فكان يجب عليهم أن يجمعوا رأيهم على أمر واحد ويقولوا من حيث أن حرفتنا لا تحتاج بحمد الله إلى قياس وعدد كحرفة الطبيعيين والمهندسين والرياضيين. فإنهم أيّان طلب المناقش منهم دليلًا بادروا حالًا إلى البرهان بالمقادير والمساحة والحساب. فانصبوا أنفسهم وأنفس سائليهم. كان حقًا علينا أن ننهج منهاجًا مريحًا يقرّبنا ومُعاملينا إلى الغرض المقصود. وهو أن نيسر أسباب تعلم هذه الحرفة لكل مضطر إليها منهم. فمن شاء بعد ذلك أن يلبس قباء أوجبة مع سراويلات من تحتها أو تبان فليصنعها هو بأي لون أعجبه وبأي شكل راق له. إذ ليس من الرشد أن يعترض الإنسان إنسانًا آخر في كيفية لبسه أو في ذوقه ومنامه. لأن أبن آدم من يوم يستهل بالبكاء إلى أن يبلغ أربع عشرة سنة يعيش مستغنيًا عنا مفتقر إلى ما رسمنا به عليه. إذ الغريزة تهديه إلى ما يلائمه ويصلح له. إلا ترى أن الطفل إذا خُلي وطبعه لم يلبس الكتان الرفيع في الشتاء وإن كان مطرّزًا. ولا الفرو في القيط وأن كان مزركشًا. وأنه متى جاع طلب الأكل. ومتى نعس نام. وأن طربته بجميع آلات الطرب والأنغام. ومتى ظمئ شرب. ومتى تعب استراح فهو في غنى عنا من أصل الفطرة. حتى أنه يمكنه بحول الله تعالى أن يعيش مائة وعشرين عامًا وشهرًا من دون رؤية وجه أحد منا أو مشاهدة تاجه وحلته الفاخرة وخاتمه النفيس وعصاه المفضضة. فلندع الناس إذًا في دعتهم وسلامتهم وشغلهم. ولا نتطفل عليهم ولا نكلفهم ما لا طاقة لهم به. إذ لو شاء الله أن يخرج الطفل إلينا لأوحى إليه أن يسأل أبويه من وقت ترعرعه عن أسمائنا ومقامنا. وعما نحن عليه من المماحكة والجدال، والقيل والقال، والتشاحن والتشاجر، والتناقر والتنافر، والتلاعن والتهاتر، والتدابر والتهاجر، وأحسن من تركه على هذه الحالة ما إذا عنينا بتأديبه وتربيته وتهذيبه وتعليمه صنعة تنفعه في تحصيل معيشته والديه. كالقراءة والخط والحساب والأدب والطب والتصوير. وما إذا نصحنا له أن يسعى في خير أبويه نفسه وخير أبويه ومهارفه وجنسه وكل من صدق عليه أنه إنسان بقطع النظر عن هيئات اللباس وتفاوت الألوان والبلاد. لأن اللبيب الرشيد لا ينظر إلى الإنسان إلا لكونه متصفًا بالإنسانية مثله. ومن أعتبر الأمور الطارئة عليه كالألوان والطعام والزي فإنه يتباعد عن مركز البشرية كثيرًا. وإنما يتم حسن صنيعنا هذا كله ما صنعناه حسبة لوجه الله تعالى. غير طالبي الجزاء والهدايا. ولا النذر والعطايا. لأن كثيرًا من الأطباء يداوون المعسرين مجانًا. فترى أحدهم يغادر طعامه وفراشه ويذهب إلى مريض محموم أو به جدري أو طاعون احتسابًا عند الله. إذ الناس كلهم عيال على الله. وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.
هذا ما كان ينبغي أن يقولوه. وهذا ما أقوله أنا. تأمل في خرجي أقبل يطوف البحار والأمصار. ويجول في الجبال والقفار. ويعرّض نفسه ونفس من ينحاز إليه للسب والقذف والعداوة والمشاحنة وما ذلك ألا ليقول للناس أنه أعرف منهم بأحوالهم. وإذا سُئل عن دواء لعين رمدت أو ساق قرحت أو أُدرة انتفخت أو إصبع دميت. أو إذا قيل له ما ترى في من كثرت عياله، وقلّ ماله، وعّظه زمانه، وجار عليه سلطانه، فمني بالجوع، وحرم الهجوع. وأصبح يمشي والناس ينظرون جهوته، ويتجنبون خلطته. ولا يستعملونه ولا يستخدمونه، لما تقرر في عقولهم من أن الفقير لا يحسن عملًا. وقد أصبحت أولاده يبطون ويتضورون وامرأته تشكو وتسترحم ولا راحم لها لكون شبابها قد ذهب في تربية أولادها. أو قيل له هل عندك من مأوى لضيف عرير، ما له من نصير؟ قال ما جئتكم لهذا وإنما قدمت إليكم لأنظر في أنوالكم التي تنسجون عليها بضاعتكم وفي ألوانها التي لا تشاكل ما عندي في الخرج من اللون الناصع، وما أن يهمني النظر فيما فيه راحتكم وإنما الراحة فيما به تعبكم. ولو تعطلت جميع معاملكم لاقتصاركم على لوني الذي أبرزه لكم راموزًا وعنوانًا واستوجبتم بذلك لوم التجار والحراث والحكام لم يكن عليّ في ذلك من شيء.
1 / 72