الرهبانية فذهبت إلى دير ما وقلت للرئيس. وقد أقدمني الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. فإن الدنيا لا تغني عن الآخرة شيئًا. وأن اللبيب من اتخذ دنياه هذه مجازا إلى تلك. إذ لو كانت هذه وطننا الذي شاءه لنا خالقنا لكنا نعمر فيها طويلا. على أنا نرى أن من الناس من يولد فيها ويعيش يوما واحدا فهذا دليل على أنا لم نخلق لها. وأشباه ذلك من الكلام الذي جرى على ألسنة العباد. فقبلني الرئيس وأعتقد في الفضل. واتفق في اليوم القابل أنه حاول التسور على حائط لينفذ منه إلى بعض بيوت الشركاء فدخلت في إحدى عينيه قاصدة من غصن شجرة فذهبت بها. فرجع غضبان وقد تشاءم بقدومي إلى الدير. إذ كان قد ألف التسور قبل مجيئي بمدة طويلة ولم يعرض له شيء قط فمن ثم طردني من الدير فدخلت ديرًا آخر واعدت الكلام الأول. فقبلني رئيسه فأقمت ثم أيامًا أقاسي فيها من قشف المعيشة والوسخ ما لا يرضي الله ولا أحدًا من العالمين. هذا ما عدا ما كنت أرى من عناد الرهبان وتفرق آرائهم. وطعن بعضهم في بعض وشكواهم الدائمة للرئيس من أمور باطلة. وتكبر هذا عليهم وأثرته بأشياء استخصها لنفسه من دونهم. وتنافسهم فيما يهدي إليهم النساء من نحو منديل وكيس وتكة. وزد على ذلك كله جهل الجميع إذ لم يكن في الدير كله من يحسن كتب رسالة في معنى من المعاني. حتى أن الرئيس نفسه أدام الله عزه لم يكن يعرف أن يكتب سطرا واحدا بالعربية وإنما كان يخط هذه الحروف السريانية المعروفة عندهم باسم كرشوني. وكان هذا الجاهل يتبجح بمعرفته لها ويحمل كل من دخل صومعته على إعظامها. حتى أنه كان يدعو أيًا ما كان لزيارته. فكانت الأغرار من الرهبان تعتقد أن ذلك من حسن أخلاقه وكرم طباعه. وكان قد كتب بها على بابه سطرًا وعلى الحائط سطرًا آخر. فكنت حين انظر ذلك اضحك. وهو من غفلته يظن أني أضحك إعجابًا بها. ومن كان خبا مخاتلا من الرهبان على جهله فإن كثيرًا من الناس قد جمعوا بين الختل والجهل كان يقترب غليه استجلابا لرضاه بان يقول له وهو حاسر الرأس تواضعا وخشوعا أكرم عليّ يا سيدي بنسخة من خطك اصلح عليها خطي. فكان ذلك من أحسن ما يدل به عليه. فلما اشتد عليَّ الخطب من عشرتهم وخصوصًا من رداءة الطعام أدمدم وأتضجر. فسمعني يوما طباخ الدير أشكو من قلة السمن في الأرز الذي كان يطبخه في بعض الأعياد العظيمة. وكان عتلا زنيما. فاستشاط مني غيظا وحملني على كتفه كما يحمل الرجل ولده ولكن بلا شفقة. ثم ذهب بي إلى ممار الدير وغطسني في خابية السمن وهو يقول. هذا السمن الذي أطبخ به الأرز الذي لم يعجبك يا صاحب الخرطوم. يا سليل البوم. يا نصيب المحروم. يا ابن اللوم. يا أبا الكبائر والجروم. يا رائحة الثوم. يا ربح السموم. يا علجوم. يا منهوم. يا لهوم. يا وخوم. وصب عليّ قوافي كثيرة غير هذه. فبلغ مني تغطيسه عرضي في السب أكثر من تغطيسة رأسي في السمن. فتملصت منه بعد جهد ودخلت صومعتي حتى أغسل وإذا به يطرق الباب ويعج ويقول. لابد من أن أعصر أنفك فقد دخل فيه من السمن ما يكفي الرهبان أياما. ثم أهوى بيديه على منخري كأنهما كلبتا حداد وجعل يعصرهما أشد العصر. حتى ظننت أن قد زهقت نفسي منهما. فإن الأنف وحده دون سائر ثقوب الجسد محل دخول النفس وخروجها خلافا لقوم. ولذلك يقال تنفس الإنسان. فلما شق عليّ ما قاسيته ولم أجد في الدير من أشكو إليه. إذ الرهبان كلهم يتملقون ويتوددون إليه حتى يشبعهم ولو من الثرتم.
1 / 46