خرجت من الدير مبتئسا حزينا قانطا وقد ضاقت الدنيا عليّ برحبها. وقلت أين أذهب بأنفي هذا الذي سد عليّ مذاهب الرزق أم أين يذهب بي هو. فخطر ببالي أن أقصد ديرًا بعيدًا كنت أسمع عن رهبانه انهم صلاح. وإن بعضهم يحسن الخط العربي ويحب الغريب ويكرم الضيف. فتوجهت إليه فلما سلمت على رئيسه وطالعته بما عزمت عليه أحمد رأيي وهش بي. لكنه لم يتمالك أن نظر إليّ نظر المتعجب مني المستعيذ من شؤم تبعة تلحقه من أنفي فمكث في ديره ما شاء الله أن أمكث.
تمام قصة القسيس
وجعلت من مدة مكثي هناك بادئ بدئ مداراة الطباخ ومساحنته والثناء عليه. فكان لا يحوجني إلى شيء مما يمكن نيله في الدير. حتى أني جعلت جلّ مقامي في المطبخ. وكنت أحسن أيضًا طبخ ألوان من الطعام لا يعرفها هو فعلمته إياها فكلف بي. فكان رئيس الدير إذا استضافه أحد عزيز عليه أو اشتهى لونا من الطعام بخصوصه كلفني به. فكنت أتأنق له فيعمله ما أمكن حتى حظيت عنده. أعني أني كنت أسامره وأجلس بين يديه. ثم أني تلبست بالصلاح والتقوى بين الرهبان. فكنت أسدل قلنسوتي حتى تبلغ قصبة انفي. ويا ليت العادة جرت بان يستر الأنف بها كله. وكنت إذا مشيت أخفض رأسي إلى الأرض ولا انظر يمينا ولا شمالا إلى المحا. وإذا أكلت أو شربت أو رقدت أو مشيت أو غسلت وجهي أخبر عن ذلك كله حامدًا لله ومثنيًا عليه. فأقول مثلا: قد خرجت اليوم من صومعتي ولله الحمد أو ولله المجد وهي أحب إلى الرهبان. أو تناولت في هذا الصباح مسهلًا إن كان الله تقبل وما أشبه ذلك مما عرف عند المتظاهرين بالتقوى. حتى اعتقد الرهبان فيّ جميعا الصلاح والفضيلة. وكنت أيضًا قد كتبت بعض صلوات ركيكة للرئيس فأعجب بخطي ومدحني على ذلك. ووعدني بأن يرقيني إلى درجة تليق بي. إذ رآني متميزًا عن الرهبان بالعلم وجودة الرأي. وأخص ذلك بكوني غيدارا الغيدار هو السيئ الظن يظن فيصيب.
1 / 47