مقدمة
القسم الأول: أسس عامة
1 - منطق جديد
2 - شعاب الطريق
3 - جماعة فيينا
4 - الكلمات ومدلولاتها
5 - وحدات التحليل
6 - مطلب اليقين
7 - علمنا بالعالم
الجزء الثاني: مشكلات الفلسفة التقليدية
अज्ञात पृष्ठ
8 - الحقيقة وظواهرها
9 - مشكلة الحق
10 - من السببية إلى القانون العلمي
11 - من الكيف إلى الكم
12 - من المطلق إلى النسبي
مقدمة
القسم الأول: أسس عامة
1 - منطق جديد
2 - شعاب الطريق
3 - جماعة فيينا
अज्ञात पृष्ठ
4 - الكلمات ومدلولاتها
5 - وحدات التحليل
6 - مطلب اليقين
7 - علمنا بالعالم
الجزء الثاني: مشكلات الفلسفة التقليدية
8 - الحقيقة وظواهرها
9 - مشكلة الحق
10 - من السببية إلى القانون العلمي
11 - من الكيف إلى الكم
12 - من المطلق إلى النسبي
अज्ञात पृष्ठ
نحو فلسفة علمية
نحو فلسفة علمية
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
هذا عصر يسوده العلم، ليس في ذلك من شك؛ فما أحسب أن تاريخ الفكر في اتصال سيره وتتابع حلقاته قد شهد فجوة بين مرحلة والمرحلة التي تليها كالفجوة التي تفصل هذه المائة العام الأخيرة عما سبقها؛ والفرق بينها وبين ما سبقها هو قبل كل شيء فرق في نظرة الإنسان العلمية إلى العالم بعد أن لم تكن كذلك؛ ولست أعني بالنظرة العلمية التي تميز عصرنا هذا من شتى العصور السوالف مجرد الزيادة في الحصيلة العلمية، بل أعني - بالإضافة إلى ذلك - أن الإنسان لم يحدث له قط في عصور التاريخ الماضية أن اعتمد على العلم في حياته الفردية والاجتماعية بمثل ما يعتمد اليوم؛ فليس في حياته الفردية جانب من عمل أو من لهو يخلو من استخدامه لهذه الآلة العلمية أو تلك، وليس في حياته الاجتماعية مشكلة لم يعد يلجأ في حلها إلى شيء من العلم قليل أو كثير.
ولما كان محالا على الفلسفة في أي عصر من عصورها أن تنسلخ عن سائر الحياة العقلية الشائعة في ذلك العصر، كان محالا عليها كذلك أن تقترف في عصرنا من الإثم ما لم تقترفه طوال تاريخها الماضي؛ كانت المشكلة الأخلاقية عند اليونان وكيف ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان ليبلغ كماله، هي أول ما يشغل الناس من مشكلات، فجاء فلاسفتهم يعزفون النغمة نفسها، فيتأملون تارة ويحللون أخرى، ويجعلون موضوعهم الطبيعة مرة والإنسان مرة، ولكنهم كانوا في كل تارة وفي كل مرة يستهدفون مبدأ تطمئن له عقولهم ونفوسهم من حيث ما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان لتكون حياة مثلى؛ فلسنا نخطئ إذا قلنا عن فلسفة اليونان بصفة عامة إنها كانت تخدم الأخلاق.
ثم جاءت العصور الوسطى في أوروبا المسيحية وفي الشرق الإسلامي على السواء، فأصبحت مشكلة الناس الرئيسية عندئذ هي العقيدة الدينية كما جاء بها الوحي؛ كيف يفهمونها بحيث يطمئنون إلى سلامة فهمهم، وكيف يؤيدونها بحيث ترضى عقولهم عما قد رضيت به قلوبهم. ولم يكن بد للفلسفة أن تساير الناس في اهتمامهم الفكري، فطفقت تبحث لهم ما أرادوا البحث فيه، فتحاول أن تحلل لهم أصول عقيدتهم لتلقي لهم الضوء على غوامضها، وأن تؤيد لهم تلك العقيدة بمبادئ عقلية يستعيرونها من الماضي أو يستخرجونها من رءوسهم؛ وإذن فلا عجب أن قيل عن الفلسفة عندئذ إنها وصيفة الدين.
وجاء عصرنا الحديث بعلمه الطبيعي الذي أنتج للإنسان في ثلاثة قرون أضعاف أضعاف ما قد عرفه الإنسان عن الطبيعة في عشرات القرون الماضية. ولبث هذا العلم الطبيعي أول الأمر مقصورا على جماعة العلماء، لا يكاد الناس يحسونه في حياتهم الجارية، لكنه في القرن الأخير قد جاوز بنتائجه حدود العلماء إلى حيث الحياة العامة والحياة الخاصة على السواء، فماذا تصنع الفلسفة في عصر يسوده العلم على هذا النحو سوى أن تخدم سيد العصر كما كان شأنها في كل عصر؟ ماذا تصنع سوى أن تخدم العلم في عصر العلم كما قد خدمت الأخلاق في عصر الأخلاق والدين في عصر الدين؟
ولست أعني بطبيعة الحال أننا نعيش اليوم بغير أخلاق ودين؛ لأنني على وعي تام بما يلزم الإنسان في حياته من هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة؛ فما مر على إنسان واحد يوم واحد استطاع فيه أن يعيش بغير إدراك وبغير وجدان وبغير سلوك؛ وهذا معناه أن لا حياة بغير علم وبغير دين وبغير أخلاق، ولكن لا العلم نفسه ولا الدين نفسه ولا السلوك نفسه فلسفة، إنما الفلسفة صميم عملها هي تحليل هذا أو ذلك تحليلا يستخرج المبادئ المطمورة في لفائفه؛ فإذا كان العصر المعين ينصرف بأكثر اهتمامه إلى الدين - مثلا - جاءت فلسفة ذلك العصر منصرفة باهتمامها هي الأخرى إلى الدين، ولكنها لا تضيف نصوصا جديدة إلى نصوصه؛ أي إنها لا تضيف اعتقادا جديدا إلى اعتقاد، بل تحلل الاعتقاد الديني نفسه كما هو قائم في نصوصه تحليلا يرده إلى مبادئ منطوية فيه، فتصبح تلك المبادئ واضحة جلية بعد أن كانت متضمنة خفية، فيزداد المعتقد فهما لعقيدته؛ وعلى هذا النحو نفسه تنصرف الفلسفة إلى العلم في هذا العصر الذي يسوده العلم؛ فهي لا تضيف علما جديدا إلى علم، ولكنها تحلل عبارات العلم نفسها تحليلا يستخرج ما تنطوي عليه من مبادئ أو فروض.
अज्ञात पृष्ठ
لسنا نريد بفلسفتنا العلمية أن نشارك العلماء في أبحاثهم فنبحث في الضوء والكهرباء كما يبحثون، بل لسنا نريد أن نبحث في الحياة وفي الإنسان كما يبحثون، فلهم وحدهم أدوات البحث في الأشياء وفي الكائنات، وليس لنا إلا ما يقولونه من تلك الأشياء والكائنات من عبارات وما يصوغونه عنها من قوانين؛ فإذا حصرنا اهتمامنا - لا في إضافة عبارات إلى عباراتهم، أو في صياغة قوانين غير قوانينهم - بل في عباراتهم نفسها وقوانينهم نفسها، نحللها من حيث هي تركيبات من رموز، لنرى إن كانت تنطوي أو لا تنطوي على فرض أو على مبدأ فنخرجه، لعل إخراجه من الكمون إلى العلن يزيد الأمر وضوحا، أقول إننا إذا حصرنا اهتمامنا في هذا كانت فلسفتنا علمية بالمعنى الذي نريده لها.
فترانا مثلا نحلل قضية من الرياضة، مثل 2 + 2 = 4، ونحلل قضية من العلوم الطبيعية مثل ذرة الماء مركبة من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين، نحللهما لنرى هل طبيعة التفكير فيهما واحدة أم إنهما من طبيعتين مختلفتين. لاحظ أننا في هذه الحالة لا نضيف من عندنا علما رياضيا ولا علما طبيعيا، بل نعد العدسة التي ننظر خلالها إليهما كما هما قائمان، فنتبين منهما ما لم يكن ظاهرا، والله وحده أعلم كم حمل الفلاسفة على عواتقهم أثقالا نتيجة للخلط بين علمي الرياضة والطبيعة؛ فهنالك من الفلاسفة من جعل الرياضة وحدها هي صورة العلم الذي لا صورة سواها؛ وإذن فلا بد لمن يصف الطبيعة وصفا علميا أن يجيء كلامه على نحو ما يجيء كلام العالم الرياضي في تسلسل مقدماته ونتائجه؛ فإذا استعصت الطبيعية على هذا التفكير الاستنباطي، فهم لا يشكون أن يكون التفكير الاستنباطي وحده قاصرا عن أن يشمل أنواع التفكير كلها، بل هم يشكون في علم الطبيعة نفسه وما يجيء به من وصف للظواهر كما تقع.
