كان هذا الفوز دعما ماديا وأدبيا لكيان الأمة الإسلامية فى أول أمرها، وكان المسلمون قد صابروا الأيام، وعالجوا الشدائد، وهم ثابتون على عقيدتهم ماضون فى حمايتها، يقتحمون العقبات، ويواجهون الغمرات، فلما ضمتهم ساحة القتال، وواجهوا أعداءهم على ما رأينا آنفا، نظر إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة عميقة ورق لهم قلبه الكبير. عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فى ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا من أصحابه، فلما انتهى إليها قال: اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم " . ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين واكتسوا وشبعوا. * * * لقد أثلج هذا النصر أفئدتهم، ونزل على أنفسهم كما ينزل الشراب البارد الحلو بعد ظمأ طال جفافه، ويبست منه الحلوق والأحشاء. وقد كان يوما له ما بعده... ص _187 قصة أسير مسلم سيق الأسرى إلى قصر الأمير، وكانت وجوههم ساهمة طبعها الحزن بمعالمه الكئيبة، وكيف لا يألمون لهذا المصير السىء وهم يخترقون بلاد الروم منكسرين لا منتصرين كما كانوا يأملون؟. ونظروا إلى زميلهم "واصل " الشاب الفقيه الذى ترك دراسته بدمشق واكتتب فى هذه الغزاة الفاشلة. وكان "واصل " يبدو غير مكترث بما حدث، فقد استمع إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم"ما من سرية ترجع غانمة إلا تعجلت أكثر أجرها، وما من سرية تروع وتحرج إلا استوفيت أجرها كله " ولكن "واصلا" كان مكتئبا لأمر واحد، فهو يعلم أن الأمير بشيرا الذى يساقون إلى قصره كان مسلما ثم ارتد، وأن ثمن ردته هذه الإمارة العريضة التى يتطاول فيها! واستعرض بشير الأسرى وكانوا ثلاثين، سألهم عن دينهم، وجادلهم فى بعض عقائده، فلما جاء دور "واصل " أبى أن يرد عليه بشىء فقال له: ما لك لا تجيبنى؟ فقال: لست مجيبك اليوم بشىء، فقال: إنى سائلك غدا فأعد لى جوابا، وجاء الغد، وأدخل "واصل " على الأمير الذى بادره الحديث بعد حمد الله والثناء عليه قائلا: عجبا لكم معشر العرب حيث تكفرون بألوهية عيسى وتقولون: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون). وما يستوى عبد ورب..!! ورأى "واصل " أن يستأمن لنفسه قبل أن يجيب، فاستوثق لحياته قدر ما يدافع عن عقيدته، فلما اطمأن قال لمحدثه: أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنت الصفة، وهذا مبلغ علمك واستحكام رأيك، والله أعز وأجل مما وصفت، وأما ما ذكرت من صفة هذين الرجلين عيسى وآدم فقد أسأت وأخطأت! ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان، وينامان ويستيقظان، ويفرحان ويحزنان؟. ص _188 قال بشير: بلى. قال واصل: فلما فرقت بينهما؟. قال: لأن لعيسى روحين اثنين، روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم الغيوب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ذكرت من أحوال الناس!. - روحان اثنان فى جسد واحد؟. قال بشير: نعم. قال واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف موضع الضعيفة. قاتلك الله! تعلم أو لا تعلم.. ماذا تريد؟. أريد إن كانت تعلم فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف البشرى وآفاته! وإن كانت لا تعلم فكيف يطلع الغيب من يجهل مجاوره فى جسد؟. فسكت بشير. واستطرد واصل: برضا عيسى أم بسخطه قدستم الصليب؟. قال بشير: هذه من تلك، ماذا تريد؟. فأجاب؟ إن كان بسخطه فما أنتم بعبيد يعطون ربهم ما سأل، وإلا فبالله، كيف تعبدون ما لا يدفع عن نفسه العدوان؟ قال بشير: أراك رجلا قد تعلمت الكلام فسآتيك بمن يخزيك الله على يديه. وأمر باستدعاء رجل من علماء القسس ليجادل هذا الشيطان، فلما حضر القس قال له بشير: هذا العربى له رأى وعقل وأجمل فى قومه وأحب أن يدخل ديننا! فأقبل القس على واصل يحتفى به ويمتدحه، ثم قال: غدا أغطسك فى المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك. قال واصل: فما هذه المعمودية؟ - ماء مقدس. - من قدسه؟. - أنا والأساقفة من قبلى. - فهل كانت لكم ذنوب وخطايا؟ أم أنت وهم مبرءون من النقص؟. - كلنا فعلنا الخطايا وليس هناك مبرأ إلا يسوع. - فكيف يقدس الماء من لم يقدس نفسه؟. فحار القس ثم استدرك: إنها سنة عيسى بن مريم غطسه يوحنا بالأردن، ثم مسح له رأسه ودعا له بالبركة!. ص _189 فقال واصل: واحتاج عيسى إلى تعميد يوحنا وأن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة؟ فاعبدوا يوحنا إذن فهو خير لكم من عيسى. فسكت القس، واغتاظ بشير وصاح به: قم! دعوتك لتنصره فإذا أنت قد أسلمت.. ونمى أمر الأسير الفقيه ومحاوراته الطريفة إلى الملك وكبير بطارقته، فطلبه إليه وسأله: ما الذى بلغنى عنك من انتقاصك لدينى ووقيعتك فيه؟ قال واصل: إنى لم أجد بدا من الدفاع عن دينى! فتدخل كبير البطارقة محاولا بوقاره وهيمنته الروحية أن ينهى هذا الامر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدا متين البناء، عارم القوة، فسأل الملك بغتة: هل للحبر الأعظم من زوجة وولد؟ وعرف الملك مثار التساؤل فقال له: صه.. هذا أزكى وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد. فقال "واصل " على الفور: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا وتزعمون أن رب العالمين سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم وظلمة البطن عجبا! تعبدون عيسى لأنه لا أب له، فلم لا تضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان. أو عبدتموه لأنه أحيا الموتى؟ فعندكم فى الإنجيل أن حزقيل مر بميت فأحياه وتكلم معه، فضموه كذلك إلى شركة الآلهة!. أو عبدتموه لأنه أراكم المعجزات؟ فهذا يوشع رد الشمس إلى فلكها إذ كادت تغرب، أو عبدتموه لأنه عرج فى السموات ؟ فهؤلاء ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار، أو... فقاطعه البطريق: اخسأ يا شيطان.. هذا التجديف أحل بك القتل! فقال: إنى أسير.. وثم ورائى من إذا بلغه خبرى لم يمنعه مسلككم معى من أن يثأر لى... أيها الملك: سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التى فى كنائسكم هل تجدون لها فى الإنجيل مبررا؟ فإن كانت فى الإنجيل فلا كلام لنا وإلا فما أشبهكم بالوثنيين. قال الملك- وقد أخذته دهشة، وانجلت عن بصره غشاوة-: صدقت قد يعقل ما تقول! (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم * وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). قال القس: هذا شيطان من شياطين العرب أخرجوه من حيث جاء، ولا تقطر من دمه قطرة فى بلادنا فتفسد علينا ديننا. ص _190
पृष्ठ 192