلالُ شوقًا كفى به ... من الشوق إلاّ أنهُ غيرُ ظاهرِ
فما زلتُ أطوي النفسَ حتى كأنها ... بذي الرمثِ لم تخطرْ على قلبِ ذاكرِ
حياءً وإشفاقًا من الركبِ أن يروا ... دليلًا على مستودعاتِ السرائرِ
وقال:
حيِّيتَ من زائرٍ أنى اهتديتَ لنا ... وأنتَ منا بلا نحوٍ ولا صددِ
وقال:
وقفنا فسلّمنا فكادتْ بمشرفٍ ... لعرفانِ صوتي دمنةُ الدارِ تنطقُ
تجيشُ إليَّ النفسُ في كلِّ منزلٍ ... لميٍّ ويرتاعُ الفؤادُ المشوقُ
أراكِ إذا ما نمتُ يا ميُّ زرتني ... فيا عجبًا لو أنَّ رؤياكِ تصدقُ
وقال:
لها بشرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشي لا هراءٌ ولا نزرُ
وعينانِ قالَ اللهُ كونا فكانتا ... فعولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ
وقال:
1 / 12
ألا يا اسلمي يا ميُّ كلَّ صبيحةٍ ... وإنْ كنتُ لا ألقاكِ غيرَ لمامِ
وقال الأعشى:
ما روضةٌ من رياضِ الحزنِ معشبةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلُ
يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزَّرٌ بعميمِ النبتِ مكتهلُ
اكتهل النبات: تم طوله وبدا نوره.
يومًا بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذْ دنا الأصلُ
عدي بن زيد الرقاع:
ونبه شوقي بعدما كانَ كامنًا ... هتوفُ الضحى مشعوفةٌ بالترنُّمِ
بكتْ شجوها تحتَ الدجى فتساجمت ... إليها غروب الدمع من كل مسجمِ
وبعدهما البيتان المشهوران:
فلو قبلَ مبكاها بكيتُ صبابةً
وقريب من هذا أبيات الحماسة:
لقد هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ ... على فننٍ تبكي وإني لنائمُ
فقلتُ اعتذارًا عند ذاكَ وإنني ... لنفسيَ فيما قد رأيتُ للائمُ
أأزعمُ أني عاشقٌ ذو صبابةٍ ... بليلى ولا أبكي وتبكي البهائمُ
كذبتُ وبيتِ الله لو كنتُ عاشقًا ... لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
يزيد بن معاوية:
إذا برزت ليلى من الخدر أبرزت ... لنا مبسمًا عذبًا وجيدًا مطوقا
كأنَّ غلامًا كاتبًا ذا براعةٍ ... تعمد نوني حاجبيها فعرقا
كأن المعري نظر على عماه إلى هذا، فقال:
ولاح هلالٌ مثلُ نونٍ أجادها ... بجاري النُّضارِ الكاتبُ ابنُ هلال
وأحقاف رمل جاذبتها وهزة ... عرتها كما هزَّ الصبا غصنَ النقا
أتت تتهادى كالقضيب فقبّلت ... يدي غلطًا منها فقبلت مفرقا
وباتت يدي طوقًا لها وابتسامها ... يريني شعاعًا آخر الليل مشرقا
فلم أرَ بدرًا طالعًا قبل وجهها ... ولا ميتًا قبلي من البين أشفقا
ذو الرمة:
ألمّا بميّ قبل أنْ تطرحَ النوى ... بنا مطرحًا أو قبلَ بينٍ يزيلها
ولو لم يكنْ إلاّ تعللَ ساعةٍ ... قليلٌ فإني نافعٌ لي قليلها
قال محمد بن سلمة الضبي: صدرت من الحج فيممت منهلًا من المناهل فرأيت في البادية بيتًا منفردًا من البيوت فقصدته وكلمت من فيه فخرجت إلي جارية متبرقعة، فقلت: يا بنية هل لك في أن تأويني من هذا الحر، فقالت: نعم وأذنت لي حر هذا اليوم الدخول، فبينما هي تحدثني وأحدثها إذ سقط البرقع عن وجهها فرأيت وجهًا لم أر أحسن منه فجعلت أكرر النظر متعجبًا فلم يكن أسرع من أن خرج علينا عجوز من خباء ملاصق لذلك الخباء، فقالت: ما جلوسك عند هذا الغزال النجدي الذي لا تأمن من خياله ولا ترجو نواله، فقالت الجارية: يا جدة دعيه يتعلل، كما قال ذو الرمة:
ولو لم يكنْ إلاّ تعلل ساعةٍ
فأقمت باقي يومي وانصرفت وفي قلبي من حبها كجمر الغضا.
