قد جرت عادة الناس جميعا بأن يقولوا إذا أحبوا شيئا أو اشتاقوا إلى شيء أن قلبي يجب هذا الشيء. أو يحس بمحبة هذا الشيء. أو يشتهي ذلك الشيء. ولست أدرى علة هذا الاستعمال. فإن القلب إنما هو عضو في الجسم من جملة الأعضاء فلا يمكن أن تكون حاستيها كلها مجموعة فيه. وبيانه أنّ من أحبّ مثلًا لونًا من الطعام بخصوصه فلينظر في أدوات الأكل الباعثة على اشتهائه. ومن أحبّ امرأة فلينظر في الأداة الباعثة على اشتهائها. وما يميل إليه الطبع وهو غير محتاج إلى أعمال أداة ظاهرة وذلك كحب الرئاسة والسعادة والدين ينبغي أن يحمل على الرأس. إذ هي أمور معنوية لا علاقة لها بتلك البضعة أي القلب. وكما أن الطحال الذي هو وزير الميمنة لا تعلق له بهذه الأمور. فكذلك كان وزير الميسرة أي القلب. إلا إنه لما كانت حركة القلب أسرع من غيره لكونه أقرب إلى الرئة التي هي حرز التنفس. ظن الناس أن القلب أصل في جميع أهواء الإنسان وأشواقه. ومن عاداتهم اجتنابا للبحث عن كثرة الأسباب والعلل والتيقن للحقائق أن يقتصروا على سبب واحد من الأسباب المتعددة. وينسبوا إليه كل ما تسبب عن غيره. كما تنسب الشعراء مثلًا دواعي النحس إلى الدهر ودواعي البين والفراق إلى الغرب.
وبناء على هذا الاعتقاد أي نسبة الأهواء كلها إلى القلب أراد الخرجي أن يمتحن الفارياق ليعلم هل نبض فيه حبّ السلعة الجديدة نبضًا قويا أو لا. فجعل يقول له هل تحس في قلبك بأن السلعة الجديدة خير من الأولى. وهل يضطرب فرحًا وسرورًا عند ما تسمع بذكرها؟ وهل ينبسط ويتسع وينشرح عند خطور هذه ببالك. وينقبض ويضيق ويتضام عند ذكر تلك. وهل عند قراءتك دفتر الأثمان يخيل لك أن قد طبع فيه أي في قلبك كل حرف من حروف الدفتر. حتى لو أعوزك وجوده سدّت تلك الحروف مسدّه وهل يضطرم ويتوقد مرة ويذوب ويضمحل أخرى. ثم يعود أقوى مما كان عليه كالسمندل المعروف. وهل تحس أيضًا بأن ناخسًا ينخسه. وواخزًا يخزه وعاصره يعصره. وراهصًا يرهصه. وممزقًا يمزقه. وضاغطًا يضغطه. فقال له الفارياق أما الاضطراب والخفقان فإنه دائمًا على مثل هذه الحالة. وهو عرضة لذلك في حالتي الفرح والترح فأن أدنى شيء يؤثر فيه. وأما التوقد والذوبان فلا أدري. فقال المراد بالتوقد هنا والنخر والعصر الحمية والتحمس والتهوس وتخيل ما هو معدوم موجودًا وما هو موهوم يقينًا. ومثل ذلك مثل من يسافر في فلاة لا ماء فيها فيبلغ منه الظمأ أن يتصور السراب ماء وشعاع الشمس نقزًا. ولا يزال يمنى نفسه بوجدان الماء حتى يقطع المفازة. فإن شدة التخيل والتهوس تعين الإنسان على تحمل المكاره والمشاق. فيكون رازحًا تحت ثقلها وهو يحسب إنه المتكئين على الأرائك. فيستوي بذلك عنده المجاز والحقيقة والمحسوس وغبر المحسوس. حتى يحب الصفر خوانًا والنعش عرشًا والخازوق أو الصليب منبرًا. وربما كان ذا زوجة وعيال فيتخذهم متخذ الماعون من الخزف فيغادرهم ويجري في البلدان القاصية لترويج السلعة. ويستغني عن أهله وإخوانه ورهطه بما لديه في الخرج فيحمله على كتفه مستبشرًا مسرورًا ويضرب في مناكب الأرض طولًا وعرضًا. فكل من مر به من عباد الله عرض عليه الشركة والمضاربة. ولا يزال دأبه كذلك حتى يقضي نحبه وطوبى له أن مات على هذه الحالة. الخرج الخرج. ما لنا سواه من حرفة ولا شغل. السلعة السلعة. ليس لنا غيرها من جعل. ثم طفق يبكي وينتحب.
فلما أفاق بعد حين سأله الفارياق هل عندكم معاشر الخرجيين سوق وشيخ للسوق؟ قال لا. قال ومن يقوم لكم المتاع قال كل منا يقوم متاعه كل منا يقوم متاعه بنفسه ولا يحتاج إلى آخر. فتعجب الفارياق وقال في نفسه أن في هذا لعجبًا.
1 / 59