كان الإنسان فيما مضى على اعتقاد راسخ بأن قوام العالم يستحيل أن يكون هو هذه الظواهر المتغيرة التي تدركها الحواس، وهل يعقل - من وجهة نظره عندئذ - أن يكون كل ما هنالك هو هذه الحالات العابرة التي لا تلبث أن تظهر حتى تزول؟ كلا، بل لا بد أن يكون وراء هذه المتغيرات حقائق ثابتة، وإذا كان ذلك كذلك فمن شاء أن يتحدث عن العالم فليبحث عن تلك الثوابت؛ إذ ما جدوى الحديث في ظاهرة إن كانت بادية اليوم فستنحدر غدا إلى عدم؟ ومن ثم لم يكن العلم علما عند الإنسان فيما مضى، إلا إذا بلغ اليقين عن حقيقة ثابتة لا يطرأ عليها تغير، ولم يكن هنالك تناقض - بالتالي - في أن يطالب عالم الطبيعة بما يطالب به عالم الرياضة من منهج فكري يؤدي إلى اليقين.
لكننا نسأل اليوم قائلين: هل ينهج الفكر في تفكيره الرياضي نفس المنهج الذي ينهجه إزاء علم تجريبي قائم على خبرة الحواس؟ أيكون يقين الرياضة أمرا متصلا بطبيعة العقل نفسه أم هو أمر يتصل برموز الرياضة وطرائق استخدامها؟ أئذا قلنا إن «2 + 2 = 4» كنا بذلك نقول حقيقة مشتقة من فطرة العقل، أم إننا بهذا القول نستخدم طائفة من الرموز على نحو متفق عليه كما يتفق اللاعبون على قواعد معينة يلتزمونها في لعبتهم، وكان يمكن لهم أن يتفقوا على قواعد أخرى؟ أتكون زوايا المثلث مساوية حتما لزاويتين قائمتين، أم إن هذه نتيجة تلزم عن فروض معينة، ويمكن تغيير هذه الفروض فتتغير النتيجة؟ هكذا نحلل الفكر الرياضي لننتهي إلى أنه دائما تكراري يعيد في النتيجة ما قد تضمنته الفروض؛ فإذا كان في الرياضة يقين فما ذاك إلا أن نظرياتها لا تتعرض لوصف العالم الواقع، بل تحصر نفسها في اشتقاق صيغة من صيغة أخرى اشتقاقا رمزيا صرفا؛ فلا شأن للرياضي البحت إن كان الخطان المتوازيان يلتقيان أو لا يلتقيان على الطبيعة، إنما شأنه مقتصر على الورقة التي أمامه والتي يضع عليها فروضا ويستدل منها نتائج تلزم عنها.
وتلك نتيجة خطيرة لو أدركها الناس قبلنا لتغير وجه الفلسفة تغيرا جوهريا؛ لو كان لإقليدس تلميذ مثل لوباتشفسكي - مثلا - يتنبه وقتئذ إلى أن نظريات أستاذه إنما تستمد صدقها من طريقة اشتقاقها من الفروض، أما أن تكون صادقة أو غير صادقة على الطبيعة فذلك ما ليس في وسع الهندسة نفسها أن تقوله، أقول لو كان لإقليدس تلميذ يتنبه إلى هذا الذي تنبه إليه الرياضيون المحدثون في طبيعة العلم الرياضي - ولم يكن ثمة ما يمنع أن يكون من تلاميذ إقليدس من تطرأ له هذه الفكرة - إذن لما تتابع الفلاسفة العقليون واحدا في إثر واحد يقولون إننا نريد علما للطبيعة على غرار علم الهندسة من حيث يقين نتائجه؛ لم يكن ديكارت ليطالب باستخدام المنهج الرياضي في علم الطبيعة، ولم يكن سبينوزا ليصب فلسفته في قالب هندسي صرف، ولم يكن كانت ليسلم بأن علم الهندسة صادق على الطبيعة كما هو صادق عند العقل، ثم يسأل نفسه: كيف أمكن أن يكون ما يدرك العقل الخالص أنه حق، كيف أمكن له أن يكون حقا بالنسبة للعالم الطبيعي في الوقت نفسه؟
أعود فأكرر القول بأننا لا نريد بالفلسفة العلمية أن نشارك بها العلماء في أبحاثهم، بل هي علمية لأنها تعنى أول ما تعنى بتحليل قضايا العلوم، وقد ظفرت من هذا التحليل بنتائج خطيرة بعيدة المدى؛ وهي كذلك علمية بالتزامها دقة تشبه دقة العلماء في استخدامهم لرموزهم. قارن بين عالمين يتحدثان عن «سرعة الضوء» وفيلسوفين يتحدثان عن «خلود النفس»، وانظر إلى هذا الفارق الشاسع بين ذينك وهذين في تحديد المدركات التي يستخدمونها. إننا لا نريد أن يرخص للفلاسفة بما لا يرخص به للعلماء؛ فما أهون على الفلاسفة أن يلقوا في مجري حديثهم كلمات مثل «عقل» و«فكر» و«فضيلة» و«جوهر» كأنما هي كلمات يشار إلى مسمياتها بالأصابع، فليست معانيها بحاجة إلى تحديد. وإننا نحن التجريبيين العلميين لعلى يقين بأن ما قد جرى العرف على تسميته ب «مشكلات فلسفية»، إن هو إلا غموض في استخدام الرموز اللفظية، ولو استقام لهذه الرموز طريق استخدامها، لتبخرت تلك المشكلات في الهواء وزالت. خذ عبارة فلسفية تحدثك عن «الحق» - مثلا - واضرب فيها بمشرط التحليل لتحدد لنفسك معناها أولا ماذا يمكن أن يكون، تجد القبة قد انكشفت عن غير شيخ يرقد في جوفها، وعندئذ ستأخذك الحسرة على أيام من حياتك قضيتها تبحث عن هذا «الحق» المطلق الذي يحدثك عنه الفلاسفة، ويجعلون منه إحدى مشكلاتهم الكبرى؛ لأنك ستعلم أن كلمة «الحق» في كل عبارة ترد فيها يمكن حذفها دون أن يطرأ تغير على صدق العبارة؛ وإذن فهي كلمة زائدة يمكن الاستغناء عنها، دع عنك أن نتخذ منها موضوعا لمشكلة يخب فيها الفلاسفة ويضعون.
وقد قسمت هذا الكتاب قسمين؛ فقسم بسطت في فصوله بعض الأسس العامة التي منها تتكون وجهة النظر الفلسفية التي أعتنقها وأدافع عنها، وقسم آخر عرضت فيه طائفة من مشكلات الفلسفة التقليدية عرضا أعدت به النظر إلى ما كان يقال فيها، ثم ماذا تصير إليه إذا ما صببنا عليها ضوء التحليل الحديث. ولم يكن عرضي لمشكلات الفلسفة على هذا النحو عرضا شاملا لها جميعا بطبيعة الحال؛ لأن ذلك محال أن يتم في كتاب واحد. على أن غايتي الرئيسية من هذا الكتاب هي أن يخرج قارئه باتجاه فكري أردناه له، أكثر مما يخرج بموضوعات مفصلة مستوفية لكل ما يمكن أن يقال فيها من ضروب الرأي.
ولو حكمت على مصير هذا الكتاب في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته إلى النشر، لقلت قولة يائس إنه لن يظفر من فرسان الفلسفة الذين يجيدون في ميدان الفروسية ركوب الجياد ورماية الرمح والمبارزة بالسيف، لن يظفر من هؤلاء بنظرة، لكنه رغم ذلك سيكون منهم موضع حكم يصدرونه عليه؛ لأنهم فاضلون، بلغ بهم حبهم للفضيلة أن يكون لهم الرأي فيما ليس يعلمون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ فإن كان لي أمل من أجله عانيت ما عانيته في تأليف هذا الكتاب، فذلك هو أملي في جيل جديد من طلاب الفلسفة، ينظرون إلى الدراسة نظرة منصف جاد.