قال العتبيُّ: خرجت حاجًّا فلما صرت بقباء تداعى الوفد الصقيل وإذا جارية كأن وجهها السيف الصقيل فلما أرميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها، فقلت لها: إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بالنظر إلى وجهك فانصاعت وأنا أغرف الضحك في وجهها وأنشدت:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائدًا ... لقلبك يومًا أتعبتك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كله أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
توبة بن الحمير، صاحب ليلى الأخيلية:
ولو أنَّ ليلى الأخيليةَ سلمتْ ... عليَّ ودوني جندلٌ وصفائحُ
لسلمتُ تسليمَ البشاشةِ أوزقا ... إليها صدىً من جانبِ القبرِ صائحُ
وأُغبطُ من ليلى بما لا أنالهُ ... ألا كلُّ ما قرت به العينُ صالحُ
آخر:
ديار تنسمتُ المنى نحو أرضها ... وطاوعني فيها الهوى والحبائبُ
ليالي لا الهجران محتكم بها ... عليَّ وضل من أهوى ولا الظنُ كاذب
محمد بن يزيد الأموي:
لا وحبيك لا أصا ... لح بالدمع مدمعا
من بلى حبه استرا ... ح وإنْ كانَ موجعا
أبو حية النميري:
كفى حزنًا أني أرى الماء معرضًا ... لعيني ولكنْ لا سبيلَ إلى الوِردِ
وما كنتُ أخشى أنْ تكونَ منيتي ... بكفِّ أعزِّ الناسِ كلهم عندي
السيد الرضي:
يا سرحةً بالحزن لم ... يبللْ بغيرِ دمي ثراها
ممنوعةً لا ظلُّها ... يدنو إليّ ولا جناها
مروان بن أبي حفصة:
1 / 13
طرقتكَ زائرةً فحيّ خيالها ... بيضاءُ تخلطُ بالحياءِ دلالها
يقول فيها:
مالتْ بقلبكَ فاستقادَ ومثلها ... قادَ القلوبَ إلى الصبا فأمالها
وكأنما طرقتْ بنفحةِ روضةٍ ... سحّتْ بها ديمُ الربيع ظلالها
باتتْ تسائلُ في الظلامِ معرِّسًا ... بالبيدِ أشعثَ لا يملُّ سؤالها
لم يأت في صفة الطيف بغريب، والناس فيه عيال على قيس بن الخطيم في قوله:
أنَّى سربتِ وكنتِ غيرَ سروبِ ... وتقربُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينهُ ... في النومِ غيرَ مصردٍ محسوبِ
كان المنى بلقائها فلقيتها ... فلهوتُ من لهوِ امرئٍ مكذوبِ
وقد أحسن جرير في قوله:
أتنسى إذ تودِّعنا سليمى ... بفرعِ بشامةٍ سقيِ البشامُ
بنفسي مَنْ تجنُّبهُ عزيزٌ ... عليّ ومن زيارتهُ لمامُ
ومنْ أمسي وأصبح لا أراهُ ... ويطرقني إذا هجعَ النيامُ
البشام: شجر طيب الريح يستاك به، ويروى:
أتذكرُ يومَ تصقلُ عارضيها ... بفرعِ بشامةٍ سقيُ البشامُ
قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: قولهم: امرأةٌ نقية العارض، أي نقية عرض الفم، وأنشد البيت، يعني به الأسنان وما بعد الثنايا، والثنايا ليست من العارض.
وقال ابن السكيت: العارض: الناب والضرس الذي يليه، واحتج بقول ابن مقبل:
هزئتْ ميةُ أنْ ضاحكتها ... فرأتْ عارضَ عودٍ قد ثرمْ
قال: والثرم لا يكون إلاّ في الثنايا.
وأبيات جرير وإن خلت من معنىً في الطيف مبتكر فهي حلوة الألفاظ سهلة.
ولأبي عبادة البحتري في وصف الخيال الفضل على كل متقدم ومتأخر، فإنه تغلغل في أوصافه وتنوَّق في ذكره، وكان لهجًا بتكرار القول فيه، وإن كان لأبي تمام مواضع لا يجهل فضلها ولا ينكر حقها، وسأورد من شعرهما فيه، ومن أشعار غيرهما، ما يناسب الغرض في هذا المختصر الذي جمع بمزاحمة الأوقات.
قال أبو تمام:
زار الخيال لها لا بل أزاركهُ ... فكرٌ إذا نامَ فكرُ الخلقِ لم ينمِ
ظبيٌ تقنصتهُ لما نصبتُ له ... في آخر الليلِ أشراكًا من الحلمِ
وقوله:
عادكَ الزورُ ليلةَ الرملِ من ... رملةَ بينَ الحمى وبينَ المطالِ
نمْ فما زاركَ الخيالُ ولكن ... ك بالفكرِ زرتَ طيفَ الخيالِ
وقال:
الليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحتهُ النوى من الأيامِ
يا لها ليلة تنزهت الأرْ ... واحُ فيها سرًا من الأجسامِ
مجلسٌ لم يكنْ لنا فيه عيبٌ ... غيرَ أنّا في دعوةِ الأحلامِ
البيت الأول أخذه المتنبي، فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبِّرُ أنَّ المانويّةَ تكذبُ
ضده لابن منير الطرابلسي:
ما مانَ مانيّ لولا ليل عارضهِ ... ما شدَّ حبل المنايا بالأمانيّ
قال البحتري:
وإني وإنْ ضنَّتْ عليَّ بودِّها ... لارتاح منها للخيال المؤرقِ
يعزُّ على الواشينَ لو يعلمونها ... ليالٍ لنا نزدارُ فيها ونلتقي
