كلا، إن معارفنا ليست على هذه الصورة المفككة التي يرسمها هيوم - هكذا يعترض الفلاسفة العقليون - بل إنها موصولة التيار؛ فمجموعة الحدود التي جعلناها سببا إنما تمتد حتى يتصل آخر أطرافها بأول أطراف مجموعة الحدود التي تليها والتي تجعلها مسببا. خذ أي مثال شئت لواقعة سببية، كطعنة الخنجر التي طعن بها بروتس قيصرا فقتله، فأين السبب هنا وأين المسبب؟ أتقول إن طعنة الخنجر سبب والقتل مسبب؟ لكن أين تنتهي الطعنة وأين يبدأ الموت؟ حلل الموقف إلى عناصره التفصيلية تجده سلسلة متلاحقة من أحداث يستحيل التفرقة فيها بين ما هو «طعنة» وما هو «موت»؛ ومن ثم يندمج ما هو سبب فيما هو مسبب فيكونان خطا واحدا من الحوادث، إن قلت عن شطره الأول إنه سبب ومن شطره الثاني إنه مسبب فقد فصلت جزافا ما لم يكن منفصلا بطبيعته. وخذ مثلا آخر: عزيمتك أن ترفع ذراعك ثم رفعك للذراع، فها هنا نقول عن «العزيمة» إنها سبب وعن «رفع الذراع» إنه مسبب، ولكن أين تنتهي عزمة الإرادة وأين يبدأ رفع الذراع؟ ألا إن الأمر تيار متصل من أحداث صغري إذا ما بدأ راحت أحداثه تتسلسل واحدة بعد واحدة حتى تنتهي العملية كلها، والفصل بين ما هو «سبب» وما هو «مسبب» في هذه العملية الواحدة فصل مصطنع لا يصور من الواقع شيئا.
كثيرا ما يلجأ الفلاسفة المثاليون إلى مثل هذا الاعتراض ليؤيدوا به وجهة نظرهم في أن العلاقة القائمة بين العلة ومعلولها ضرورية وليست هي مجرد اقتران طرفين كما يرى هيوم ومدرسته.
5
ونحن وإن كنا نرى أن هيوم ربما أخطأ في تصوره للأفكار بأنها كيانات مستقل بعضها عن بعض بحيث يكون للواحدة حدودها وفواصلها التي تباعد بينها وبين الأخرى، وأن الأمر على حقيقته ربما كان تيارا متصلا من أحداث صغرى، إلا أننا لا نرى كيف يمكن أن يكون هذا أساسا لرفض التحليل الذي حلل به هيوم السببية وجعلها مجرد اقتران بين سابق ولاحق؟ ما الفرق في هذا الصدد بين أن أقول إن «س» و«ص» مقترنتان دائما ولذلك فهما سبب ومسبب، وبين أن أقول إن «س» هي في الحقيقة مجموعة من حوادث صغرى هي «أ، ب، ج»، وإن «ص» هي في الحقيقة مجموعة أخرى من حوادث صغري هي «د، ه، و»، وإن تتابع «س» و«ص» هو على ذلك تتابع صورته «أ، ب، ج، د، ه، و»؟ إنه لا فرق بين الصورة الأولى المجملة والصورة الثانية المفصلة من حيث إن كلا منهما تتابع واقتران لاحق بسابق؛ فلو كانت الصورة الثانية هي التي تصور الواقع في اتصال حوادثه، فما يزال التحليل الذي قدمه هيوم للسببية قائما بالنسبة إليها، كما كان قائما بالنسبة إلى «س» و«ص» في إجمالهما، ولم يغير من الموقف أن حشونا الفجوة القائمة بينهما بحوادث صغرى تصل آخر السابقة بأول اللاحقة.