الجيزة في 24 يوليو سنة 1958م
زكي نجيب محمود
अज्ञात पृष्ठ
القسم الأول
أسس عامة
الفصل الأول
منطق جديد
1
لبثت الفلسفة أمدا طويلا وهي تقترن في الأذهان بنوع من العبارات يختلف عما ألف الناس في حياتهم العلمية وحياتهم اليومية على السواء؛ فلم يكن على الفيلسوف من حرج أن «يتأمل» بخالص فكره هذا الكون الذي نعيش فيه، بغية الوصول إلى «حقيقته»، غير مستند في ذلك إلى عين أو أذن، حتي إذا ما حدس الحقيقة المنشودة حدسا أخرجها للناس في طائفة من ألفاظ اللغة يسلكها في عبارات لغوية، كما يفعل سائر عباد الله حين ينطقون أو حين يكتبون ليصفوا خبراتهم، إلا أن سائر عباد الله يردونك - إذا شئت - إلى المصادر الحسية التي استقوا منها تلك الخبرة التي جاءوا يصفونها في عباراتهم، أما الفيلسوف فيأبى أن يكون ذلك شأنه؛ إنه يزعم لأقواله الصدق، فإذا ما أردت أن تتبين موضع الصدق فيها وسألته أين عساك أن ترى أو تسمع أو تلمس هذه الحقائق التي يزعمها لك مؤكدا صدقها، أجابك بأنه لا يستند إلى ما يستند إليه سائر الناس - ولا فرق هنا عند الفيلسوف بين عامة الناس وعلمائهم - لأنه ليس كهؤلاء يستمد أحكامه من خبرة حواسه، بل هو «فيلسوف» من شأنه أن «يتأمل» بالفكر الخالص ما يريد أن يتخذه موضوعا لتفكيره؛ ولذلك فهو يري ما يراه عن حقيقة الكون بعين بصيرته لا بعينيه المفتوحتين في جبهته. وما دام أمره كذلك فلا يجوز لك أن تطالبه بما تطالب به غيره من الناس؛ لأن أداته إلى المعرفة ليست كأدواتهم . وبعبارة موجزة، ليست الفلسفة - عند فلاسفة التأمل - علما يقوم على مشاهدة وتجريب حتى تخضع لما يخضع له العلم من طرائق الإثبات.
كلا، ولا يريد الفيلسوف التأملي لعباراته أن تخضع لتحليل يفكك أوصالها ويحلل خيوطها؛ لأنه في حقيقة أمره أقرب في تعبيره إلى لغة الشاعر منه إلى لغة العالم؛ فالعالم الطبيعي - مثلا - يرى ما يراه أولا، ثم يطلق على هذا الذي رآه اسما يتفق عليه مع زملائه العلماء؛ فهو يشاهد في الطبيعة صفة معينة أو صفات، ثم يختار لها - اختصارا - مصطلحا يدل عليها؛ ولذلك فهو على استعداد دائما أن تقف به عند أي مصطلح شئت لتسأله: علام أطلقت هذا المصطلح؟ فيحدد لك على وجه الدقة ما تستطيع أن ترجع إليه من كائنات الطبيعة مما قد يكون مسمى للمصطلح الذي تسأل عن معناه، أو هو يعرف الكلمة تعريفا من شأنه أن تستنتج منه النتائج التي إذا ما طابقت بينها وبين الواقع وجدتها صحيحة، أما الفيلسوف فشأنه غير هذا؛ لأنه يبدأ بلفظة معينة لم تسبقها مشاهدة، ثم يتورط في هذه اللفظة، فيأخذ في الحديث عنها حديثا يطول مداه أو يقصر، وليس هو على استعداد زميله العالم بأن يردك إلى أشياء الطبيعة المحسوسة لتلتمس بينها ما عساه أن يكون مسمى لتلك اللفظة التي جعلها مدار حديثه، أو ما عساه أن يكون ناتجا عن تعريفها؛ فالفيلسوف التأملي - مثل الشاعر وعلى خلاف العالم - يقول كلاما مرجع الصدق فيه إلى ما يدور في نفس المتكلم، لا ما يحدث على مسرح الطبيعة الخارجية من حوادث.
ها هنا نضع أصابعنا على فرق هام بين أقوال الفلاسفة وأقوال العلماء؛ فبينما الفلاسفة - وأعني فلاسفة التأمل - ينصرفون إلى بواطن نفوسهم ليقولوا ما يقولونه، يتجه العلماء إلى خارج نفوسهم إلى حيث الطبيعة وظواهرها ليقرروا عنها ما يقررون من قوانين، لكن إذا كان الأمر كذلك، فما بال أولئك الفلاسفة المتأملين في ذوات أنفسهم، يتوهمون أنهم إنما يصفون «الحقيقة» الكونية كما تقع فعلا؟ إن كان الفلاسفة والعلماء كلاهما يصفون العالم الواقع الحقيقي، فما الفرق بين وصف ووصف؟ وجوابنا عن هذا السؤال هو أن العلماء إذ يتحدثون عن ظواهر الطبيعة فإنما يتحدثون بلغة «القوانين العامة» التي هي نتيجة ما قد شهدوه أو أجروا عليه التجارب، وأما الفلاسفة فهم - على خلاف ذلك - يصفون العالم قياسا على ما رأوه في أنفسهم؛ فلئن كان منهج العلماء استقراء يتقصى الأمثلة الجزئية ليخلص منها إلى قانون عام يصف ظاهرة بعينها، فمنهج الفلاسفة التأمليين «تمثيل» - باصطلاح المناطقة - أي تشبيه العالم بالإنسان ثم الحكم على العالم بما نحكم به على الإنسان.
فإذا قلت إن الحرارة تمدد الأجسام، قلت بذلك علما؛ لأنني بمثابة من يقول إنه حيثما يتعرض جسم للحرارة فإنه يتمدد. هذا حكم عام استخلصناه من ملاحظاتنا وتجاربنا، ونحن على استعداد أن نثبته لمن يريد ذلك بالرجوع إلى ملاحظات وتجارب، ولا دخل هنا لحالاتنا النفسية في الأمر، فلنكن في حالة من النشوة أو في حالة من الأسى، لنكن في حالة من طمأنينة النفس أو اضطرابها، فلا نزال في كلتا الحالتين نلاحظ ونقرر أن الحرارة تمدد الأجسام.
وتعليل ظاهرة معينة تعليلا علميا معناه أن نطويها تحت حكم عام مما نعلم، فلماذا تهب الرياح على مصر من الشمال؟ تعليل ذلك هو انضواؤه تحت قانون الحرارة وتمدد الأجسام؛ فالهواء على أرض مصر تزيد حرارته، فيتمدد، فيخف، فيعلو، فتسنح الفرصة لهواء أكثر برودة أن يهب من جهة البحر ليحل مكانه؛ بهذا يتم التعليل في رأينا، ما دمنا قد نسبنا الظاهرة المراد تعليلها إلى قانون أعم منها.
अज्ञात पृष्ठ
لكن قارن ذلك بفيلسوف يقول: «العقل عنصر لا نهائي يكمن وراء ظواهر الكون جميعا، الطبيعي منها والروحي على السواء، وهو العنصر الذي تستمد منه جميع الأشياء وجودها.» فأول ما تلاحظه هنا هو أن اللغة المستخدمة في هذه العبارة قد سيقت على نحو فيه كثير من الغرابة، وهي نفسها الغرابة التي قد يضيق بها من لم يتعود الفلسفة ولغتها، وأما من تعود هذه اللغة وألفها فسيقرأ العبارة مطمئنا لها راضيا بها؛ فإن فهمها كان بفهمه سعيدا، وإلا فالذنب ذنبه هو؛ لأنه لم يدرب نفسه بعد على الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة الأغوار. وإذن فلنترك هذا الذي قد أعماه الإلف فلم يعد يرى في الغريب غرابته، ولنتصور عالما من علماء الطبيعة - مثلا - قد أراد نفسه على فهم هذه العبارة. إنه نشأ نشأة تحتم عليه أن يكون الكلام مرتبا على نحو يجعل لكلماته معنى مما يرتد إلى هذه الحاسة أو تلك، إنه بحكم نشأته العلمية لا يخشى الفكر المجرد؛ لأن قوانينه العلمية كلها تجريد، كلا ولا هو يخشى طول البراهين ودقتها؛ لأنه قد تعود في مجاله العلمي أن يتتبع البرهان العلمي في شوطه الطويل ذات المراحل الكثيرة والتفصيلات الدقيقة، وهو حريص أشد الحرص على ألا تفلت منه دقيقة من دقائق الفكرة؛ لأنه يعلم أن شيئا كهذا كفيل أن يفسد البرهان من أوله إلى آخره. عالمنا - إذن - ليس أقل حرصا على دقة الفهم ودقة الفكر من صاحبنا الفيلسوف قائل هذه العبارة المراد فهمها، وليس أقل قدرة منه على التعميم والتجريد، فماذا عسى أن يفهم العالم الطبيعي من عبارة كهذه؟
