أجل لابد من إدراك الثأر لمن ذبحوا، وغصبوا فى فترة حكمهم المشئوم، ولابد من أن يدفعوا أرواحهم وعتادهم ثمنأ لجراءتهم على النزول بهذه الديار. هاجت هذه المشاعر أجناد "صلاح الدين " فخرج بهم وخرجوا معه، واستعد الصليبيون للقائه، وجمع القدر بين الفريقين عند تل حطين؟ وانتظر المسلمون فى مساجدهم من المحيط إلى المحيط أنباء القتال الذى اكتتبوا فيه بأموالهم وأبنائهم. *** انجاب الظلام، وصلى المسلمون الفجر، وتحركت طلائعهم من الفرسان تمهد الطريق للمشاة خلفها، واشتد قذف النشاب وإرسال السهام. وكان الأوروبيون يعلمون أن تقرير مصيرهم موكول إلى هذه المعركة فهجم فرسانهم على قلب الجيش واستطاعوا أن يفتحوا فيه ثغرة واسعة، إلا أن القائد المحلى لهذه الجبهة "تقى الدين بن عمر" تمكن بمهارته من أن يطوق الفرق التى انسابت من هذه الثغرة، وأن يشعل حولها النيران فى الحشائش الجافة، ثم اشتبك بها عنوة وقذف بقواته فى أتون المعركة الطاحنة، وهنا شعر الصليبيون بحرج مركزهم فاتخذوا منه مادة للاستماتة فى القتال وإحراز النصر، وأحس صلاح الدين بأن المدى بعيد، وأن استبسال الفريقين يجعل الغلب سجالا بينهما، فكان يطوف بنفسه على المسلمين يذكرهم الله ويحرضهم على الجهاد، ويأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر، فكبر المسلمون واندفعوا إلى عدوهم حاسرين وتقدموا ببطء نحو سفح حطين، وضيقوا الخناق على عدوهم، فأمر "جاى" قائد الأوروبيين برفع الصليب الأعظم حتى يذود الفرسان عنه، وكان الفرسان لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم عدد عظيم، ففت ذلك فى عضدهم وألقى فى قلوبهم الوهن. ونصب الصليبيون خيمة ملكهم ودافعوا عنها بعنف رائع، فإذا كر المسلمون على حملتها ليسقطوا آخر لواء رفعه العناد، ارتدوا عنها بتأثير دفاعهم المستميت، فكان صلاح الدين يثير حماسة أتباعه عندما يرتدون بقوله وهو يصرخ: "كذب الشيطان ". قال الأفضل بن صلاح الدين: "فلما رأيت المسلمين عادوا يتبعون الفرنجة صحت من فرحى: هزمناهم، فعاد الفرنجة فحملوا حملة ألحقوا المسلمين بوالدى، فنظرت إليه ص _197
وقد علته كآبة وأربد لونه، وعطف المسلمون عليهم كرة أخرى فألحقوهم بالتل، فصحت أنا أيضا: هزمناهم، والتفت والدى وقال: صه ما نهزمهم حتى تسقط هذه الخيمة، فبينما هو يقود ذلك إذ بالخيمة قد سقطت، واجتاحت ألوية المسلمين المكان كله، فنزل السلطان وسجد شكرا لله، وبكى من فرحه. وكان يوم حطين له ما بعده من فتح زلزل أقدام الكفر، فلم يستطع مقاما إلا تحت الثرى، وفى ذلك يقول الشاعر: أترى مناما ما بعينى أنظر القدس يفتح والفرنجة تكسر؟ ومليكهم فى السجن مأسور ولم يك قبل ذاك لهم مليك يؤسر قد جاء نصر الله والفتح الذى وعد الإله فكبروا واستبشروا ص _198
هذا الداهية هو الذي عرف علتنا!
كان الناس يعتقدون أن هذا الزحف لن يتوقف، وأن هذه الفتوح المترادفة لن يرتد سيلها حتى يغمر أرجاء العالمين. ها قد أضحت "إفريقية" مسلمة، وها قد اجتاز المسلمون مضايق البحر وأسسوا لهم نقطة ارتكاز فى أرض "الأندلس" ثم ماذا حدث؟ إن طارقا العنيد يقرع أبواب "أوروبا" من الجنوب والغرب، وسوف ينكسر تحت ضرباته الجبارة كل ما استعصى فتحه من هذه السدود القائمة.
نعم و.. ما أسرع ما تحققت الظنون، فإن رأس الجسر الذى أقامه العرب والبربر ما لبث حتى اتسع وامتد واستوعب فى امتداده شبه جزيرة "أيبريا" بما فيها من أملاك "أسبانيا " و" البرتغال ".
واطرد الزحف الفريد فى نوعه فإذا المسلمون يطلون من خلال جبال البراتس، وينظرون إلى ما وراءها نظرة لها مغزى يعرفه الأصدقاء الذين امتلأت قلوبهم ثقة، ويعرفه الأعداء الذين امتلأت أفئدتهم يأسا. ومن ثم بدأ دور جديد فى هذا الصراع الفريد. ترى ما سيكون؟ إن المسلمين يفكرون فى غزو فرنسا فهل سيحقق الغد أملهم ؟ لقد شرعوا رماحهم وتحفزوا للوثوب.
पृष्ठ 199