فكم غلةٍ للشوقِ أطفأتُ حرَّها ... بطيفٍ متى يطرقْ دجى الليل يطرقِ
أضمُّ عليهِ جفنَ عيني تعلقًا ... به عندَ إجلاءِ النعاسِ المرنّقِ
وقال:
بلى وخيالٌ من أثيلةَ كلما ... تأوَّهتُ من وجدٍ تعرَّضَ يطمعُ
إذا زورةٌ منه تقضتْ مع الكرى ... تنبَّهتُ من وجدٍ له أتفزَّعُ
ترى مقلتي مالا ترى في لقائهِ ... وتسمعُ أذني رجعَ ما ليسَ تسمعُ
ويكفيك من حقٍّ تخيُّلُ باطلٍ ... تردُّ بهِ النفسُ اللهيفَ فترجعُ
وقال:
إذا ما الكرى أهدى إليَّ خيالهُ ... شفى قربه التبريحَ أو نقعَ الصدا
إذا انتزعتهُ من يديَّ انتباهةٌ ... عددتُ حبيبًا راحَ مني أو غدا
ولم أرَ مثلينا ولا مثلَ شأننا ... نعذَّبُ أيقاظًا وننعمُ هجّدا
وقال:
وليلةَ هوَّمنا مع العيسِ أرسلتْ ... بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطله
فلولا بياضُ الصبحِ طالَ تشبُّثي ... بعطفيْ غزالٍ بتُّ وهنًا أغازله
وقال:
أمنكَ تأوُّبُ الطيفِ الطروبِ ... حبيبٌ جاءَ يهدى من حبيبِ
تخطى رقبةَ الواشينَ كرهًا ... وبعدَ مسافةِ الخرقِ المجوبُ
1 / 14
يكاذبني وأصدقهُ ودادًا ... ومن كلفٍ مصادقةُ الكذوبِ
أعرابي:
وخبرها الواشون أنَّ خيالها ... إذا نمتُ يغشى مضجعي ووسادي
فخفرها فرطُ الحياءِ فأرسلتْ ... تعاتبني غضبي لطولِ رقادي
وقال مهيار بن مرزويه:
في الظباء الماضين أمس غزالُ ... قالَ عنه مالا يقولُ الخيالُ
لم يزل يخدع البصيرةَ حتى ... سرّني ما يقولُ وهو محالُ
لا عدمتُ الأحلام كم نوَّلتني ... من عزيزٍ صعبٍ عليه النوالُ
هذه الأشعار قد اختلفت فيها مذاهب القوم وأكثرها يدل على شدة الحرص على النوم، لأن منهم من جعل النوم ذريعة إلى الخيال الزائر، ومنهم من أنكر زيارته لأنه أبدًا ساهر، أما قول البحتري:
إذا انتزعته من يدي انتباهة
وقوله:
أراني لا أنفك في كل ليلة
فإنه يدل على نوم شديد واستغراق ما عليه مزيد إذ لا يزال الخيال في يديه فلا ينزعه إلاّ انتباهة وقد ادعى نباهةً في الوجد وأين فيه من النائم نباهةٌ. وأكثر نومًا منه القائل:
وما ليلة في الدهر إلاّ يزورني ... خيالك إلاّ ليلة لا أنامها
فهذا شعر من غلبة النعاس فنام، وجعل الطيف حجة وذريعة إلى هذا المرام، وقد أحسن مهيار في قوله ما شاء:
وابعثوا أشباحكمْ لي في الكرى ... إنْ أذنتم لجفوني أنْ تناما
والبديع الحسن في هذا قول ابن التعاويذي:
قالت أتقنعُ أنْ أزوركَ في الكرى ... فتبيتَ في حلمِ المنامِ ضجيعي
وأبيك ما سمحتْ بطيفِ خيالها ... إلاّ وقد ملكتْ عليَّ هجوعي
فهذا غايةٌ ما فوقها غاية، وله أن يحمل على الشعراء في هذا ألف راية.
شمس الدين الكوفي الواعظ:
قل لمن نال حظهُ من رقاد ... جاعلًا حجةً لطيف الخيالِ
لو تيقظت جئت نحوك لك ... ني أرسلتُ حينَ نمت مثالي
لو صدقتَ الهوى صدقتُ ولكن ... ما جزاء المحال غير المحالِ
المجد بن الظهير الإربلي وأجاد:
أأحبابنا إنْ فرَّقَ الله بيننا ... وحازكم من بعد قربكم البعادُ
فلا تبعثوا طيف الخيال مسلمًا ... فما لجفوني بالذي بعدكم عهدُ
وقد قيل: إن الحَيْصَ بَيْصَ دخل على أبي المظفر يحيى بن هبيرة الوزير وهو ينشد:
زارَ الخيالُ نجيلًا مثلَ مرسلهِ ... فما شفانيَ منه الضمُّ والقبلُ
ما زارني قطُّ إلاّ كي يواقفني ... على الرقاد فينفيه ويرتحلُ
والوزير يقول: هذا والله تام وفوق التام لا بل التام جزء منه، فقال الحيص بيص: يا مولانا له تمام، فقال: انظر ما تقول، قال: نعم بشرط أن يعيده الوزير، فأعاده، فقال:
وما درى أنَّ نومي حيلةٌ نصبت ... لصيده حينَ أعيا اليقظةَ الحيلُ
فأجازه وأحسن صلته: وقد ظرف القائل في قصد ما قاله الجماعة:
أتظن أنكَ عاشقٌ ... وتبيتُ طولَ الليلِ حالمْ
الطيفُ أعشقُ منكَ إذْ ... يسري إليكَ وأنتَ نائمْ
أذكر من غزل أهل العصر فمنهم: الشيخ ظهير الدين الحنفي الإربلي الفقيه النحوي المجيد الشاعر المبرز، ضرب في قالب الإحسان فبذ الأقران، وجرى في حلبة البيان فأحرز قصب الرهان، هاجر من وطنه إلى الشام وآثر بها المقام، وشنف أسماع أهلها بما هو أحسن من الدر في النظام، وروض معالمها بما هو أزهى من حوك الغمام، من شعراء العصر يتغلب في ظني أنه، عند جمع هذا المجموع، حي يرزق، وأنشدني بعض الأصحاب من شعره في الطيف وهو حسن:
لله طيفك ما أشدَّ حفاظه ... يوفي بعهد أخي الحفاظِ وينكثُ
