سعد بن أبي وقاص تمر بالأمم فترات كئيبة، يتولى الأمور فيها من لا قدم له ولا سابقة، فتراه أميرا يسوس الناس ويوجه الأمور، وهو لا يملك من أنصبة الكفاية والأمانة ما يجعله لذلك أهلا. على حين ترى أولى الرأى والحجا منزوين غامضين لا يقدرون على شىء، ولا تستفيد أمتهم من عبقرياتهم شيئا. ولعل ما يزيد الطين بلة فى هذه النقائض، أن ترى ذباب البشر يحفون بأولى الحول والطول متملقين متمدحين ، وأن تراهم فى الوقت نفسه يتناولون الكبار بألسنة حداد، مطبقين المثل القائل: "إن الدنيا إذا أقبلت على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه ". ويا لله من تهاوى الجماهير فى هذه العجائب!! إن للجماهير تصرفات تحنق الحليم، وآراء تبعد عن السداد، وليس أدل على ذلك من أن أقواما من أهل الكوفة تطاولوا على مكانة سعد فاتهموه... بأنه لا يحسن الصلاة! ليعزلوه عن الإمارة. سعد الذى اختاره عمر ليكون على حد التعبير الحديث "القائد العام " للجبهة التى افتتحها المسلمون شرقا لهدم فارس، وفارس يومئذ نصف ضلال الأرض، ونصف الدائرة الكافرة التى حطم المسلمون الأولون أسوارها الهائلة، ثم انسابوا من ورائها فلم تردهم إلا شواطئ البحار. سعد الذى رشح لإمارة المؤمنين فى العصر الذى لا يرشح فيه لهذا المنصب الأجل مغمور أو ضعيف! والذى قاتل يوم أحد قتال المستبسلين حتى جمع له الرسول صلى الله عليه وسلم بين والديه كليهما، وهو يقول له: "ارم فداك أبى وأمى".. ذلك سعد الذى يستمع إلى أكاذيب خصومه فيجيب فى إيمان: "إنى لأول العرب رمى بسهم فى سبيل الله! والله إنا كنا لنغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ما ترعاه الغنم وما بنا أحد ذو ملق! ثم أصبحت بنو أسد تعزرنى على الدين!! لقد خسرت إذن وضل عملى". ص _191 وحاشا لسعد، ولكنها مزالق كثير من الناس فى كل عصر لا ينجو منها العظماء، ولو كانوا كابن أبى وقاص.
* * *
* إسلام سعد!
أسلم سعد فى السابقين الأولين من نقباء الدعوة الأولى وأركانها المكينة فكان واحدا من هذه الطائفة التى رباها القرآن ومهدها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتى لم تزد السنون بنيها إلا وفاء وجهادا، حتى تنزل الوحى مشيدا بكرامتهم وسابقتهم فى غير آية. يقول سعد: رأيت فى المنام قبل أن أسلم بثلاث كأنى فى ظلمة لا أبصر شيئا، إذ أضاء لى قمر فاتبعته، فكأنى أنظر إلى من سبقنى إلى "ذلك القمر، فأنظر إلى زيد بن حارثة، وعلى بن أبى طالب، وأبى بكر، وكأنى أسألهم متى انتهيتم إلى هنا؟ قالوا: الساعة، ثم بلغنى أن رسول الله ! يدعو إلى الإسلام مستخفيا، فلقيته فى شعب أجياد، وقد صلى العصر، فأسلمت، فما تقدمنى أحد إلا هم.
وقد حاولت أم سعد أن ترجعه إلى الوثنية الأولى، وهددته أن تنتحر جوعا إن لم يجبها، فقال لها سعد: والله لو أن لك ألف نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى هذا لشىء، فكسرت عزيمته عزيمتها، وتراجعت ولم يتراجع، وكان سعد معروفا بأنه أكثر الناس بأمه برا.
* * *
* سعد الجندي
كان سعد فارسا عارم القوة، راميا مسدد الرمى، لم تفته غزوة يعرض روحه فى حومتها ابتغاء رضوان الله، فهو من أبطال الجهاد المادى والأدبى. رمى فى غزوة أحد بألف سهم، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتل دونه، وكان يحمل فى غزوة الفتح إحدى رايات المهاجرين. ولعل اشتراك سعد فى هذه المشاهد كلها قد أكسبه مهارة حربية فائقة رشحته- إلى جانب إسلامه وإيمانه- ليكون فى مستقبله من كبار القادة الفاتحين، فإذا ظفر مع هذا بدعوة النبى! صلى الله عليه وسلم له: "اللهم سدد رميته، وأجب دعوته "، علمت أى قوة من قوى الإيمان قد سلطت على مجوس فارس يوم أن رماهم عمر بسعد، فسار إليهم والصحابة يقولون عنه: "إنه الأسد عاديا".
***
ص _192
* سعد القائد:
पृष्ठ 193