وقد علمت فى كتب المنطق أن مثل هذا الكلام كلام مقنع لا محقق، وجدلى لا برهانى. ويشبه أن يكون لما تشككت به على هذا القول جواب، لكنى لم أحصله بعد، ولم أفهمه. فالأولى أن نشتغل بتبيين يبس النار، ونجعل الطريق إليه إبانة أنها لا تقبل الحصر والتحديد. ويكون بيانا أنها لا تقبل الحصر والتحديد، لا من جهة المحسوس؛ وذلك لأن النار المحسوسة غير صرفة. ومع ذلك، فإنه يعرض للأجسام فى غير مواضعها الطبيعية أن تحفظ أشكالها المواتية للحركة، كالماء المصبوب فى انصبابه؛ بل نجعل بياننا ذلك بضرب من القياس، وهو أن النار لا يشك فى أنها حارة. فلا يخلو إما أن تكون حارة رطبة أو حارة يابسة لا تسهل طاعة طباعها للحصر من غيرها.
فإن كانت حارة رطبة فهى من جوهر الهواء، وإذا كانت من جوهر الهواء لزم أن يكون مكانها مكان الهواء، فيلزم أن لا تكون النار هاربة عن حيز الهواء إلى حيز آخر، فهى إذن حارة يابسة.
وقد يقول على هذا قائل إن الهواء نفسه، إذا سخن، ارتفع عن حيز هذا الهواء المعتدل الحر، والبخار أيضا يرتفع، ويطلب مكانا فوق مكان الهواء، وهو بعد أشبه بالماء من الهواء بالماء، وإنما يصعده الحر المفرط، فالحر المفرط هو سبب أن تكون النار هاربة عن حيز هذا الهواء، الذى ليس حره بمفرط، وإن كان من طبيعته كالماء، الذى هو دونه فى المكان، إذا سخن فإنه يهرب عن موضع الماء والهواء جميعا هربا إلى فوق، كالهواء نفسه إذا سخن، فما كان من الهواء اسخن من سائر الهواء فهو هارب عن حيزه المعتدل بسخونته.
فنقول مجيبين: إن الحيز المطلوب إن كان من طبيعة الحيز المهروب عنه لا يخالفه فطلب ذلك والهرب عن هذا محال.
पृष्ठ 157