ليلي بزورته كخطفةِ بارقٍ ... يا ليتَ ليلي حينَ يطرقُ يمكثُ
لي كلما وافى على كبدي يدٌ ... ويدٌ بأذيالِ الدجى تتشبثُ
وقال:
هو الوجد لولا ما تجنُّ الجوانحُ ... لما روت السفحَ الدموع السوافحُ
ولولا الهوى العذري لم تذك لوعتي ... وقد عنّ برقٌ بالأبيرقٍ لائحُ
أأحبابنا كيف اللقاء وبيننا ... نوىً لم تخدْ فيه الركاب الطلائحُ
ومنها:
وأسمرُ سمرُ الخط والبيض دونه ... وحمر المنايا رعفٌ ورواشحُ
من الهيف لو لم تعطف الريح عطفه ... لما كنت فيه للنسيم أطارحُ
وقال:
وما ألذّ إلى سمعي وأطربه ... عذل إذا شابهُ اللاحي بذكركم
1 / 15
يسودّ مبيضّ أيامي لغيبتكم ... وتنجلي بكم عن ليليَ الظلمُ
وأستلذُّ بذلي في محبتكم ... يا من بهم يعذبُ التعذيبُ والألمُ
سُقمي شفاءٌ إذا عدتم فديتكم ... وصحتي في بعادي عنكم سقمُ
إن صوح النبت من صدري وزفرته ... فمن دماء جفوني أورقَ السلمُ
صلى إلى حبكم قلبي وطاف به ... فأنتم كعبة المشتاق والحرمُ
البيت الأول من قول أبي الشيص:
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةَ
وقد تقدم. ومثله:
أحبّ العذول لتكراره ... حديثَ الحبيبِ على مسمعي
ومثله:
ويلذُّ لي عذلُ العذولِ لأنهُ ... أبدًا يكرر ذكركم في مسمعي
وهذا كثير جدًا. والبيت الثاني مأخوذ من ابن زيدون المغربي في قوله:
حالت لبعدكم أيامنا فغدتْ ... سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
وقال ابن الساعاتي:
كانت لياليهم شهبَ الحلي فغدت ... أيامهم وهي دهم عندما دهموا
وأبيات ابن زيدون حسنة، ومنها:
بنتم وبنا فما ابتلتْ جوانحُنا ... شوقًا إليكم ولا جفتْ مآقينا
تكادُ حينَ تناجيكم ضمائرُنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إنَّ الزمانَ الذي ما زالَ يُضحكنا ... أُنسًا بقربكم قد عادَ يبكينا
لا تحسبوا نأيكم عنَّا يُغيرنا ... إذْ طالما غيَّر النأيُ المحبِّينا
واللهِ ما طلبتْ أرواحنا بدلًا ... منكم ولا انصرفتْ عنكم أمانينا
وهي طويلة.
وقال مجد الدين بن الظهير المذكور، وكان يهوى صبيًا ذميًا فحُبس، فكتب إلى نواب إربل، وأنشد منها مسعود المذكور وكتبتها ها هنا لأنها بالغزل أشبه:
يا أمناء الملك قلبي إلى ... لقياكم مأسورُ أشواقهْ
ما فيكم إلاّ امرؤ فاضلٌ ... يزهو على الروضِ بأخلاقهْ
مسعودنا الذميّ في حبسكم ... وصبره واهٌ كميثاقهْ
أطلقتم الأدمعَ في حبسهِ ... فقيدوا الشكرَ بإطلاقهْ
ومن شعره:
إذا حانَ من شمسِ النهارِ غروبُ ... تذكرَ مشتاقٌ وحنَّ غريبُ
يحنُّ إليكم والخطوبُ تنوشهُ ... ويشتاقكم والنائباتُ تنوبُ
له أنةٌ لا يملك الحلم ردَّها ... متى هبَّ من ذاكَ الجناب جنوبُ
وقال أيضًا:
لو وجدنا إلى اللقاء سبيلا ... لشفينا بالقرب منكم غليلا
وسعينا على الجفون سراعًا ... ورأيناه في هواكم قليلا
قد سألنا القبول حمل التحيا ... ت فيا ليتها أصابت قبولا
وقال أيضًا:
إنْ عدتني عنكم عوادي الزمان ... فالهوى جاذب إليكم عناني
أو تناءت دياركم بعد قرب ... فالغرام الذي عهدتم مداني
لم يحل فيكم عن الفكر والذكر ... ر على النأي خاطري ولساني
أنا مستعذب عذابي ومختا ... ر على العزّ في هواكم هواني
وقال أيضًا:
إنْ لم أفز بلقائك المأمول ... فإليك معتلُّ النسيم رسولي
طارحتهُ وجدي عليكَ فرقَّ لي ... من حرِّ نارِ تلهفي وغليلي
وسألتهُ إبلاغَ ما في النفسِ من ... حملٍ لأخبارِ الهوى وفصولِ
وطمعتُ في رجعِ السلامِ فهل ترى ... يحظى لديه قبولهُ بقبولِ
وعقود دمعٍ كالعقيقِ حللتها ... لفراقِ حيٍّ بالعقيقِ حلولِ
أُفدي العقيقَ وساكنيه وإنْ همُ ... غدروا ولم يوفوا بعهدِ نزيلِ
وبأيمن العلمين ربُّ ملاحةٍ ... سدتْ على السلوانٌ كلَّ سبيلِ
فتانُ طرفٍ لم يدع قلبًا بلا ... وجدٍ ولا جسمًا بغير نحولِ
نشوان لي منه إذا نادمته ... سكران سكر شمائلٍ وشمولِ
وقال أيضًا:
غشُّ المفندِ كامنٌ في نصحه ... فأطلْ وقوفك بالغويرِ وسفحهِ
واخلع عذارك في محلٍّ ريهُ ... برذاذِ دمعِ العاشقين وسحهِ
يقول فيها:
وبيَ الذي يغنيه فاتنُ لحظهِ ... عن سيفهِ وقوامهُ عن رمحهِ
ظبيٌ يؤنس بالغرام نفاره ... ويجدّ في نهبِ القلوبِ بمزحهِ
أستعذبُ التعذيبَ في كلفي به ... والحبُّ لذةُ طعمهِ في برحهِ
البرح الشدة، وتباريح الشوق: توهجه.
