فإن قومًا من هؤلاء الصعافيق لهم شيخ سوقٍ وما لهم خرج. وقومًا لهم خرج وليس لهم شيخ ولكن لعل صاحبي هذا على الحق. إذ لو لم يكن كذلك لما تكلف حمل الخرج من أقصى البلاد وتجشم أخطار السفر وغيره ثم نخره الخناس أن الخرجي ربما لم يجد محترفًا في بلاده فجاء بما عنده لينفقه في بلاد أخرى. فإن تاجرًا لو استبضع من بلده مثلًا خزًا أو كرباسًا إلى بلد آخر لم يحكم له بأنه قدم إلى هذا البلد حبًا بأهله. فقد جرت العادة بأن المتسببين يطوفون في كل الأقطار. ثم فكر في أن أناة الخرجي وما هو عليه من الرزانة والصبر لا بد وأن يكون قرينها الرشد والحزم بخلاف النزق والطيش فإنه لا يكون إلا قرين الغواية والضلال. فمن ثم حكم بأن الخرجي كان على هدى وذلك لإتاحه وحلمه. وإن المطران كان من الضالين لحدّته وتترعه. ثم قال للخرجي قد وعيت يا سيدي كل ما أوعيته أذني. وما أرى الحق إلا معك. وأني مشايعك ومتابعك وحامل للخرج معك. ولكن أجرني من هؤلاء الصعافيق فأنهم كالأسود الضارية لا تأخذهم في خلق الله رأفة ولا شفقة. وعندهم أن أهلاك نفس غيرةً على الدين يكسبهم عند الله زُلْفَى. وقد تمسكوا بظاهر أقوال من الإنجيل فيما رأوه موافقًا لغرضهم وزائدًا في جاههم وسلطانهم. فيقولون أن المسيح بقوله ما جئت لألقي على الأرض سلمًا لكن سيفًا إنما رخص لهم في إعمال هذه الأداة في رقاب الناس ردًا لهم إلى طريقة الحق. وقد نبذوا وراء ظهورهم خلاصة الدين وجوهره ونتيجته. وهي الألفة بين جميع الناس والمحبة والمساعدة وحسن اليقين بالله تعالى. وما صعب على من زاغ وعمي عن الحق أن يستخرج من كل كتاب وحيًا كان أو غير وحي ما يوافق غرضه وفساد عقيدته. فإن باب التأويل واسع. أيجوز الآن الأمير الجبل إذا شاخ ولم يعد التدثرُّ بالثياب يدفئه أن يتكوى ببنت عذراء جميلة أي يتدفأ بها ويصطلي بحر جسدها كما فعل الملك داود. أم يجوز له إذا حارب الدروز وانتصر عليهم أن يقتل نساءهم المتزوجات وأطفالهم ويستحيي أبكارهم لتفجر بهن فحول جنده. كما فعل موسى بأهل مدين على ما ذكر في الفصل الحادي والثلاثين من سفر العدد. أم يجوز له أن يتزوج بألف امرأة ما بين ملكة وسرية كما فعل سليمان. أم يجوز لأحد من القسيسين أن ينكح زانية ويولدها النغول كما فعل النبي هوشع. أم يسوع لأحد من الولاة أن يقتل من أعدائه كل رجل وكل امرأة وكل طفل رضيع كما فعل شاول بالعمالقة عن أمر رب الجنود. حتى أن الرب غضب عليه لعدم قتله خيار الشاه والأنعام لإبقائه على أجاج ملك العمالقة وندم على أنه ملكه على بني إسرائيل فقام صموئيل وقطع الملك قطعًا أمام الريفي جلجال. هذا وأني قد قرأت في فهرست التوراة المطبوعة في رومية في حرف الهاء ما نصه: ينبغي لنا أي لأهل كنيسة رومية أن نهلك الهراطقة. أي المبتدعين أو المشاحنين. واستشهدوا على ذلك بما كان يجري بين اليهود وأعدائهم من القتال والفتك والاغتيال على ما سبق ذكره. فإن يكن دين النصارى يحلل قتل الرجال والنساء والأطفال والفجور بالأبكار من النساء ويبيح التوثب على عقار الغير من دون دعوة إلى الدين بل مجرد عتوّ وظلم كما كان يحلله دين اليهود فلا يسبب نسخه إذن وأبطال أحكامه لكن دين النصارى مبني على مكارم الأخلاق وغايته من أوله إلى آخره إبقاء السلم بين الناس وحثهم على الصلاح والخير. وإلا فلنرجع يهودًا. فلما سمع الخرجي ذلك رأى أن وراء هذا الكلام لباقعة. فحرص على إنقاذ الفارياق من أيدي العتاة. وارتأى أن يبعثه إلى جزيرة تسمى الملوط استئمانًا فيها. فركب الفارياق في سفينة صغيرة سائرة إلى الإسكندرية. فلما أن سارت به غير بعيد هاج البحر وأضطرب بالسفينة فلزم صاحبنا فراشه من الدوار. وطفق يشكو من ألم البحر وينوح قائلًا:
نوح الفارياق وشكواه
1 / 60