وما دام العقل لا ينفي أن يتحرك الحجر في أي اتجاه، إذن فالخبرة هي مصدرنا في العلم بأن الاتجاه الفعلي للحجر - بين الممكنات الكثيرة - هو الاتجاه إلى أسفل.
إنني إذا شهدت كرة من كرات البلياردو متحركة في اتجاه كرة أخرى ساكنة، فهل يقضي العقل المجرد بضرورة أن تتحرك الكرة الأخرى إذا ما مستها الأولى؟ ألا يمكن عقلا تصور أن تسكن الكرتان معا؟ ألا يمكن عقلا أن تصدم الكرة المتحركة الكرة الساكنة وبدل أن تحركها تعود هي مرتدة، أو تقفز فوقها ثم تسير في أي اتجاه؟ هذه كلها أوضاع ممكنة عند العقل الصرف، ولا مبرر - من حيث التفكير العقلي الخالص - يجيز لنا أن نفضل حالة على أخرى من هذه الحالات التي يتساوي إمكانها عند حكم العقل؛ وإذن فيستحيل علينا الحكم «قبل» الخبرة ماذا تكون عليه الحال في مثل هذه الظروف، وإنما الذي يقضي لنا في الأمر، بحيث نختار أحد الممكنات دون سائرها، هو الخبرة الحسية التي تدلنا على ما قد يقع فعلا، فنتوقع حدوثه - لا لأنه ضرورة عقلية محتومة - بل لأنه هو الذي شهدت به التجربة كما وقعت في الحس واحتفظت به الذاكرة.
3
ليس هنالك في حدود ما نلاحظه إلا أحداث تتتابع، فإن لاحظنا بين هذه الأحداث المتتابعة حادثا بعينه يلحق دائما بحادث آخر معين، فكلما وقعت «س» لحقت بها «ص»، جاز لنا أن نقول إن «س» سبب وإن «ص» مسبب لها، دون أن نزعم بين الطرفين أي نوع من الارتباط الضروري فيما عدا هذا التتابع الملحوظ.
لكن قولا كهذا هو الذي أيقظ «كانت» ليأخذ في تحليل المستفيض لعمليات الإدراك، بحيث انتهى إلى أن الرابطة الضرورية التي تصل السبب بمسببه إن تكن خافية على الحس فذلك لا يعني أنها غير قائمة، وإلا كنا بمثابة من يفرض بادئ ذي بدء أن ما ليس يدرك بالحس فلا وجود له، وحقيقة الأمر - عند «كانت» - أن في العقل مقولات تنصب الخبرات في قوالبها فتصاغ على نحو ما نعهدها في إدراكنا. نعم إن السبب والمسبب يأتيان إلينا في مجري الخبرة وكأنما هما حادثتان مستقلتان لا يربطهما إلا مجرد التتابع الذي لا ضرورة فيه ولا تحتيم، لكن العقل مزود بمقولة السببية - بين سائر المقولات - فيصوغ في قالبها المادة الخامة التي جاءته عن طريق الحواس، والمادة الخامة في هذه الحالة هي انطباعان حسيان لشيئين وقعا في مجال الخبرة متعاقبين، فإذا هذان الانطباعان المفردان يصبحان في قالب السببية حقيقة واحدة مرتبطا تاليها بمقدمها ارتباطا ضروريا يحتمه العقل وإن لم تحتمه خبرة الحواس.