يا شاهرًا من جفنه عضبًا غدا ... ماءُ المنيةِ باديًا في صفحهِ
ومعربدًا في صحوه ومباعدًا ... في قربه ومحاربًا في صلحهِ
ومنها:
1 / 16
وسعى إليك بي العذول وإنني ... لا خيب إنْ ظفرَ العذولُ بنجحهِ
طرفي وقلبي ذا يسيل دمًا وذا ... دون الورى أنتَ العليمُ بقرحهِ
فهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحهِ
والقلبُ منزلكَ القديم فإنْ تجدْ ... فيه سواكَ من الأنامِ فنحهِ
وقال من أبيات:
طال انتظاري لمهديّ الخيال فوا ... فاني وما برحَ المهديّ منتظرا
فما تمتعت منه باللقاء ولا ... ملأتُ عينيَ إجلالًا له نظرا
أضحى غريميَ عذريَّ الغرام بمن ... لو العذولُ رآه جاءَ معتذرا
لاموا على الأسمرِ الممشوقِ واتخذوا ... حديثَ وجدي عليه بينهم سمرا
قوله: ما برح المهديّ منتظرا، حسنٌ مثل السحر. وقد استعمله محيي الدين يوسف بن زيلاق، ﵀، في موشحة قالها على طريقة المغاربة فأجاد وأكثر، وهو:
لا تخالف يا منيتي أمري ... وادع لي بالرحيقْ
ما ترى رفقتي من السكر ... ليس فيهم مفيقْ
نحن قوم من شيعة الخمر ... ونحب العتيقْ
قد رفضنا عنا أذى الحزنِ ... بسماع الوترْ
وحمانا عن ناصبِ الهمِّ ... وعدكَ المنتظرْ
فهذا غاية في معناه.
وقال ابن الحنفي:
ومهفهف مذ عاينته مقلتي ... لم يلفَ قلبي في هواه معرجا
منح الأراكة والغزالة والطلى ... لينًا وإشراقًا وطرفًا أدعجا
أحوى أباح الكأس منه مقبلًا ... عذبًا وكنت إليه منه أحوجا
فأعادها سكرى بخمرة ريقه ... وأعارها من وجنتيه تأججا
وكأنما كأس المدام بكفه ... شمس النهار يقلها بدرُ الدجى
الشيخ العالم شرف الدين أبو البركات المبارك بن أحمد بن موهوب ابن غنيمة بن غالب المستوفي الإربلي اللغوي النحوي المحدث الكاتب المؤرخ الثقة فارس الآداب المجلي في ميدانها القائل: أنا ابنُ جلا فمنْ صدَّ عن نيرانها، صاحب الرواية العالية ورب الفضائل المتوالية فاق الأوائل والأواخر بأخلاق أحسن من الروض الناضر، داره مجمع الآداب والفضائل وربعه بوفود العفاة عامر آهل، كان له ملك له حاصل صالح يخرجه على عفاته ويصرفه في صلاته، متواضع للأدباء، حدب على الغرباء، وزر لمظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين صاحب إربل، ﵀، ولم يأخذ منه معيشة وكان عنده في الديوان شراسة خلق، ويلقى الناس في داره بوجه سهل طلق، فعمل فيه مواليًا:
ما أحسنك في البيت ... ما أوحشك خلف الكيس
وجُرح في زمانه فكتب إليه:
يا أيها الملك الذي سطواتهُ ... من فعلها تتعجب المريخُ
آيات عدلك محكم تنزيلها ... لا ناسخ فيها ولا منسوخُ
أشكو إليك وما بُليت بمثلها ... شنعاء ذكرُ حديثها تاريخُ
هي ليلة فيها ولدت وشاهدي ... فيما ادعيت القمط والتمريخُ
وقال ابن الظهير الحنفي لما هرب الذي جرحه وقد أمسكه شخص فقتله:
لئن فدى الله إسماعيل من كرمٍ ... بالذبح واستعظمته الأنسُ والجانُ
فقد فداك بإنسان ولا عجب ... أن يفتدى بجميع الناس إنسانُ
وفي زمن باتكين انقطع إلى بيته معتكفًا على آدابه وعلومه مشتغلًا بمنثوره ومنظومه إلى أن أخذت إربل في شوال سنة أربع وثلاثين وستمائة فانتقل إلى الموصل وحين خرج من إربل أنشد:
فارقتكم مكرهًا لا كارهًا ويدي ... أعضُّها ندمًا إذ لم أمت كمدا
والله لو أنَّ أيامي تطاوعني ... على اختياريَ ما فارقتكم أبدا
وحين وصل الموصل لقيه أمين الدين لؤلؤ أحد الأمراء الأكابر بالإكرام والاحترام ووفاه من المراعاة أتم الأقسام، وبالموصل اجتمعتُ به وكنت يومئذ صغيرًا ومات، رحمه الله تعالى بها، سنة سبع وثلاثين وستمائة وله من التصنيف: شرح أبيات المفصل، مجلدان، يرد فيهما على العلم أبي القاسم بن موفق الأندلسي.