لكن الفلاسفة العقليين لا يرضيهم أن ينحل الأمر إلى صف من حوادث، نأخذ منها ما اطرد تتابعها لنقول عنها إنها هنا مرتبطة برباط السببية، ويريدون أن يكون هنالك نوع من الملاط الغيبي اللامحسوس ينسبون إليه ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وهو الملاط الذي يبيح لهم أن يقولوا إن الرابطة بين السابق واللاحق من الحوادث أمر محتوم، فمن أين جاءوا بفكرتهم هذه؟ إنهم يجعلون «السببية» مبدأ عقليا ليس هو بعينه اقتران الحوادث في التجربة، هم لا ينكرون هذا الاقتران، بل يقررونه كما يقرره التجريبيون سواء بسواء، لكن التجريبيين يقفون بالأمر عند هذا الحد، أما العقليون فيمدونه إلى جذور ضاربة وراءه في عالم الغيب، وتلك الجذور هي ما يطلقون عليه «السببية» بمعناها الميتافيزيقي، وما اقتران الحوادث في دنيا التجربة إلا علامة دالة على ما هو قائم هنالك في عالم المعقولات؛ العقليون والتجريبيون على السواء يلاحظون ما هو واقع، فكلاهما يرى العلاقة بين اتجاه الريح وسقوط المطر، لكنهما يعودان فيختلفان في أن التجريبيين يكفيهم أن يقولوا إن هذا هو ما يقع، وأما العقليون فيصرون على إضافة؛ إذ يقولون إن هذا هو ما «يجب» أن يقع. والسؤال الرئيسي هنا هو هذا: من أين جاء العقليون بهذا «الوجوب»؟ إن كل حصيلتنا من الخبرة في وقائع وقعت على نحو معين، وليس في تلك الحصيلة عنصر «الوجوب»؛ فلئن شهدت الرياح الشمالية الغربية متبوعة بالمطر في الشتاء، فلم أشهد معهما كائنا ثالثا هو «الوجوب» الذي «يضطر» الرياح والمطر أن يرتبطا على نحو ما ارتبطا. إننا لا نقول إن أمر الطبيعة فوضى، وإنها هي النزوات تجعل الرياح المعينة تستتبع المطر آنا ولا تستتبعه آنا آخر مع تشابه الظروف كلها في الآنين، بل نقول إن اطراد التتابع بين الظاهرتين قد جاءنا العلم به من الملاحظة وحدها؛ أي من الخبرة، ولا يسعنا إلا أن نقف بالأمر عند حد الملاحظة لا نعدوها، وليس في هذه الملاحظة التي أدركنا بها رياحا ومطرا ما يدل على «وجوب»، بل كل ما فيها اطراد في الحدوث وقع فعلا.
وأحب للقارئ أن يلاحظ الفرق بين جملة تصف وجملة توجب؛ فالفرق واضح بين أن أقول إن النافذة مفتوحة وأن أقول إن النافذة ينبغي أن تكون مفتوحة. أما العبارة الأولى فتصف الأمر الواقع، سواء جاء وصفها مطابقا للواقع فيكون صوابا أو غير مطابق له فيكون خطأ، وأما العبارة الثانية فلا تصف شيئا بل تأمر سامعها أن افعل كذا وكذا إن لم تجده مفعولا. وإذا كان هذا هكذا، فالكلمة الدالة على أمر، مثل «يجب» و«ينبغي» وما إليهما، ليست بذات معنى في عالم الأشياء؛ فهنالك في عالم الأشياء نافذة، وهي على إحدى صورتين؛ فإما هي مفتوحة أو مغلقة، لكنه ليس هنالك في عالم الأشياء شيء قائم بذاته اسمه «يجب» أو «ينبغي»، وعلى ذلك فكل جملة محتوية على مثل هذه الكلمة هي جملة بغير معني واقعي، مهما يكن لها بعد ذلك من صدى نفسي عند قائلها أو عند سامعها؛ وإذن فعندنا أن قول الفلاسفة العقليين عن تتابع الأحداث إنه «يجب» أن يتم على نحو ما يتم عليه هو قول بغير معنى. نعم إننا كثيرا ما نجري حديثنا هذا المجرى، حتى الحديث العلمي، فنقول إن الأحجار الملقاة في الهواء «لا بد» أن تسقط بفعل الجاذبية، وإن الماء المنساب على سفح الجبل «لا مناص» من انحداره إلى جوف الوادي، وإن كل حي «يجب» أن يموت يوما، نقول عبارات كهذه لنصف بها ما قد علمتنا الطبيعة إياه من طرائق سيرها، لكننا إذ نقول كلمات «لا بد» و«لا مناص» و«يجب» وما إليها، فإنما نريد معاني مستقاة من الخبرة، وهي المعاني التي ترتد بالتحليل إلى اطراد في الوقوع، أما إذا أراد بها قائلها أوامر صادرة من آمر وراء الحوادث وخبرتنا بها، كمبدأ السببية كما يفرضه العقليون مثلا، فعندئذ يكون الكلام خلوا من المعنى.
ونعود فنسأل: ما مصدر هذا الخلط عند الفلاسفة العقليين بين أمرين؛ الاطراد الملحوظ في اقتران الحوادث الواقعة، والوجوب العقلي الذي يظنونه قائما وراء الحوادث يملي عليها خطة سيرها؟
مصدر الخلط عندهم هو اختلاط الأمر بين ما نقوله استنباطا من مقدمات وما نقوله تسجيلا لمشاهدات؛ فكلا القولين عندهم من طبيعة واحدة. ولما كان القول من النوع الأول يقينيا دائما، أرادوا للقول من النوع الثاني أن يكون هو الآخر يقينيا كذلك، لكن كيف والمشاهدة معرضة لخطأ المشاهد في تسجيل ما يشاهده؟ هنا تراهم يضعون مبدأ عقليا تجيء المشاهدات نتائج حتمية له؛ فهنالك المبدأ العقلي الذي يوجب أن تنزل الرياح الفلانية مطرا، فإن رأيتها في دنيا الخبرة قد أنزلت مطرا كان ذلك نتيجة ضرورية للمبدأ العقلي، لا مجرد مشاهدة لحظناها فسجلناها، ولحظنا فيها اطراد الحدوث فجعلناها هاديا نهتدي به فيما عسي أن يقع في المستقبل إذا ما توافرت الظروف نفسها.
