ص _158 ومن هؤلاء الرجال أنس بن النضر فقد أقبل- وهو واحد- على المشركين- وهم جيش- مع أن النتيجة محققة، لأن الأمر عنده ليس أمر هزيمة أو نصر، ولكنه أمر رجل قطع على نفسه عهدا فاستقام مع منطق نفسه الموقنة وحدها!! غير مكترث لمنطق الحياة وسياسة النجاة- ولو إلى حين. ومن هؤلاء فى الجاهلية "كليب " سيد بنى تغلب، قيل له: الرمح وراءك، فأبى أن يلتفت إليه حتى قتل به! لأن كليبا لا يرى بأسا من أن يهزم فى معركة يكون قتله فيها غيلة، ولا يرى لعدوه شرفا فى إدراك هذا النصر. وتلك نفوس تؤثر الهزيمة الشريفة، كما قلنا، على النصر الخسيس!. على أنه تبقى بعد ذلك أسئلة شتى عن مدى نفع هؤلاء الرجال لأممهم، وعن قيمة النجاح الذى تحظى به سياستهم فى عالم ملىء بالانتهازيين والانتفاعيين؟؟ ومع رجال يدينون بأن الغاية تبرر الوسيلة؟؟ وفى تاريخ يضم أصحاب المبادئ الجامدين عليها بالحمق، والعقم، وضعف النظر، وضيق الأفق؟؟ ومهما كثرت هذه الأسئلة المتفهمة تارة والمتهكمة تارة أخرى، فإن أمثال هؤلاء الرجال مدار لقوى الخير الذى لابد منه على ظهر الأرض، ومظهر للإنسانية المتعالية بفضلها ونبلها على الأعراض والمغريات!. ص _159 زهد وزهد هناك أنواع من متع الحياة ومباهج العيش يرى الكثيرون. أن الزهد فيها والتنزه عنها ضرب من قوة الإيمان وسمو الروح، ويحسبون مجاهدة النفس حين تتطلع إليها أمرا يستلزمه الدين ويتطلبه اليقين ! وهذا وهم يجافى الصواب فى أكثر الأحيان، ولا يجوز أن يكون عقبة أمام الشباب الذين يرغبون فى الاستمساك بدينهم والانضواء تحت تعاليمه، فأكثر أنواع الزهد المعروفة لا صلة لها بالدين أولا، ولا دلالة فيها على الفضل والكمال ثانيا، وما تعقبه من انتكاسات نفسية عميقة كثيرا ما يضر بالدين والخلق، ولذلك يحذر العقلاء آثارها الوخيمة. واخش الدسائس من جوع ومن شبع فرب مخمصة شرمن التخم ما قيمة الزهد المادى في الأشياء؟ إن بطن الإنسان شبر ولو امتلأ إلى حد التخمة ما كلف الحياة شيئا طائلا، والقيمة المادية للزهد المادى فى هذه الحالة تساوى بضعة مليمات أو بضعة قروش، والشهوة الجنسية العاتية كم يتكلف المجتمع الإنسانى لإطفائها؟ أيتكلف تقديم امرأة أو أكثر للرجل؟ يجب أن يتم ذلك إذن فى صمت، ولا يعطى فوق قدره من الأهمية ومن ثم ساق القرآن الحكيم هذه المساكة فى عرض الكلام عن مسألة أخرى أخذت صدر الحديث، وملكت ناصية السياق، واعتبرت أصل الموضوع واعتبر الكلام فى أمر المرأة تابعا لها. (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). إن أزمات العالم الكبرى، نفسية، واجتماعية، وسياسية، لم تنشأ ولن تنشأ إلا من الأثرة المفرطة، والتحاسد الباغى، والكبرياء المستبدة، وشهوات الظلم والرياء والاستعلاء، ومجاهدة هذه النوازع الخبيثة هى الزهد الحقيقى الذى تصلح به الأرض! ص _160
ولن تزيد الأرض شيئا إذا زهد بعض بنيها أو أبناؤها جميعا فى الاستمتاع بنباتها وحيوانها وخيراتها المختلفة. ولهذا يستنكر القرآن مظاهر الزهد المادى التافهة ولا يحترم بواعثها، ويرشد إلى ما يجب أن يزهد البشر فيه حقآ.
पृष्ठ 159