1 / 17
حكى لنا شيخنا رضي الدين، ﵀، أنه أوصى: أن لا تظهروه إلاّ بعد موتي أو موت العلم، والأمثال والأضداد، مجلدان، حذا فيهما حذو الخالديين في كتابهما: الأشباه والنظائر من الأشعار، وكتابه، ﵀، أجمعُ. وسر الصنعة، مجلد، ومطالع الأنوار في وصف العذار، مجلد، والنظام في الجمع بين شعري المتنبي وأبي تمام، عشر مجلدات، وغير ذلك من الكتب، وقيل: إنه عمل تاريخًا ما وقفت عليه، وديوان شعره لم يظهر لأن بدر الدين صاحب الموصل استولى على كتبه وإنما في أيدي الناس من شعره قليل فمن ذلك:
أزوركم فتكاد الأرضُ تقبض بي ... ضيقًا فأرجع من فوري فيتسعُ
خدعتموني بما أبديتموه من الح ... سنى وأكثر أسباب الهوى الخدعُ
حتى إذا علقت كفي بكم ثقةً ... أسلمتموني فلا صبر ولا جزعُ
يغرني جلدي الواهي فأتبعه ... غيًّا وينصح لي شوقًا فأمتنعُ
ليت الهوى كان لا قطعًا ولا صلةً ... فلم يكن فيه لا يأس ولا طمعُ
ومن شعره:
وعيشك ما طرفي الكليل بناظر ... سواك ولا سمعي بمصغٍ لعاذلِ
ولا حلتُ عما قد عهدت وإنني ... مشوق وإن خابت لديك وسائلي
ولكنني لما سمحتَ بجفوة ... وأسعفتَ عذالي بطيب تواصلِ
صرفت هواي عنك كي لا يرى العدى ... خضوعي وتسآلي إلى غير باذلِ
وأقصرت عما قد عهدتَ وزاجرٌ ... من النفس خير من عتاب العواذل
لقد أحسن ما شاء في قوله: وزاجر من النفس خير من ... إلى آخره، وأظنه تضمينًا.
وقد أجاد ابن الحنفي الإربلي في أبيات عملها في مثل معنى البيتين الآخرين وهي:
أنس الطرفُ بالرقاد فناما ... وأطعتُ العذال واللواما
وتناسيتكم وأقصر صبّ ... لم يزل مغرمًا بكم مستهاما
هدأت مني الضلوع فما أتلفُ ... وجدًا ولا أذوبُ سقاما
وغريمي الملحّ صار سلوًا ... بعد ما كان صبوة وغراما
كم جنيتم وكم تجنيتم ظل ... مًا وأخفرتم لصبّ ذماما
وشرعتم دينًا من الغدر منسو ... خًا وأحللتم الدماء الحراما
وشفعتم بالهجر قبح ملال ... وقلًى أورث النفوسَ الحماما
فسلبتم ولايةً كم أصارت ... في يديكم لكلِّ قلبٍ زماما
ومثل هذا:
سلوت بحمد الله عنها وأصبحت ... دواعي الهوى من أرضها لا تجيبها
ولكنني داعٍ عليها وناظرٌ ... إلى نوبِ الأيام كيف تنوبها
على أنني لا شامتٌ إنْ أصابها ... بلاءٌ ولا راضٍ بواشٍ يعيبها
وقال شرف الدين رحمه الله تعالى:
أراكم فأعرضُ عنكم وبي ... من الشوق ما بعضه قاتل
وما بي ملال ولا جفوة ... ولكنني عاشق عاقل
يشبه قول القائل، ومنه أخذ:
وأحمل شدة أثقالكم ... كما يحملُ الجملُ البازلُ
وليس سكوتي عنكم رضًى ... ولكنه غضبٌ عاقلُ
وقريب من هذا، وهو في غاية الحسن، ما أنشده الإمام الناصر، قدس الله روحه، لما توفيت الخلا طبية:
من قال مفتريًا عل ... يّ سلوت كذّبه النحولُ
وجدي على ما تعهدو ... ن وإنما صبري جميلُ
ومن شعر شرف الدين، ﵀:
يا ليلة حتى الصباح سهرتُها ... قابلتُ فيها بدرَها بأخيهِ
سمح الزمان بها فكانت ليلة ... طاب العتابُ بها لمجتذبيهِ
أحييتها وأمتُّها عن كاشح ... ما همّه إلاّ الحديث يشيهِ
ومعانقي حلو الشمائل أهيف ... جمعتْ ملاحةُ كل شيءٍ فيهِ
يختال معتدلًا فإن ولع الصبا ... بقوامه متعرضًا يثنيهِ
نشوان تهجم بي عليه صبابتي ... ويردني ورعي فأستحييهِ
علقت يدي بعذاره وبخده ... هذا أقبله وذا أجنيهِ
حسدَ الصباحُ الليلَ لما ضمنا ... غيظًا ففرق بيننا داعيهِ
قوله:
ويردني ورعي فأستحيي
مأخوذ من قول السيد الرضي:
بتنا ضجيعين في ثوبي هوًى وتقًى ... يضمنا الشوقُ من فرعٍ إلى قدمِ
وباتَ بارقُ ذاكَ الثغرِ يوضحُ لي ... مواقعَ اللثمِ في داجٍ من الظلمِ
وقد أحسن أبو فراس التغلبي ما شاء في قوله:
وكم ليلةٍ خضتُ المنيةَ نحوها ... وما هدأتْ عينٌ ولا نامَ سامرُ
1 / 18
فلما خلونا يعلمُ اللهُ وحدهُ ... لقد كرمتْ نجوى وعفَّتْ سرائرُ
