وهكذا تجدد للفكر الإنسانى شبابه بعد بلى وانحلال، وعادت للحضارة الإنسانية قوتها بعد ركود واضمحلال. ومن أين أتتها هذه الأمداد الوافدة بالحياة؟ من الصحراء التى لم تزدهر فيها قبل معرفة، والتى كان ينتظر منها أن تستورد المعارف من جاراتها العريقة فى الحضارة، لا أن تقوم هى بالتصدير والإمداد! وما انعكست الآية فى قوانين الأرض إلا لأن الله عز وجل أراد أن يحدث آية من لدنه. فلما اتصل جدب الصحراء بوحى السماء تحول إلى خصب ونماء. فانطلق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه !فى مشارق الأرض ومغاربها هداة مرشدين، وبناة مجددين. (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). وقد استمر نزول القرآن بضعا وعشرين سنة، كان أوله تمهيدا لآخره، وكان آخره تصديقا لأوله. وتعتبر تعاليم الإسلام وحدة متماسكة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. والإسلام الذى بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذى دعا إليه خلفاؤه رضوان الله عليهم. وإنما نقول هذا الكلام لنقرر به فرقا بين الرسالات الأرضية التى صنعها الناس لأنفسهم، وبين الرسالة السماوية المنزلة من عند الله. فالديمقراطية التى نادى بها الفرنسيون، مثلا، لم تكن لها حقيقة متميزة يوم كان الثوار الفرنسيون يهتفون لها. وقد وضعت لها دساتير كثيرة، كانت كثرتها مثار سخرية لاذعة. وقد قتل الثوار قادتهم، وانتهت ثورتهم بإمبراطورية سفاكة طاغية. ثم عادت مرة أخرى جمهورية تشرع من دساتير الديمقراطية ما تراه صحيحا اليوم لتعود إلى نقضه غدا!! ص _060 والشيوعية التى نادى بها "ماركس " هى شىء آخر غير الذى طبقه "لينين "، وما طبقه لينين شىء آخر غير الذى نفذه "ستالين ". ولسنا ندرى ما يحمل الغد فى طياته من أطوار جديدة لها. وذلك أمر لا يستغرب فيما يصنع الناس لأنفسهم من نظم. إذ أنهم يخطئون ثم يكتشفون أغلاطهم فيداوونها بخطأ آخر. أما ما يشرع الله لخلقه فهو منتهى الحكمة والرحمة. وفيه العصمة من التجارب المريرة. ومن ثم كانت الرسالة الإسلامية، فى بداية الوحى وختامه، عقدا يسلكه نظام واحد، وينتهج خطة واحدة، وغاية واحدة. وهى كذلك أبد فى كل عصر ومصر! وما نعنى بهذا مقارنة بين الإسلام وغيره من النظم، ولا بين نبى الإسلام وغيره من قادة الفكر، فالإسلام ونبيه الكريم فوق هذا. وشتان بين السفوح والقمم!! ألم تر أن السيف يزرى بقدره إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا ولكنها معالم النبوة وشارات الصدق، تتألق فى معدنها النقى، فتملأ نفوسنا غبطة ويقينا، كلما مرت السنوات وتجددت الذكريات . ص _061 عيد ميلاد أحمد بين ميلاد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وميلاد موسى عليه السلام تشابه قريب، يرجع إلى أن الحق تبارك وتعالى حين يصطنع عبدآ لنفسه، ينشئه تنشئة لا أثر فيها لتوجيه الناس، ولا محل فيها لرعاية أحد من الأقربين أو الأبعدين، ولا حاجة فيها لتدخل العباد ما دام الأمر- من قبل ومن بعد- يخص السيد وحده! . ولقد فقدت أم موسى وليدها، هى لما تنته من آثار وضعه. فهل فقد موسى عطف الوجود حين بدل من صدر أمه صدر الأمواج الهائجة المائجة، بعد أن ألقى التابوت بوديعته الغالية فى ثبج اليم الطامى؟ لا، لأن الله- الذى تخفق اللجج بتسبيحه- كان قد تكفل بكل شىء عندما قال: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). وكذلك كان حال محمد صلى الله عليه وسلم فى بحر الحياة، ولئن كانت معجزة موسى فى طفولته محسوسة لقد كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم- كشأن رسالته- لطيفة معقولة. مات أبوه الشاب ولم تسعد عيناه برؤية أعظم طفل دفعت به أرحام الأمهات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبرز "اليتيم " العبقرى إلى الوجود، وقد فقد حنان أبيه، ولكنه لم يفقد حنان ربه! وماتت أمه فى الطريق بين مكة والمدينة، فأسرعت أم أيمن لتحتضن طفلا لم يتجاوز الخامسة من عمره. طفلا فقد أبويه كليهما، ولكن حظه من رحمة الله يربو ويتضاعف كلما تقدم العمر. ومات جده وآواه عمه إليه، وكان رجلا فقيرا نبيلا، فكان على اليتيم الفريد أن يعمل مع عمه ليعيش، فتراه فى العاشرة من سنه يسافر ويتاجر ويكدح. حتى إذا رآه أحد الرهبان، وقد نضح إشراق روحه على قسمات وجهه، أدرك أن أمورا فى مستقبل الحياة الإنسانية ستقضى على يدى هذا الشاب، فهو يتساءل عنه وعن والده ثم يتمتم: ما ينبغى أن يكون أبو هذا حيا! ص _062 وهب يا صاحبى أن أباه كان حيا ماذا كان يفعل له؟ لقد كان يعقوب حيآ، وأبى الله إلا أن ينترع يوسف من بين أحضانه، وبدلا من أن يتربى فى بيت النبوة درج بين مفاتن القصور، وظلمات السجون، وأحاط به من لا يعينون على خير، بل من يغرون بالشر ويدفعون إليه دفعا، فماذا كان مستقبل يوسف الصديق؟ كان لهب الشقاء الذى صادفه حرارة أنضجت بذور الشرف فى كيانه الخاص، فإذا نفسه تتفتق عن إيمان وشرف، وعفاف وصدق. هى العناصر التى زوده بها القدر وهو جنين. والرجال الذين تصطفيهم العناية العليا يصنعون على هذا الغرار، فليس آباؤهم غارسى شمائل العظمة فى طبائعهم بالتربية والتكلف، بل إن آباءهم لا يصنعون شيئا. وما ضر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يولد يتيما. وصدق الراهب الذى قال: ما ينبغى أن يكون أبو هذا حيا. إن الذى قال لموسى : (ولتصنع على عيني) قال لأخيه الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم : (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم). * * * * هذا العلم معجزة... سل نفسك: من ألهم الأمى رسالة تفخر العقول الذكية بالفقه فيها، وتؤلف فى شرح دقائقها وبيان وجوه حكمتها وغرائب أسرارها، مكتبات فيها ألوف من الرسائل والمجلدات. مكتبات يعدو على إحداها زمن جاهل يلقى بأسفارها إلى النهر فإذا طاف الماء الصافى تسود من فرط المداد! مكتبات لا تزال مدائن العالم الكبرى تقتنيها وتحرص عليها! تتضافر كلها على ماذا؟ على خدمة الرسالة التى بعث بها النبى الأمى الذى لم يدخل مدرسة، ولم يجلس إلى أستاذ فى جامعة! ولكنه هو الذى شاد دور العلم، ووضع حجر الأساس فى الجامعات بما خلف من ثروة عقلية تطلع مع الشمس وتبقى على الآباد: ص _063 (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون). ما هى روافد هذا العلم، وأين يجد الناس منابعه فى هذه الأرض؟؟. أكانت أفكار التوحيد تنبت بين أوثان الجزيرة وأحجارها؟. . أم كانت آيات العدل تقتبس من غطرسة الأكاسرة المجوس؟. أم تعلم محمد صلى الله عليه وسلم!! الرحمة التى بعث بها من قلوب اليهود القاسية؟. ووضع أصول الوحدة من اختلاف الكنائس المسيحية وانقساماتها؟. ثم هب أن محمدا صلى الله عليه وسلم!! استوحى أصول دينه العظيم من الأرض لا من السماء. ماذا يستتبعه هذا الفرض مما يصادم العقل والواقع؟. النتيجة الغريبة هى أن قرآنا بشريا استطاع أن يقوم بدعوة لتوحيد الله فى أسلوب من القول والتوجيه لم تستطعه كتب السماء نفسها. وأنه خدم الدين بما لم يفعله رب الدين نفسه. أفهذا منطق؟ أفهذا الدين من وضع محمد صلى الله عليه وسلم!!؟ (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون). * * * * وهذه العبادة ! ويقف أمثالنا من البشر حيارى إزاء هذه العبادة التي تصل سواد الليل ببياض النهار جدا ودأبا. يكبر للصلاة، ويستفتح وإذا أبواب السماء تتفتح لنبى يقرأ فى الركعة الواحدة عشرات الصفحات من كتاب الله. ص _064 فإذا خر ساجدا حسبته زوجه قبض من طول ما لبث، وهو يقول فى ذلة وتواضع: سبحان ذى الجبروت والملكوت والعظمة! ويقول خادمه: كنت أجلس إلى بابه فلا يزال يسبح حتى أمل وتغلبنى عيناى. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقول الناس: ما يفطر، فإذا طوى الناس بطونهم على حجر طوى بطنه على حجرين!. وذهب ليحج فخرج على رحل رث وقطيفة خلقة لا تسوى أربعة دراهم ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة. حتى إذا حضره الموت كان يستفيق من سكراته ليوصى بتقسيم عدة دريهمات جاءته، على الفقراء والمساكين! وهذا النمط من العبادة المتصلة الحلقات لم يخب له ضياء منذ أن تنزل الوحى لأول مرة: (اقرأ باسم ربك الذي خلق). وظل ينهمر أكثر من عشرين عاما إلى أن أمر بتوديع الحياة الدنيا والتهيؤ للرفيق الأعلى: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)... حتى لكأنما نسق الله له مراحل حياته العظمى، وقرن انتظامها، بدوران الفلك من المشرق إلى المغرب، فليس يعروها توقف ولا اضطراب!! كيف وقد قيل له: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى). * * * * الجاه المادى والأدبى: نحن لا نستدل بالزهادة على النبوة، فكم فى الدنيا من زهاد ليسوا بأنبياء ولا أولياء. إنما موضع العبرة فى حياة سيد البشر أنه لم يحاول مرة واحدة أن يثبت لنفسه شيئا من الجاه المادى أو الأدبى. ص _065 ولم يؤثر عنه قول أو عمل يومئ إلى هذه الناحية، والعظماء النفسانيون فى ذلك غير العظماء الربانيين. الأولون يريدون أن يفرضوا نفوسهم عباقرة ممتازين، وليس يضر الواحد منهم أن يصادر فى رزقه، ولكنه لا يقر له قرار إذا خدش امتيازه أو استهين بعبقريته. إنه لا يفرط أبدا فى حقوقه، بل يرد عنه جحود أعدائه بكل ما أوتى من قوة، ولا يحزنه أبدا- وهو يقمع كيدهم- أن يراهم أمامه صرعى. أما الأنبياء، أما سيد الأنبياء، فهل ترى سمة الاعتداد بالنفسى واحتقار الأعداء والسطوة الأدبية فى مثل ما يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابه: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب). (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان). (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين). (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما). وشاء الله أن يكافئ هذا النبى الكريم الذى برئ من طلب الجاه الأدبى فأضفى عليه حللا من المجد لا تبلى: شرح له صدره، ورفع له ذكره، وأعلى له قدره، و... ومع ذلك فهناك ضروب من الزهد المادى ، هى فى روعتها آية على النبوة، وإلا فكيف تفسر إباء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوسع على زوجاته من متاع الدنيا الحلال وتنزل آيات التخيير: (إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا). إن الزاهد قد يرتضى الشظف لذات نفسه، أما أن يفرضه على بيته وقرناء حياته، فذاك مثار العبرة. ص _066 بل الأقسى من ذلك والأدعى إلى العظة، موقفه من ابنته فاطمة وزوجها على، فقد ظلت فاطمة تطحن على الرحى حتى تورمت يداها، وظل على يسقى بالقربة حتى اشتكى صدره. فلما سمعا بقدوم سبى على المدينة أرسل على زوجه تطلب خادما من أبيها. ولكنها استحيت أن تسأله وعادت إلى زوجها الذى هب يعلن الشكوى، فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ألا أخبركما بخير من ذلك؟ تسبحان الله وتحمدانه دبر كل صلاة.... " * * * * تربية قادة: ولقد استمع إلى هدايات الرسول صلى الله عليه وسلم أقوام صحبوه، وحملوا معه عبء دعوته، وشاركوه تكاليفها من جهد وتضحية. إن سيرة هؤلاء الأصحاب من بعده معجزة تضاف إلى معجزاته. وآية تضم إلى آياته ، إنهم عرفوه على ضوء العقيدة الجامعة والهدف الكبير وأحبوه حبا انطبع فى شغاف القلوب، وأحسوا كأن الله اصطفاهم لصحبة نبيه كى يكونوا من بعده سدنة رسالته وحملتها إلى الآفاق. ولقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فوجد الإسلام فى قلوبهم وأيديهم كهفه، ووجد الكفر فى يقظتهم وسيوفهم حتفه. ولكم سعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فى مرضه الأخير- عندما أطل من نافذة بيته فرأى الأصحاب الأبرار منتظمين فى صفوف الصلاة... لقد أشرق وجهه كأنه ورقة مصحف بعد أن أيقن أنه ترك آثارا لن تزول وربى نفوسا لا تحول... أجل، هذه الأسماء اللماعة فى تاريخ الإسلام ما كان يقدر لها أن تكون شيئا مذكورا لولا الدعوة التى قام بها سيد الدعاة، ودعم بها قوى الخير على ظهر الأرض. ص _067 عاطفة...!!! قال لى أحد الصالحين: إننا نحيى ربنا جل شأنه ونحن جلوس فى صلواتنا أليس كذلك؟ قلت: نعم، عقب الركوع والسجود، نهمس وأيدينا على الركب: التحيات لله. قال: ثم نتوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالسلام بصيغة الخاطب الحاضر، نقول- وكأن الكلام لشخص قريب منا-: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته...!! قلت: أجل، كذلك نفعل، على بعد المكان والزمان بيننا وبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: إن السلام أفرغ فى تلك الصيغة قصدا، لأن النبى صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون حيا فى ضمير كل مؤمن، يجب أن ينتصب له مثال مرموق فى وعى المسلم اليقظ تتحقق فيه ملامح الصورة الذاهبة! وهل تؤخذ الأسوة الواجبة إلا من هذا الاستحضار الدائم؟ لقد مرت أعصار على موت الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن القيم الرفيعة التى تجسدت فيه، نماذج العبودية لله، والجهاد فى سبيله، والحنو على خلقه، وصور الكمال البشرى فى العفاف والعدل والإيثار والمرحمة. تلك كلها معان لم تمت، وإنما خلدت فى كيان هذا النبى محمد صلى الله عليه وسلم. والمسلم عندما يقول فى صلواته: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته إنما يقترب من إمامه الأعظم الذى أمره الله أن يتأسى به، وأن يسعى فى ركابه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). * * * واسترسل الرجل الصالح فى عاطفته المهتاجة، وأخذ يشرح لى ما يعنى قال: إن الشمس فى رائعة النهار لا تعتبر غائبة عن بصير، وتستطيع كل مرآة مجلوة الصفحة أن تعكس صورة لقرصها أو لهالتها، أو لأشعتها، ومحمد صلى الله عليه وسلم فى عالم اليقين والخلق، شمس لا ينكر لها بريق، ولا يغيم لها ضوء. ص _068 والمهم أن يكون لك فؤاد مصقول يستطيع استقبال هذا النور فى حناياه، والاستهداء به فى دروب الحياة. إن القدوة الطيبة تقوم على استحضار المثل الأعلى فى الذهن، ومحاولة السير على غراره فى الخارج. والائتناس الدائم بهذا المثل الأعلى هو الذى يلهج الألسنة بعد تحية الله تبارك وتعالى بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام حضور لا سلام غيبة، ومن ثم كان كل مصل يقول: "السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ". ومحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم معقد الحقائق التى يصلح بها العالم من أزله إلى أبده، والتعاليم التى جاء بها لا يستغنى عنها الأولون والآخرون إلا إذا استغنت الأكوان عن نظام الجاذبية وسائر السنن العامة. واضطراب الحياة إنما يرجع إلى تجاهل الهدايات التى جاء بها النبيون، والتى أتمها وأجملها هذا النبى الخاتم. وما يثوب الناس إلى رشدهم إلا يوم يحتفون بهذه الرسالة وصاحبها، ويعرفون حكم الله عن طريقه. وكان حقا على العالم كله أن يصدق بهذه البعثة العامة، ولكن العالم تنكر لها وتطاول على رجلها الكبير. وعندى أن الشفاعة العظمى- التى جاءت السنن بثبوتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم- لا تعدو أن تكون لونا من تأديب البشر كافة على موقفهم السابق من نبى الإسلام، فإن رسول أى عظيم يستحق من التوقير والإعزاز بقدر ما لمرسله من مكانة، والرجل الذى أرسله رب العالمين كان يجب أن يلقى من التكرمة ما يرفع ذكره، ويعلى شأنه، غير أن أكثر الناس تواصوا بالصد عنه وجحد دعوته، ورغبوا عن الحق الذى معه، وبخسوا قيمته، ثم تتابعت الأجيال، والخلف فى أغلب بقاع الأرض يتوارثون عن سلفهم هذا التكذيب الشنيع!! ولو نظرت فى هذه الألوف المؤلفة من الكنائس والمعابد لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة تعمل فى غير ملل لصرف الناس عن الإسلام ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف... وكأن الله تبارك اسمه شاء أن يعرف هذه الأمم مدى ما كانت فيه من غباوة، وأن يذيقها شيئا من مرارة الجريمة التى ارتكبتها، فهو فى ساحة العرض الشامل لأصناف ص _069
पृष्ठ 69