تقول العبارة: «العقل عنصر لا نهائي.» والعالم الطبيعي يألف هذه الألفاظ كلها، لكنه لم يألف أن ترتب هذا الترتيب. إنه يعلم أدق العلم ماذا يكون «العنصر» حين يقال له إن الماء مركب من «عنصرين». وهو على دراية تامة بمعنى كلمة «عقل» حين يقال له - مثلا - إن العالم يستخرج نظرياته العلمية بعقله غير متأثر بعواطفه. وكذلك قل في لفظ «اللانهائي»؛ فما أكثر ما يستخدم الرياضيون هذه الكلمة وهم على علم دقيق بما يريدون لها من معنى. لا صعوبة إذن في الألفاظ مأخوذة فرادي، لكن الصعوبة تبدأ حين تضم هذه الألفاظ بعضها إلى بعض على هذا النحو العجيب، فكيف يكون «العقل» «عنصرا» إذا كان «العقل» صفة تصف جانبا من السلوك الإنساني، و«العنصر» كلمة تسمي المادة حين لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط تركيبا؟ ثم يمضي الفيلسوف في عبارته السالفة، فيقول إن «العقل يكمن في شتى ظواهر الكون». فهل يمكن للعالم الطبيعي أن يفهم لهذا الكلام معنى ؟ إن أجسام الحيوان والنبات والجبال والأنهار كلها من ظواهر الكون، أفتكون هذه «الأجسام» «عقلا»؟ العقل طريقة سلوك معينة، بحيث أصف به جانبا من سلوك الإنسان دون جانب؛ فالذي يستدل النتيجة من مقدماتها يسلك سلوكا «عاقلا»، أما الذي يهضم الطعام أو يتثاءب مللا فليس ذلك منه «عقلا»، أفيكون هذا الجبل أو هذه الشجرة أو ما شئت من «أجسام» حية وجامدة «عقلا»، ثم يكون لهذا الكلام معني مفهوم؟
إذن فلماذا يقول الفيلسوف كلاما كهذا؟ لعله يريد أن يقول إن كل ما في الوجود يسير نحو غاية معينة سيرا يشبه سير العقل في انتقاله من مقدمة إلى نتيجة، وإذا كان هذا مراده فلماذا يختار لهذا المعنى عبارته تلك التي تجعل العقل عنصرا، وتجعله شيئا لا نهائيا، وتضعه وراء الكائنات جميعا؟ ومع ذلك فحتى بعد هذا التعديل في عبارة الفيلسوف تعديلا يقربها إلى عقل العالم الطبيعي، فلن يزال هذا العالم على عجبه وتعجبه؛ لأنه سيسأل صاحبنا الفيلسوف، كما تعود أن يسأل زملاءه العلماء: ما التجربة التي أجريها لأستيقن من صدق هذا القول؟ أو بعبارة أخرى، ماذا عساي أن أرى بعيني أو أسمع بأذني في هذه الشجرة - مثلا - لأقول بعدئذ إن جوهرها «عقل»، وإنها استمدت وجودها من «عقل»؟
1
كلا، إن فيلسوفنا لم يقم حكمه ذاك على مشاهدات أو تجارب، إن العالم حين سأله هذا السؤال، فاته أن منهج الفيلسوف غير منهج العلم؛ ذلك أن منهج الفيلسوف في صميمه هو أن يخلع ما بنفسه على العالم الخارجي؛ أليس يحس الإنسان في نفسه قوة تدفعه إلى غايات معينة فيسلك إلى هذه الغايات سبلها الموصلة؟ إذن فلينظر إلى الكون كله بمنظار نفسه ليراه - كما يرى نفسه - مدفوعا إلى غايات وملتمسا إلى تلك الغايات سبلها، وإذن فهو كون يسوده عقل ويسيره عقل كما يسود العقل الإنسان ويسيره.
هكذا يصف الفيلسوف التأملي العالم بما يجده في نفسه هو، بل إنه حتى في هذا الوصف الذاتي يستخدم الألفاظ على نحو لا يجعلها واضحة المعنى؛ ولذلك قلنا عنه إنه أقرب إلى الشاعر منه إلى العالم، إلا أن الشاعر رجل يعرف حدوده، وأما الفيلسوف فعلى كثير من ضلال؛ وذلك لأن الشاعر يخلع حالاته النفسية على الطبيعة الخارجية وهو على وعي بذلك، فإن قال - مثلا - عن زهرة إنها ضاحكة، فهو على وعي تام بأن الضحك والنشوة في نفسه هو، خلعهما على الزهرة حين مزجها بنفسه، وأما صاحبنا الفيلسوف حين يخلع حالاته النفسية على العالم الخارجي فإنه يتجاهل ذلك أو يجهله؛ فلو قلت للفيلسوف الذي رأى في نفسه عقلا فخلع العقل على الكون كله، لو قلت له «هذا منك تشبيه»، ركب رأسه وأصر على أنه إنما يقول عن العالم حقا لا شبهة فيه، وأنه مفكر موضوعي ينظر إلى الخارج بغض النظر عن ذات نفسه، حتى وإن اتخذ من ذات نفسه وسيلة لمعرفة ما يجاوزها.
لو اعترف الفيلسوف التأملي بأنه من فصيلة الشعراء، يحس دخيلة نفسه ثم يعبر، لقبلنا عباراته على هذا الأساس بصدر رحب، ثم أحلناها على نقدة الأدب ليقولوا رأيهم فيها؛ أهي من الأدب الجميل أم إنها خلو من الجمال الأدبي فتلقى بين المهملات، لكنهم يأبون على أنفسهم إلا أن يكونوا من أصحاب الفكر الموضوعي الذين لا ينطقون عن عاطفة وهوى؛ فالفيلسوف الذي زعم لنا في عبارته التي أسلفناها أن جميع الأشياء تستمد من «العقل» وجودها، وأن «العقل» عنصر كامن وراء ظواهر الكون كلها، المادية منها والروحية على السواء، هذا الفيلسوف إنما يقول ما يقوله لا على أساس أنه مجرد تشبيه للكون بالإنسان تشبيها هو أقرب إلى الأدب منه إلى العلم، بل على أساس أنه «الحق» في ذاته، وهو يسخر من العلم إذا زعم له أن حقيقة الكون مادية لا عقلية؛ إذ إن الكون المادي - في رأيه - هو نفسه أحد المظاهر التي عبر بها «العقل» عن نفسه؛ هذا العالم المادي - في رأيه - قوامه «العقل»، كما أن هذا الكتاب الذي بين يديك قوامه الورق، واضحك بعد ذلك ما شئت، فأنت أنت الجاهل الذي لم ير «الحق» كما رآه الفيلسوف صاحب الرأي المذكور.
هكذا يبدأ الفيلسوف التأملي بالتشبيه، تشبيه الطبيعة بنفسه، ثم ينسى أنه تشبيه، فيمضي في تفكيره كما لو كان ذلك التفكير مرتكزا على واقع حقيقي ملحوظ. إنه يتحدث بلغة «الصورة» ويظن أنه يتحدث بلغة الأفكار المجردة، أو أنه يجسد الفكرة المجردة في خياله تجسيدا يوهمه بأنها قد أصبحت كبقية الأجساد، كصاحبنا هذا الذي جسد فكرة «العقل» حتى انقلب «العقل» بين يديه مادة يصنع منها الكون.
ويطول بنا الحديث لو طفقنا نتتبع الفلسفات التأملية الكبرى، كفلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة سبينوزا وفلسفة هيجل ومن إليهم؛ لنبين أنها في صميمها قائمة على «التشبيه»؛ تشبيه الكون بالإنسان، أو تشبيه ما هو مجرد بما هو عيني محسوس، فلنترك الحديث في هذا الآن لنعود إليه في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
2
अज्ञात पृष्ठ
إننا نريد للفلسفة أن تكون شبيهة بالعلم، لكننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء في موضوعات بحثهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطور الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إننا - على نقيض ذلك - نحرم على الفيلسوف باعتباره فيلسوفا أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأي وجه من الوجوه؛ لأنه لا يملك أدوات البحث التي تمكنه من ذلك؛ فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكام إخبارية عن العالم. ونأخذ على الفلاسفة التأمليين أن ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم؛ إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده في وسعه أن يصف الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال كما سيتبين في غضون هذا الكتاب؛ فانظر مثلا إلى هيجل وهو يحاول إقامة البرهان العقلي الخالص على أن الكواكب تسير وفق قوانين كبلر، بل استدل بالقياس العقلي المحض مواضع الكواكب أين تكون، بحيث أقام البرهان على استحالة أن يكون ثمة كوكب بين المشتري والمريخ، مع أنه لسوء حظه كان علماء الفلك قد كشفوا بالفعل عن كوكب بينهما قبل ذلك بشهور قلائل.