وبتُّ يظن الناسُ فيَّ ظنونهمْ ... وثوبيَ مما يرجمُ الناسُ طاهرُ
وللغزي مثل بيت الرضي الثاني:
حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحل بالضم نظم العقد في الظلم
تبسمت فأضاء الليل فالتقطت ... حبَّات منتثر في ضوء منتظم
والجميع مأخوذ من قول الأول:
أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوههُم ... دجى الليل حتى نظمَ الجزعَ ثاقبهُ
وينظر إلى هذه المعاني، وإن لم يذكر العقد والنظم وغيرهما، قول القائل:
سفرت والليل داجٍ سليمى ... فبدا للسفر فيه السبيلُ
فأضاءَ الصبح لما توارتْ ... وقفَ الركبُ وحارَ الدليلُ
وأخذت معنى بيت السيد الرضي الأول فقلت:
بتنا حليفي هوًى في عفةٍ وتقًى ... وليس إلاّ صبابات وأشواقُ
يبثّ كل امرئ منَّا لصاحبه ... حتى بدا من ضياء الصبح إشراقُ
وقال شرف الدين ﵀ وقد أحسن في مطلعها ما شاء:
وفى ليَ دمعي يوم بانوا بوعده ... فأجريته حتى غرقتُ بمدّه
ولو لم يخالطه دم غال لونه ... لما مال حادي العيس عن قصد ورده
أأحبابنا هل ذلك العيش راجع ... بمقتبل غض الصبا مستجده
وإنَّ على الماءِ الذي تردونه ... غزالًا بجلد الماء رقة جلده
يغار ضياء البدر من نور وجهه ... وبخجل غصن البان من لين قدّه
السيد محيي الدين يوسف بن يوسف بن زيلاق الكاتب الهاشمي الموصلي، يضرب به المثل في العدالة، وله الرتبة العليا في الشرف والأصالة، فارس مبارز في حلبات الأدب، وعالم مبرز في لغة العرب بطبعٍ أخذ لطافة الهواء ورقة الماء، كأنما ظهرت له أسرار القلوب فهو يتقرب إليها بكل محبوب، شعره أحسن من الروض جاده الغمام، وأزهى من اللؤلؤ الرطب زانه النظام، وكلامه يشفي السقام ويطفي الأوام، وبديهته أسرع من الطرف وأحلى من ثمار المنى دانية القطف، حسن العشرة، كريم النفس، جامع بين أدبها وأدب الدرس، أجاز لي قبل اجتماعي به أن أروي عنه ما تصح روايته من معقول ومنقول، وكتب بذلك إليّ، وكان بيني وبينه مكاتبات ومراسلات، فلما اجتمعت به وتجاذبنا أطراف الكلام وتجارينا في وصف النثر والنظام، وعاشرته مدة فملأ سمعي ببدائع فرائده التي هي أحسن من الدرر في قلائده، وطلبت أن يأذن لي في الرواية عنه فاعتذر اعتذار خجل وأطرق إطراق وجل، وقال: يا فلان أنا والله أجلك عن هذا الهذر وأنت أولى من عذر فإني لم أكن بك خبيرًا قبل الاجتماع ولا ريب أن العيان يخبر بما لا يعبر عنه السماع وقد صغّر الخبرَ الخبرُ كما يقال وعند الامتحان تظهر خبايا الرجال، وأذن بعد جهد شديد واعتذار ما عليه مزيد، وأقمنا زمانًا يزيد حسنًا وإحسانًا ما ذممت له مشهدًا ولا مغيبًا، وما زال ربع أنسي به خصيبًا، وفارقته مفارقة السيف لجفنه، وسحت للبين سحب جفني وجفنه، وذلك في سنة سبع وخمسين وستمائة، فقال: كأنك تنشد حين رأيتنا:
سمعت بوصف الناس هندًا فلم أزل ... أخا صبوة حتى نظرت إلى هند
فلما أراني الله هندًا وزرتها ... تمنيتُ أنْ تزداد بعدًا على بعدِ
فأخذتُ الدواة وكتبت بديهًا:
أمولاي لو بالغت في وصف لوعتي ... وشوقي وما أخفيه من صادق الودّ
وأعطيت إرسال المقال وأصبحت ... فنونُ المعاني من عبيدي ومن جندي
وطاوعني نظمُ القريضِ وحوكهُ ... فجئتُ به أزهى وأسنى من العقد
ورمتُ به وصفَ الصبابةِ والأسى ... لبعدكم لم أبدِ بعضَ الذي عندي
وأنشدني المولى قريضًا محبّرًا ... أسالَ به سلكَ الدموع على خدّي
سمعت بوصف الناس هندًا فلم أزل ... أخا صبوة حتى نظرت إلى هند
فلما أراني الله هندًا تضاعف اشت ... ياقيَ واستسلفتُ وجدًا على وجد
وهذا الذي ألقاه والشملُ جامعٌ ... فوا أسفي مما ألاقيه في البعد
1 / 19