لو قصر الفلاسفة العقليون كلمة «ضرورة» أو «وجوب» على الحالات التي نستدل فيها فكرة من فكرة لما أخطئوا، فإذا كان المثلث هو بحكم التعريف شكلا مستويا محوطا بثلاثة خطوط مستقيمة، فمن «الضرورة» أن يكون ذا زوايا ثلاث؛ لأن هذه النتيجة مترتبة «حتما» على تلك المقدمة، ومصدر «الحتم» و«الضرورة» هنا هو أن النتيجة تكرار للمقدمة، وهي تكرار لها لأنها محتواة فيها، لكن ما هكذا يكون الأمر بالنسبة للحوادث التجريبية الواقعة؛ لأن كل حادثة مستقلة عن سواها، ولا يتوقف قيام الواحدة على قيام الأخرى ب «الضرورة»، بل كل ما في الأمر هو أننا نلاحظ اقتران حادثتين اقترانا مطردا، فنتوقع للاطراد أن يدوم.
مصدر الخطأ عند الفلاسفة العقليين حين يصفون العلاقة السببية بالضرورة أو بالوجوب أو بالحتم، هو نفسه مصدر خطئهم حين ينشدون اليقين في علمنا بالطبيعة؛ وذلك أنهم ينسبون ما يجدونه في العلوم الصورية من ضرورة ويقين إلى ما يحصلونه بحواسهم من خبرات. ولو تنبه القارئ إلى أوجه الاختلاف بين الحالتين، لزال من طريقه كثير جدا من مشكلات الفلسفة التقليدية، التي لم تكن في حقيقة أمرها مشكلات بقدر ما كانت نقصا في تحليل العبارات ومضموناتها. وعلى الرغم من أني قد فصلت القول في هذا الاختلاف الذي يميز العلوم الصورية ويقينها من العلوم الطبيعية واحتمالاتها (راجع الفقرة الرابعة من الفصل السادس)، إلا أنني أعود هنا إلى الموضوع نفسه عودة سريعة فأطلب إلى القارئ أن يقارن بين هاتين العبارتين: (1) أحمد أطول قامة من محمود. (2) إذا كان أحمد أطول قامة من محمود إذن فمحمود أقصر قامة من أحمد. أطلب إلى القارئ أن يقارن بين هاتين العبارتين ليدرك الفرق بين جملة تخبر فتكون معرضة للخطأ، وجملة لا تخبر بشيء وإنما تكرر الصدر في العجز فتكون ضرورية اليقين ويستحيل عليها الخطأ؛ فالجملة الأولى تخبر سامعها بأن أحمد أطول قامة من محمود، وهو خبر مستمد من مشاهدة الشخصين والمقارنة بينهما، وقد يكون الناقل لهذه المشاهدة مصيبا فيما نقل أو مخطئا. وأما الجملة الثانية فلا تقول شيئا عن الواقع، وإنما هي تستنتج نتيجة من فرض، فإذا فرضنا أن أحمد أطول قامة من محمود إذن فيمكنك أن تقول هذه الحقيقة نفسها بصياغة لغوية أخرى تكون مرادفة للصياغة الأولى بحكم تعريفنا للألفاظ ومدلولاتها، أو بعبارة أخرى فإن الشطر الثاني من العبارة تحصيل حاصل؛ لأنه يحصل من المعنى نفس ما قد حصله السامع من الشطر الأول، لا زيادة ولا نقصان. إنك لا تستطيع أن تقول العبارة الأولى «أحمد أطول قامة من محمود» إلا إذا خبرت العالم بحواسك، لكنك تستطيع أن تقول العبارة الثانية «إذا كان أحمد أطول قامة من محمود، كان محمود أقصر قامة من أحمد»، تستطيع أن تقول هذه العبارة دون أن تخبر شيئا إطلاقا من العالم الخارجي، بل دون أن يكون في العالم كله إنسان من البشر سواك؛ لأنك بهذه العبارة لا تقرر شيئا بذاته عن حقيقة معينة، بل تذكر علاقة منطقية قائمة بين «أطول» و«أقصر»، فهما ضدان، وإذا صدق أحد الضدين تحتم أن يكذب الآخر، والعلاقة التي تعبر عنها كلمة «أطول» علاقة لا تماثلية؛ بمعنى أنك إذا قرأت العبارة الواردة فيها هذه الكلمة من اليمين إلى اليسار، استحال عليك أن تقرأها هي نفسها من اليسار إلى اليمين وتظل محتفظا بمعناها الأول نفسه؛ فعبارة «أ أطول من ب» لا تساوي «ب أطول من أ»، ولكي أستخرج من العبارة الأولى ما يساويها، حين أقرأ بادئا من اليسار، وجب أن أضع مكان العلاقة ضدها.
अज्ञात पृष्ठ