الرابطة السببية عند الفلاسفة العقليين قائمة في حكم العقل، وإن لم تكن مما تدركه الحواس، وليست هي مجرد اقتران في الحدود بين العلة والمعلول، بل إن هذا الاقتران نفسه هو العلاقة الدالة على أن وراءه رباطا عقليا، وهذا الرباط العقلي الذي يجعل المسبب أمرا لا مندوحة عن وقوعه إذا ما وقع سببه، هو جوهر السببية وصميمها؛ ومعنى ذلك أن وراء كل موقف سببي مما يعرض لنا في الخبرة الحسية، جذورا عقلية مما لا يعرض لنا في تلك الخبرة، ولو احتججت على العقليين قائلا: ما دليلي على أن وراء الموقف الظاهر جذورا خفية، إذا لم يكن هنالك من وسيلة أمامي أهتدي بها إلى طرفي الموقف وما بينهما من علاقة إلا خبرتي؟ قال الفيلسوف العقلي مجيبا: إن مطالبتك أن ترى ما لا يري بحكم طبيعته كمطالبتك أن ترى زجاجا شفافا من طبيعته ألا تدركه الأبصار؛ فالضرورة العقلية التي تربط السبب بمسببه إنما تدرك ب «العقل» وحده، ومن قبيل المصادرة على المطلوب أن تطلب رؤيتها مع سائر ما تراه من أحداث الواقع المحسوس، لكن إن قال الفيلسوف العقلي ذلك أجبناه بأنه لا مبرر يدعونا إلى افتراض ما ليست تدعو إليه حاجة، بل لا معنى لحديثنا إذا ما أدرنا هذا الحديث عما يستحيل أن نعثر عليه في خبراتنا، وعما لا ضرورة لافتراضه حتى من الوجهة النظرية الخالصة، ما دام التفسير الكامل للموقف يمكن أن يتم بغير لجوء إلى مبدأ وراء الخبرة بما فيها من أحداث وتتابعها في الوقوع. وإن شئت فانظر كيف تحقق عبارة يقول بها القائل إن «س» تسبب «ص»؟ ألست ترجع إلى الخبرة لترى إن كانت هذه الخبرة تقدم لك فيما تقدمه «س» و«ص» متتابعتين تتابعا مطردا أو لم تكن؟ ثم كيف تحقق عبارة تقول إن «س» مرتبطة ارتباطا ضروريا ب «ص»؟ ألست تلجأ إلى الوسيلة نفسها، وهي أن ترجع إلى الخبرة لترى إن كانتا مطردتين في التتابع أو لم تكونا؟ فإذا كانت وسيلة التحقيق في الحالتين واحدة، أفلا يكون معنى العبارتين واحدا، وتكون كلمة «الضرورة» الواردة في العبارة الثانية زائدة لا تفيد شيئا؟
يقول مورتس شليك:
4
إن الفرق بين مجرد التتابع الزمني بين حادثتين، والتتابع الذي يكون تتابعا سببيا، هو أن هذا التتابع السببي يكون مطرد الوقوع، فإذا ما اطرد تتابع «س» و«ص» بحيث تقع الثانية كلما وقعت الأولى، كانت «س» سببا و«ص» مسببا، أما إذا لم يطرد هذا التتابع بينهما، بحيث يجوز أحيانا أن تقع «س» ولا تلحق بها «ص»، كان الأمر في ارتباطهما مرهونا بالصدفة ولا سببية هناك. ولما كانت ملاحظتنا للاطراد في الوقوع بين الحادثتين هو كل ما هنالك، لزم أن يكون هو المبرر الوحيد الذي يدعونا إلى جعل الحادثتين سببا ومسببا، وهو مبرر كاف وحده أن يفسر لنا كل ما نحتاج إلى تفسيره من الموقف؛ فكلمة «سبب» - كما نستخدمها في حياتنا اليومية - لا تستلزم شيئا قط أكثر من اطراد التتابع؛ لأنه ليس ثمة شيء قط غير هذا الاطراد يمكن أن نلجأ إليه في تحقيق القضية التي ترد فيها هذه الكلمة.
ومما يعترض به العقليون على هذه النظرة التجريبية إلى السببية أن هذا الفصل بين السبب في ناحية والمسبب في ناحية لا يصور الواقع؛ فالحوادث في الواقع إنما يتصل بعضها ببعض اتصالا لا يدع فجوة بينها، ولو كان بين السبب ومسببه فجوة مهما بلغت من القصر، فماذا يبرر لنا أن نقول عن الطرفين إنهما متصلان اتصال العلة بمعلولها؟ إن هيوم في تحليله لمعارفنا إلى انطباعات متفرقة تصبح - بعد زوال مؤثراتها - أفكارا متفرقة كذلك، إنما يقطع أوصال التيار الشعوري المتصل، فليس قوام المعرفة حدودا منفصلا بعضها عن بعض، ثم نربطها نحن بروابط مصطنعة من عندنا، نعم ليس هذا هو قوام المعرفة، وإلا فلو كانت «س» من معارفنا ترد أولا كاملة، ثم تتبعها «ص» غير موصولة بها، للزم أن يكون بينهما فاصل زمني يفصل بين آخر نقطة من «س» وأول نقطة من «ص»؛ ومن ثم ينشأ سؤال عند العقليين: ماذا يملأ هذه الفجوة الزمنية التي تفصل «س» عن «ص» اللذين نقول عنهما إنهما علة ومعلولها؟
अज्ञात पृष्ठ