وتوجهت إلى إربل وهو بالموصل على طريقته المرضيّة وحالته السنية، وكنا نتراسل بالأشعار والمعاني، ونجني ثمار الآداب على البعد دانية المجاني، إلى أن صاح بشمله غراب البين، وأصابته في سدادة العين، والله يحكم ولا معقب لحكمه، وإذا أراد أمرًا هيأ أسبابه، فتنكر له الزمان، ودهمته طوارق الحدثان، وأقدمه سوء الحظ على ارتكاب الخطر، وكان له أجل منتظر، ولا بد من قدوم المنتظر، فسلم الموصل إلى العلم سنجر، وجاءت عساكر المغل وحاصرت الموصل، وأُخذ هو وأولاده في شعبان سنة ستين وستمائة فقتلوا أجمع، فعاد عزّه ذلًا، وأصبح شمله مضمحلًا، وبكاه الأدب بدمعه الماطر، وخلت من أنسه دموع البيان فليس بها صافر، فإنا لله وإنا إليه راجعون وتبًا لدنيا تغدر أبدًا بالكرام، وتسقي بنيها كاسات الحِمام، غدرت بآل ساسان فبادوا، وأردتْ الأكاسرة فما أبدوا ولا أعادوا، وأفنت الأوائل والأواخر، واستولت على القرون فلن تغادر، خرّبت ارمَ ذات العماد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد:
وأجزرتْ سيف أشقاها أبا حسنٍ ... ومكَّنت من حسينٍ راحتي شمرِ
فليتها إذ فدتْ عمرًا بخارجةٍ ... فدتْ عليًّا بمن شاءتْ من البشرِ
وقد أحسن المعري في قوله:
على أمِّ دفرٍ غضبةُ الله إنَّها ... لأجدرُ أنثى أنْ تخونَ وأنْ تُخني
كأنَّ بنيها يولدون وما لها ... حليلٌ فتخشى العارَ إنْ سمحت بابنِ
فمن شعره، رحمه الله تعالى:
بدا لنا من جبيته قمرُ ... تضل في ليل شعره الفكرُ
أحور يجلو الدجى تبسمه ... أسمر يحلو بذكره السمرُ
ظبيٌ غريرٌ في طرفه سنَة ... يلذ فيها للعاشق السهرُ
تثني الحميّا من لين قامته ... غصنًا رطيبًا فروعه الشعرُ
حديث عهد الشباب ما حف بال ... ريحان وردٌ في خده نضرُ
ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فتحتاجُ عنه تعتذرُ
جوامع الحسن فيه ظاهرة ... فالقلب وقف عليه والبصرُ
خصر كما أثَّرَ التفرق في ... جسمي وريقٌ رضابهُ خصرُ
وقامة لدنة إذا خطرت ... هان علينا في حبها الخطرُ
وقال أيضًا، وهي غاية في معناها:
جديدُ بُرد الجمال طلعته ... محمية من طلائع الشعرِ
حياة وجدي ماء بوجنته ... ما كدرت صفوه يد الخضرِ
إن تطل الفكر في توردها ... فذاك والله موضع النظر
وقال أيضًا:
ثنى قده واختال كالأسمر اللدن ... فأيقظ سيف اللحظ من ناعس الجفن
هو الظبي إلاّ أنَّ في الظبي لفتة ... وغصن النقا لولا التعطف في الغصن
حبيب إذا ما قلت ما أحسن الورى ... فلست أرى فيه خلافًا فأستثني
أيا مالكي هل فرط وجدي شافعي ... إليك أم الإعراض من مذهب الحسنِ
فإني وإن أسكنت قلبي في لظًى ... لأرتع من خديك في جنتي عدنِ
وإن كنت قد أطلقت بالدمع عبرتي ... فإن فؤادي من جفائك في سجن
أيا صاحبيْ نجواي ما أنا منكما ... إذا لم تعيناني ولا أنتما مني
أخليتماني للأسى وادعيتما ... وفاءً فما أغنى وفاؤكما عني
ومن شعره، ﵀:
دعاه يشمْ برقًا على الغور لائحا ... يضيء كما هزّ الكماة الصفائحا
ولا تمنعاه أنْ يمرّ مسلمًا ... على معهد قضّى به العيش صالحا
فماذا عليه لو يطارح شجوه ... حمائم فوق الأثلتين صوادحا
بعيشكما هل في النسيم سلافةٌ ... فقد راح منها القلب سكران طافحا
وهل شافهت في مرة روضة الحمى ... فإنا نرى من طيّها النشر فائحا
وقوفًا فهذا السفح نسق ربوعه ... دموعًا كما شاء الغرام سوافحا
منازل كانت للشموس مطالعًا ... وللغيد من أدم الظباء مسارحا
وقال أيضًا:
هذا فؤادي في يديك تذيبه ... غادرته غرضَ السهامِ تصيبه
زادتْ صبابتهُ فهل تُجدي له ... نفعًا إذا ما قلَّ منك نصيبهُ
ما كان يبلغ من أذاه عدوّه ... ما قد بلغتَ به وأنتَ حبيبهُ
تُهدي الشقاءَ له وأنتَ نعيمهُ ... وتزيدهُ مرضًا وأنت طبيبهُ
يا حبذا البرقُ المضيء وإنْ بدا ... بينَ الضلوع خفوقه ولهيبهُ
وسرى النسيمُ فهزَّ عطفَ صبابتي ... إذْ كانَ من جهةِ الحبيب هبوبهُ
1 / 20