2
كلا، إننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يورط الفلاسفة فيما لا شأن لهم به من شئون العلم، ولكننا نحب لهما أن يقترنا بعدة معان أخر؛ أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، التزاما يقرب الفيلسوف من العالم في دقة استخدامه للمصطلحات العلمية، فإذا كان العالم يحدد على وجه الدقة ما يريده حين يقول «جاذبية» و«ضوء» و«صوت» ... إلخ، فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الأمانة نفسها وبهذه الدقة نفسها في استخدامه لألفاظه الأساسية الهامة، فلا يقول - مثلا - كلمة «نفس» أو كلمة «عقل» أو كلمة «خير» ... إلخ، إلا وهو على أتم العلم بحدود معناها، بل إنه لا يكفي أن يحدد الفيلسوف معاني هذه الألفاظ تحديدا يشترطه لها اشتراطا لكي يمضي في حديثه على أساس هذه المعاني التي هي من صنعه؛ فلا يكفي - مثلا - أن يقول سبينوزا في بداية بحثه: «إنني أعرف «العنصر» بأنه ما يوجد في ذاته ويمكن تصوره بغير الاستعانة بأية فكرة أخرى.» أقول إنه لا يكفي أن يعرف الفيلسوف ألفاظه على هذا النحو، ثم يستدل من هذا التعريف نتائجه التي تترتب عليه، وبعد ذلك يظن أن هذه النتائج التي وصل إليها تطابق العالم الحقيقي الواقع؛ ذلك لأن تعريفه لكلمة «عنصر» - وهو المثل الذي سقناه - لا يزيد على كونه شرحا للطريقة التي يستخدم بها الكلمة، فمهما تكن النتائج التي يمكن استدلالها بعد ذلك من هذا التعريف، فهي نتائج تستخرج مضمون التعريف وفحواه، ولا تجاوز حدوده إلى حيث العالم الواقع، أما إذا أراد الفيلسوف أن يحدد معاني ألفاظه تحديدا يعينه على دقة التفكير، فخير له ألا يبدأ بالكلمة ثم يعقب عليها بتعريف، بل أن يبدأ بالصفة أو مجموعة الصفات التي يلاحظها ويريد لها اسما يميزها، ثم يطلق هذا الاسم آخر الأمر على ما قد لاحظه؛ وبهذا يصبح تعريف الاسم هو الصفات التي كانت وقعت في حدود المشاهدة؛ فإذا ما استخرجنا بعد ذلك من هذا التعريف نتائج مترتبة عليه، كانت هذه النتائج متطابقة مع حوادث الواقع المشهود.
إننا لا نستطيع أن نترك هذه النقطة الهامة دون أن نشير إلى الأثر العميق الذي تركه أرسطو في ثقافة العصور الوسطى، وما يشبه تلك الثقافة حتى في بعض الأمم القائمة في عصرنا الراهن، بسبب نظريته في «التعريف»؛ فقد كان من رأي أرسطو - كما هو معلوم لكل من درس منطقه - أن تعريف أية كلمة إنما يكون بذكر «الجوهر» الذي منه يتألف معناها؛ ومؤدى ذلك أن تبدأ بكلمة تصادفها وتريد أن تحدد تعريفها، ثم تحاول بعد ذلك أن تبحث عما يؤلف لها معنى. وكثيرا جدا ما تكون الكلمة التي بين يدي اسما زائفا أطلق على غير مسمى، لكنني - لو سرت على نهج أرسطو - فلا يجوز أن أسأل عن الكلمة التي أريد تعريفها قبل محاولة تعريفها؛ هل هي أولا كلمة حقيقية لها ما تسميه في دنيا الأشياء؟ فإن كانت اسما حقيقيا كان علي أن أحدد صفات الشيء المسمى بها، فيكون ذلك هو تحديد دقيق لمعنى الكلمة المراد تحديد معناها.
ألا إنها لنكبة ثقافية كبرى تصاب بها الأمة إذا سادت بين قادة الرأي فيها عادة التفكير على النهج الأرسطي الذي أسلفناه؛ لأنهم عندئذ سيغوصون في بحر من الثقافة اللفظية الفارغة، إنهم سيتمسكون بكل ما في أوراقهم ودفاترهم ومجلداتهم من «ألفاظ»، ثم يصبح مجهودهم الفكري بعد ذلك هو أن يشرحوا هذه الألفاظ، ثم يشرحوا الشروح، ثم يضعوا لهذه الشروح هوامش شارحة يعلقون عليها بمجلدات في إثر مجلدات، مع أن «الألفاظ» الأولى التي بنوا عليها هذا البناء الهش كله قد تكون زائفة بغير معنى؛ فافرض - مثلا - أن «المفكر» من هؤلاء اللفظيين قد بدأ تفكيره بكلمة «نفس»، فها هنا سيجد نفسه إزاء لفظة لا يتردد في أنها من ذوات المعنى، فيأخذ في تعريفها على أسلوب أرسطو بأن يحاول تحديد صفاتها الجوهرية، وقد يجد أن هذه الصفات بحاجة إلى شرح، فيمضي في شروحه إلى آخر ما تسعفه الكلمات التي حفظها من دراساته السابقة، لكن هل سأل بادئ ذي بدء إن كانت الكلمة اسما حقيقيا تسمي شيئا معينا أو لا تسمي؟
إنني أقترح في هذا الصدد طريقة
3
من شأنها أن تضبط هؤلاء الشاطحين ، وهي أن يعكس «المفكر» طريق سيره هذا، فبدل أن يبدأ بالكلمة لينتهي إلى معناها، يبدأ بالمعنى لينتهي إلى الكلمة، وفي هذا ضمان بألا نبقي بين أيدينا إلا الكلمات ذوات المعنى الحقيقي؛ فأرى اللون المعين أولا قبل أن أقول كلمة «أحمر»، وأذوق الطعم المعين أولا قبل أن أقول كلمة «مر»؛ وعلى هذا القياس أنتظر حتى تأتيني حواسي بالعناصر التي أريد لها اسما، ثم أختار لها اسم «نفس»، حتى إذا ما سئلت بعد ذلك ما معنى هذه الكلمة؟ قلت: هو العناصر الفلانية التي يمكن أن تراها العين أو تسمعها الأذن، أما إذا لم يكن هنالك من هذه العناصر الحسية ما يريد التسمية كففت عن استخدام الكلمة، وإلا استخدمتها بغير مسمى؛ أي بغير معني.
إذن فتحديد ألفاظنا الفلسفية مثل هذا التحديد الذي لا يدع أمامنا كلمة بغير مسمى مما يمكن تعقبه بالحواس، هو أول ما نريده حين نطالب بأن تكون الفلسفة «علمية» في منحاها ومنهجها، ثم نريد لها بعد ذلك أن تحصر بحثها في مشكلات جزئية محددة؛ فبدل أن يحاول الفيلسوف مستحيلا ببحثه عن «مبدأ» يضم الكون كله بما فيه ومن فيه، يقنع بالبحث في مفهوم واحد من مفاهيم العلم كمفهوم «السببية» مثلا، يتعاون في تحليله مع زملائه الفلاسفة كما يتعاون العلماء في المعمل على تحليل مادة من موادهم؛ وبهذا يستفيد بعضهم من بعض ويكمل بعضهم بعضا، وتنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموا تدريجيا يجعل آخره أقرب إلى الصواب من أوله.
لقد مضى عهد «الشوامخ» في عالم الفكر كما مضى عهد الأباطرة المستبدين، وجاء عهد التعاون الفكري مع الديمقراطية في نظام الحكم؛ فلم يكن الفرق بعيدا بين حاكم فاتح كالإسكندر الأكبر يريد أن يسيطر على العالم كله بكلمة منه، وبين الفيلسوف التأملي كأفلاطون أو أرسطو يريد أن يخضع الكون كله لمبدأ واحد من عنده، وكذلك ليس الفرق بعيدا بين جماعة الأفراد في أمة تريد أن يكون الحكم قسمة بينهم وأن تكون التبعة مشتركة، وبين جماعة الأفراد في طائفة علمية معينة تتعاون كلها على مشكلة بعينها حتى تظفر لها بحل يرضي؛ فلا عجب أن تري أعلام الفلاسفة فيما مضى يقفون وأتباعهم من حولهم كالعناقيد، ثم تتوالى عناقيدهم عنقودا بعد عنقود، على حين تدور بناظريك في عصرنا فتجد الفلاسفة جماعات جماعات، تكاد تتعادل بين أعضائها القامات، فلا نبي ووراءه الحواريون، ولا أستاذ وحوله التلاميذ الصغار، بل هم كأعضاء الندوة يسمرون ويتبادلون الرأي تبادل الند مع الند، أو ما هو قريب من ذلك.
अज्ञात पृष्ठ
الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يرضيه أن يجتزئ من هذا الكون الفسيح كله بجملة أو طائفة قليلة من الجمل، يقولها العلماء في موضوعات اختصاصهم، أو يقولها الناس في أحاديثهم الجارية، فيتناولها بالتحليل المنطقي الذي يفصل مكنونها تفصيلا يضعه في الضوء بعد أن كان خبيئا، ويخرجه إلى العلن بعد أن كان متضمنا مطويا في ثنايا الحديث، حتى إذا ما ظهرت الهياكل العارية للغة التي نستخدمها، ظهرت بالتالي حقيقة الفكرة التي نعرضها، فيزول الغموض الذي كان قمينا أن يخلق المتاعب ويثير المشكلات. وحسبك أن تعلم في هذا الموضع من الحديث أن رجال التحليل في الفلسفة الحديثة، لم يكادوا يتناولون بالتحليل مشكلات الفلسفة التقليدية حتى تبين لهم في وضوح أن لا إشكال، وأن الأمر كله غموض في لغة الفلاسفة، هو الذي خيل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل ولا حل هناك؛ فهل النفس خالدة أم فانية؟ هل يكون هذا العالم المحسوس قائما وحده أم إن وراءه عالما عقليا آخر؟ هل الموجود الحقيقي هو الأفراد الجزئية أم الحقائق الكلية التي تعبر عن نفسها في تلك الأفراد؟ وهكذا وهكذا من أمثال هذه الأسئلة التي لم يزل الفلاسفة التأمليون يلقونها ويحاولون الجواب ولا جواب؛ فيتناول فيلسوف التحليل هذه العبارات نفسها ليفض مغاليقها اللفظية، وإذا هي فارغة لا تنطوي على شيء، وإذا هذه المشكلات المزعومة الموهومة تذوب ثم تتبخر في الهواء وتختفي.
الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يترك الخبز للخباز ينضجه على النحو الأكمل، فيترك الفلك لعالم الفلك، والطبيعة لعالم الطبيعة، والإنسان لعالم النفس أو عالم الاجتماع ، إنه لا شأن له ب «شيء» من أشياء الوجود الواقع، بل يحصر نفسه في «الكلام»، كلام هؤلاء العلماء؛ ليحلل منه ما قد تركوه بغير تحليل، وبخاصة إذا كان في العبارة «لفظ» يثير المشكلات ويكون مدار الاختلاف، وقد تسأل: ولماذا لا يترك هذه المشكلات نفسها لأصحاب العلوم كذلك؟ أليس هؤلاء أدرى بما يقولون؟ والجواب هو أن هذا ما ينبغي أن يكون لو استقامت الأمور، بل هذا هو ما يحدث في معظم الأحيان، فترى من علماء الرياضة من تستوقفه بعض المدركات الرياضية الغامضة، فتستهويه بالوقوف عندها حينا ليلقي على مكنونها الضوء، وعندئذ يكون «فيلسوفا» رياضيا بالمعنى الذي نريده لكل فيلسوف، وهكذا قل في علماء الطبيعة وغيرها، لكن هذا التحليل المنطقي قد يستهوي كذلك غير المختصين في العلوم المختلفة، فيختصه بجهده وفكره؛ لأن التحليل المنطقي لعبارة ما، هو في حقيقة أمره شيء مستقل عن مضمون العبارة وفحواها؛ إذ يتناول صورة التركيب وما فيها من علاقات، ويفرغ من العبارة فحواها؛ وإذن فليس ثمة خطر حقيقي إذا ما تصدى لمثل هذا التحليل غير العلماء المختصين في هذا العلم أو ذلك؛ لأن القدرة المطلوبة هي قدرة على التفريغ والتجريد.
لكن القارئ من حقه هنا أن يسأل: ماذا نعني على وجه الدقة بكلمة «تحليل» حين نسوقها في هذا السياق الفلسفي؟ إننا نتصور في غير عسر ماذا يكون معنى التحليل حين ينصب على شيء مادي، فليس من العسير أن نتصور «تحليل» الماء إلى عنصريه أكسجين وهيدروجين، أو تحليل دم الإنسان إلى هذا وذلك من العناصر وهكذا، فهل تعني شيئا كهذا حين تقول إن عمل الفيلسوف المعاصر ذي النزعة العلمية هو أن يحلل العبارات اللغوية، وعبارات العلم منها بوجه خاص؟ هل يتناول الفيلسوف عبارة فيقول إنها مركبة من كذا لفظا وكذا حرفا، أو إن المداد الذي كتبت به ينحل إلى كذا وكذا من العناصر، وكذلك الورق الذي خطت عليه؟
كلا، فذلك تحليل «مادي» للعبارة، والمقصود «تحليل منطقي» لها، أو إن شئت فقل «تحليل عقلي»، لكن السؤال ما يزال قائما ، وهو: ماذا تعني بهذا النوع من التحليل؟ وجوابنا هو أن هذه الكلمة في هذا السياق، هي كغيرها من كلمات هامة كثيرة، ككلمة «العلم» و«الفن» وما إليهما، ليس عليها اتفاق حاسم بين من يستعملونها حتى من المختصين، إنها ليست بعد في دقة استعمالها كالكلمات المشيرة إلى مسميات محسوسة، فلا خلاف - مثلا - بين علماء الطبيعة على مدلول كلمة «أحمر»؛ لأنهم يتفقون اتفاقا قاطعا على مدى الموجات الضوئية التي يدخلونها تحت هذه التسمية، ومع ذلك فكلمات «التحليل» و«العلم» و«الفن» وما إليها، إن تكن قد فاتتها هذه الدقة في تحديد المعنى، إلا أنها ليست خلوا من كل تحديد؛ إذ إن كلا منها ما يزال ينطبق على مسميات إن تكن مختلفة فيما بينها بعض الاختلاف، فهي كذلك متشابهة تشابها يبرر جمعها تحت اسم واحد من هذه الأسماء، كأفراد الأسرة الواحدة، بينهم اختلافات في الشكل والشخصية، لكنهم مع ذلك يكونون أسرة واحدة، فكذلك قل في المعاني المختلفة التي يأخذ بها الفلاسفة المعاصرون في معنى «التحليل» المنطقي الذي يريدون له أن يكون هو الفلسفة وعملها، فهذه المعاني على اختلافها، تتشابه بغير شك وتتجه كلها وجهة واحدة، بحيث تكون أفرادا من أسرة هي التي نطلق عليها اسم «التحليل المنطقي».
إنه لخير لنا في تحديدنا لمعنى «التحليل» أن نعتمد على الاستعمال الفعلي لهذه الكلمة بين الفلاسفة المشتغلين به؛ فلسنا نقول إن التحليل المنطقي «يجب» أن يكون بهذا المعنى أو ذلك، بل نقول إنه فعلا بهذا المعنى عند فلان وفلان، وبذلك المعنى عند فلان وفلان، وفيما يلي سنتعقب الخيوط الرئيسية للاتجاهات المختلفة في مدرسة التحليل.
3
لفظتا «تحليل» و«تركيب» شائعتان معروفتان في التفكير الفلسفي، والمقصود بهما هو معناهما المباشر الذي يتبادر إلى الذهن من استعمالها المألوف في لغة الحديث الجارية؛ فالفيلسوف «تحليلي» إذا جعل مهمته استخراج المقومات أو استنتاج النتائج مما يتصدى لتحليله، سواء كان هذا «شيئا» أو «عبارة لغوية»، وهو «تركيبي» إذا لم يكتف بمجرد تفتيت ما يتناوله - شيئا كان أو عبارة لغوية - بل هو يضيف من عنده أحكاما عن الوجود، كله أو بعضه؛ فإذا راح فيلسوف، مثل هيوم، يحلل الفكر إلى عناصره الأولية لينتهي إلى أن تلك العناصر الأولية هي إما انطباعات أو أفكار، حين يكون معنى «فكرة» باصطلاحه انطباعا حسيا غاب مؤثره وبقي في الذهن صورة تتفاوت درجة وضوحها ونصوعها، كان بذلك فيلسوفا تحليليا، وأما إذا تبرع الفيلسوف بأحكام إيجابية من عنده يصف بها الوجود، كأن يقول أفلاطون إن هناك عالما عقليا قوامه أفكار إلى جانب هذا العالم الحسي الذي نعيش فيه والذي قوامه أفراد جزئية، كان فيلسوفا تركيبيا. الفيلسوف التحليلي يبدأ بموضوع المشكلة، كالطبيعة أو الإنسان مثلا، ثم يحاول رده إلى وحداته الأولية التي منها يتركب ذلك الموضوع، والتي لا يمكن بدورها أن تنحل إلى ما هو أبسط منها، كما يفعل برتراند رسل حين يحلل الطبيعة إلى وحدات أولية هي «الحوادث» بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة عنده؛ فلمعة الضوء الآتية إلي من هذا المكتب الذي أمامي الآن «حادثة»، ولمسة القلم الذي بين أصابعي «حادثة»، وهكذا، أو كما يفعل برتراند رسل أيضا حين يحلل الكلام إلى قضايا أولية يكون موضوع الواحدة منها دائما حادثة من حادثات الطبيعة بالمعنى الذي أسلفناه، وأما الفيلسوف التركيبي فعلى خلاف ذلك، يحاول أن يبني الوجود في خياله بناء قوامه العناصر البسيطة التي يفترض وجودها، كما يفعل سبينوزا مثلا حين يفترض بسائط أولية ثم يبني منها الكون كما تقتضيه بداهة عقله وقوة خياله.
وإنه على الرغم من أن الفلاسفة الإنجليز - «لك» و«باركلي» و«هيوم» و«ستيوارت مل» و«برتراند رسل» وغيرهم - يتميزون أساسا بطابعين؛ هما التحليل من ناحية، والنزعة التجريبية من ناحية أخرى، بحيث تراهم دائما ينتهون بتحليلهم إلى أن العناصر الأولية هي الإحساسات البسيطة التي تتأثر بها الحواس، ثم على الرغم من أن الفلاسفة في بقية القارة الأوروبية - فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، مثل ديكارت وسبينوزا وهيجل - يتميزون أساسا بطابعين آخرين؛ هما التركيب من ناحية، والنزعة العقلية من ناحية أخرى، فتراهم يقيمون مبدأ يبنون عليه بناء متسقا مع ذلك المبدأ لأنه مستنبط منه، أقول إنه على الرغم من أن التحليل والنزعة التجريبية قد ارتبطا غالبا، وأن التركيب والنزعة العقلية قد ارتبطا غالبا كذلك، إلا أنه ليس من الضروري أن يكون الفيلسوف التحليلي تجريبيا؛ ف «الطبائع البسيطة» التي قال بها ديكارت هي نتيجة تحليل، لكنها موضوعات لحدس عقلي، وليست هي بالموضوعات الحسية التي تتأثر بها الحواس، وكذلك «الوحدات الروحية» التي أخذ بها ليبنتز هي أيضا نتيجة تحليل، لكنها ليست مما تدركه الحواس؛ وإذن فها هنا عمليات فلسفية تحليلية لم تقتض أن يكون القائم بها من الفلاسفة التجريبيين الذين يردون الأمر كله إلى الحواس وإدراكها، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه ليس من الضروري أن يكون الفيلسوف التجريبي فيلسوفا تحليليا، وخير مثل نسوقه لذلك هو الفيلسوف الإنجليزي الحديث «صموئيل إسكندر» في كتابه «المكان والزمان والألوهية»؛ فها هنا تراه - على عادة الإنجليز - فيلسوفا تجريبيا يستقي من الحواس معارفه، لكنه يستقيها ليبني منها بناء فلسفيا شبيها بالنسقات التي يقيمها الفلاسفة العقليون، وإذن فهو فيلسوف تجريبي تركيبي معا، وهو يعتقد أن الفلسفة لا تختلف عن العلم إلا في كونها تبحث في مشكلات أعم من مشكلات العلم، لكنهما معا يدوران حول موضوعات بعينها.
4
إننا حين نصف هذا الفيلسوف بأنه تحليلي وذلك الفيلسوف بأنه تركيبي، فلا يفوتنا أنه يندر جدا أن تجد الفيلسوف الواحد قد انصرف إلى التحليل وحده من أول فلسفته إلى آخرها، أو إلى التركيب وحده؛ ذلك لأن الفيلسوف في الحقيقة يضع أمامه مشكلات يحاول حلها ولا يبالي كيف جاء ذلك الحل؛ فهو مثلا ينظر في مشكلة المادة والعقل، أو في القيم الأخلاقية والجمالية وما إلى ذلك، ليرى ما حقيقتها، ولا يعنيه بعد ذلك أن تكون السبيل الموصلة إلى هذه الحقيقة المنشودة تحليلا أو تركيبا، لكننا مع ذلك نزداد فهما للفيلسوف حين نعلم أن التحليل أو التركيب يغلب على عمله، بل كثيرا ما يسود التحليل عصرا بأكمله كعصرنا هذا،
अज्ञात पृष्ठ
5
كما يسود التركيب عصرا بأكمله كذلك كما كانت الحال في فلسفة العصور الوسطى أو في فلسفة القارة الأوروبية - ما عدا إنجلترا - في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كذلك ترى التحليل هو النزعة السائدة في بلد كإنجلترا، كما ترى التركيب هو النزعة السائدة في بلد آخر كألمانيا. ودعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة تحسن صنعا لو عرفت على وجه التحديد والدقة أن مجالها هو التحليل، والتحليل وحده؛ فذلك يحقق لها الصفة العلمية التي نريدها لها، وبالمعنى الذي حددناه في القسم الثاني من هذا الفصل؛ لأن كل جملة تركيبية يقولها فيلسوف - غير مستند في قولها إلى ملاحظة وتجربة كما يفعل العلماء في أقوالهم - هي من قبيل التخمين الذي قد يضر التطور العلمي وقل أن ينفع.
دعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة ينبغي أن تكون تحليلا صرفا، تحليلا لقضايا العلم بصفة خاصة؛ لكي نضمن لها أن تساير العلم في قضاياه، وأن تفيد في توضيح غوامض تلك القضايا، دون أن تتعرض للضرب في مجاهل الغيب. والتحليل الذي ندعو إليه - وإن يكن قد سبق إليه فلاسفة كثيرون فيما مضى؛ إذ ما أكثر الفلاسفة الذين استخدموا التحليل في عملهم إما بصفة غالبة أو بصفة طارئة - إلا أنه قد اتخذ في عصرنا الحاضر لونا خاصا يختلف عن كل تحليل فيما مضى من تاريخ الفلسفة، وأصبح ذا طابع واضح متميز هو الذي يطبع الفلسفة التجريبية العلمية المعاصرة، وأعني به الطابع الذي تراه عند «جورج مور» و«برتراند رسل» و«لدفج وتجنشتين» وكل من لف لفهم، وإنهم لكثيرون، نخص بالذكر منهم جماعة سنفرد للحديث عنها فصلا خاصا، هي جماعة فيينا، التي أنشأت وطورت ما يسمى بالوضعية المنطقية.
لقد مرت الفلسفة في أوائل هذا القرن العشرين بمرحلة من مراحل تاريخها، طرأ عليها خلالها من التغير في وجهة النظر ما يبلغ حد الثورة، إذا جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة السياسية في مجال التفكير الفلسفي. وليس المراد هنا بكلمة «الثورة» مجرد تغير في المذهب السائد؛ لأن مثل هذا التغير لا يحدث «ثورة»، فلسنا نقول - مثلا - عن فلسفة أفلاطون إنها جاءت بمثابة الثورة على فلسفة أستاذه سقراط على الرغم مما بينهما من اختلاف بعيد، وكذلك لا نقول عن فلسفة أرسطو إنها كانت ثورة على فلسفة أفلاطون رغم ما بينهما من اختلاف بعيد كذلك، لكننا نقول عن فلسفة سقراط بالنسبة لسابقيه إنها «ثورة»، لماذا؟ لا لأن بين سقراط وسابقيه اختلافا في الرأي وكفى، بل لأن الاختلاف يتناول السؤال نفسه المطروح للإجابة؛ فإذا ألقيت سؤالا معينا، كقولك: مم صنعت الطبيعة؟ ثم جاءك عشرون فيلسوفا كل منهم بجواب خاص به، فهذا يقول إنها صنعت من كذا وذلك يقول إنها صنعت من كيت، فإن هؤلاء الفلاسفة العشرين جميعا يكونون مدرسة فكرية واحدة، ولا يعد الواحد منهم ثورة على زميله على الرغم مما بينهما من اختلاف في الرأي بالنسبة للسؤال المطروح. أما إذا جاءك فيلسوف آخر يغير من السؤال ذاته ليطرح سؤالا جديدا هو في رأيه أولي بالاهتمام من السؤال الأول، أو قد يكون ذلك لأن السؤال الأول قد استنفد الإجابات الممكنة كلها ولم يعد لقيام المشكلة أمام الأذهان غناء، كأن يسأل - كما فعل سقراط - عن الأساس العقلي للأخلاق الإنسانية، فذلك يكون بمثابة الثورة الحقيقية في مجرى الفكر؛ لأنه حول الانتباه من مجال قديم إلى مجال جديد.
وكذلك كان تحول الفلسفة منذ أوائل هذا القرن العشرين «ثورة» بهذا المعنى نفسه؛ أي بمعنى أنها نقلت اهتمامها من مجال إلى مجال تراه أجدر بالعناية؛ فبعد أن كان اهتمام الفلاسفة منصبا على حقيقة العالم وحقيقة الإنسان، انتقل إلى شيء آخر هو تحليل العبارات؛ فليس موضوع البحث الآن «أشياء»، ولكنه «جمل»؛ ليس موضوع البحث الآن هو «الكون»، بل هو هذه العبارة المعينة أو تلك؛ ما تحليلها وما مضمونها وما مكنونها؛ بهذا يربط الفلاسفة أنفسهم بدنيا العلم ودنيا الحياة اليومية، بدل أن يتعالوا على هذه الدنيا على أساس أنها باطلة، بحثا عن عالم «حقيقي» وراء هذا العالم المحسوس! وبهذا تصبح الفلسفة منطقا صرفا كما يقول برتراند رسل في محاضرته التي نشرها عام 1914م بعنوان «المنطق هو صميم الفلسفة» فصلا من كتابه «علمنا بالعالم الخارجي».
هذه الثورة ، أو إن شئت تواضعا في التعبير فقل هذه الحركة الجديدة في عالم الفلسفة، كان مركزها الرئيسي جامعة كيمبردج بإنجلترا، حيث أنشأها زعيماها الأولان وهما «مور» و«رسل»، ثم تبعهما «وتجنشتين»، وبعد ذلك أخذ الأتباع يزدادون في القارة الأوروبية وفي الولايات المتحدة، وهم ما يزالون في ازدياد حتى يومنا هذا، لكن الثورة التي تجتث كل صلة بالماضي ضرب من المحال، فلا بد من خيوط تصل العهد الثائر بالعهد الذي سبقه ليمهد له حتى وإن لم يكن جزءا منه، فها نحن أولاء إزاء هذه الحركة الفلسفية الجديدة التي بدأت مع بداية هذا القرن العشرين على وجه التقريب، لكننا نتعقب جذورها الأولى فنراها ضاربة في أرض المدرسة المثالية نفسها، التي جاءت هذه الحركة الجديدة لتثور عليها وتقلب أوضاعها.
فقد كان أنصار المدرسة التجريبية في إنجلترا منذ «لك» و«هيوم» يجرون على سنة التحليل الذي يتناول المعرفة الإنسانية ليردها إلى وحداتها الأولية، وكانت هذه الوحدات عندهم هي دائما عناصر أقرب إلى الذرات، كل ذرة منها قائمة وحدها، ثم ترتبط هذه الذرات المعرفية بعلاقات فتنشأ منها الأفكار المركبة؛ فالوحدات البسيطة الأولى عندهم هي إحساسات يقوم كل إحساس منها كأنما هو كائن مستقل عن سائرها؛ فهذه - مثلا - لمعة من الضوء على شبكية العين، وتلك رنة صوت في الأذن، أو لمسة جسم صلب أو لين على الأصابع وهكذا. تلك - على وجه الإجمال - هي الخيوط الأولية التي ينسج منها العقل أفكاره مهما بلغت تلك الأفكار من درجة التركيب.
واجتاحت إنجلترا موجة من المثالية الهيجلية في القرن التاسع عشر، حيث امتدت من أول القرن إلى آخره، فمالت بأنصارها إلى الطرف الآخر؛ إذ عجبوا لهؤلاء التجريبيين كيف يفتتون المعرفة الإنسانية إلى هذه الخيوط، مع أن معرفة أي جزء على حدة ضرب من المحال في رأيهم، فلا تستطيع - مثلا - أن تعرف شيئا عن لون هذا الكتاب إلا متصلا بالكتاب، ثم لا تعرف شيئا عن الكتاب إلا متصلا بغيره، وهكذا وهكذا. وليس الاستطراد في رأيهم هذا هو موضوعنا الآن، لكن النقطة الهامة عندنا في هذا السياق هي أن قادة الفلسفة الإنجليزية المثالية في أواخر القرن التاسع عشر - مثل برادلي - قد وضح توضيحا لا يدع للشك سبيلا، أن الوحدات الأولية للمعرفة يستحيل أن تكون مدركات فرادي؛ لأن المدرك الواحد لا يكون فكرا ولا يكون معرفة بأي معنى من المعاني، إنما تبدأ المعرفة حين يبدأ الحكم، ولا يكون حكم إلا إذا تكاملت لنا قضية فيها محكوم عليه ومحكوم به ورابطة تربط بين الطرفين؛ فقولي «قلم» ليس فكرا، وقولي «أسود» ليس فكرا كذلك، أما قولي «القلم أسود» فوحدة فكرية؛ لأنه تعبير عن حكم قد يصيب وقد يخطئ.
الحق أن هذه كانت نقطة ضعف ظاهرة في تحليل التجريبيين للمعرفة، فكانت بالتالي هدفا لهجمات معارضيهم من الفلاسفة المثاليين، بل كان هذا هو أعمق فارق بين «هيوم» من جهة، و«كانت» من جهة أخرى؛ فالأول يجعل الانطباع الحسي الواحد أو الفكرة الواحدة المتخلفة بعد ذلك الانطباع هي وحدة التفكير، فإذا ما تجاورت فكرتان في الذهن لم يكن بينهما من علاقة سوى علاقة التجاور؛ ولهذا لم يجد بين السبب ومسببه من علاقة سوي ما بينهما من تلازم في الوقوع؛ وأما «كانت» الذي يقول إن دعوي هيوم هذه قد أيقظته من سباته، فيرى أن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه هيوم هو أن جعل الفكرة الواحدة فكرا، على حين أن الحد الأدنى للفكر هو القضية التي تربط فكرتين على أقل تقدير.
ونعود إلى الموقف في أواخر القرن التاسع عشر في إنجلترا، لنري «برادلي» الفيلسوف المثالي يوضح لنا بدوره هذا الاتجاه في تحليل المعرفة إلى أولياتها، وجاء «برتراند رسل» وغلبت عليه في نهاية الأمر نزعته التجريبية، لكنه في الوقت نفسه أراد أن يستفيد بما قاله «برادلي» في نقده للتجريبيين، فلم يتردد في أن يقيم فلسفته التجريبية على أساس منطق جديد يتلافي به أوجه النقص التي كانت تؤخذ على سالفيه «لك» و«هيوم» وأمثالهما، وما هذا الأساس المنطقي الجديد في صميمه إلا أن يجعل «القضايا الأولية» - لا المدركات المفردة - هي الوحدات البسيطة الأولى في تحليل المعرفة. ولم يكن «رسل» وحده في هذا الاتجاه، بل سار معه فيه زميله «مور» وتلميذه «وتجنشتين»، ثم تبعهم في ذلك بقية الأتباع.
अज्ञात पृष्ठ
فالمعرفة الإنسانية - عند «رسل» و«وتجنشتين» بصفة خاصة - يمكن تحليلها إلى ذرات أولية، والذرة الواحدة منها هي قضية أولية، يكون موضوعها فردا واحدا لا جماعة من أفراد. وماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح أن يكون موضوعا للقضية الذرية؟ أتصلح لذلك كلمة مثل «إنسان» و«شجرة» وسائر هذه الكلمات الكلية؟ أئذا قلنا - مثلا - «الإنسان كائن عاقل» كان هذا القول ذرة فكرية بسيطة لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها؟ هكذا ظن أرسطو، وما هكذا يظن «رسل» وأتباع مدرسته التحليلية؛ فكلمة «إنسان» عند أرسطو مدرك أولي بسيط من الناحية المنطقية، وأما عند «رسل» وأتباعه فهذه الكلمة وحدها - وإن بدت كلمة واحدة - إلا أنها عبارة بأسرها ضغطت في هذا اللفظ الواحد.
فأنت لو فككت كلمة «إنسان» إلى أجزائها الأولية وجدتها كلمة تحتوي في جوفها كل أفراد البشر، من مضى منهم ومن هم قائمون اليوم ومن سيظهرون في الوجود إلى آخر الدهر، إنها اسم لم يخلق ليكون اسما خاصا لي أو لك كأسمائنا التي سجلت في شهادات ميلادنا لتميز الواحد منا عن بقية الناس؛ وإذن فليست هي بالاسم الجزئي الخاص بفرد واحد، كلا، بل ليست هي بالاسم في حقيقة أمرها، إنها عبارة بأسرها، هي عبارة وصفية في تحليلها، أريد بها أن تصف هذا الفرد أو ذلك بمجموعة معينة من الصفات، أريد بها أن تصف العقاد والمازني وهيكل وطه والحكيم وسائر أفراد البشر، بأن كل واحد منهم فيه طائفة من صفات معينة معلومة تجعله ينتمي إلى فئة من الكائنات خاصة. إن كلمة «إنسان» يستحيل أن يكون لها معنى وحدها، بل لا بد لكي يكمل معناها أن يوجد إلى جوارها اسم آخر - كالعقاد مثلا - بحيث يمكن أن يقال بعد ذلك «العقاد إنسان» فيكمل معنى كلمة إنسان، لكن افرض جدلا أنني خلقت في اللغة هذه الكلمة «إنسان» دون أن يكون في العالم فرد واحد مما عساه أن ينتمي إلى هذه الفئة التي أردت أن أطلق عليها هذه الكلمة؛ إذن فماذا يكون معناها؟ إنها عندئذ تظل معلقة بغير مدلول ولا معنى، حتى يظهر في عالم الوجود فرد يصح أن ينطوي تحتها، وعندئذ فقط يبدأ معناها في الظهور.
ونعود إلى سؤالنا من جديد: ماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح موضوعا لقضية ذرية من النوع الذي يقول عنه «رسل» إنه الوحدات البسيطة الأولية لكل تفكير؟ لقد أوضحنا أن الكلمات الكلية مثل «إنسان» و«شجرة» ليست بهذه البساطة المزعومة؛ لأن الواحدة منها تعود فتنحل إلى مجموعة من الأفراد أو المفردات؛ أفيكون الفرد الواحد إذن صالحا لذلك، كاسم «العقاد» مثلا؟ أئذا قلنا عبارة كهذه «العقاد إنسان»، كنا بذلك قد ضربنا مثلا للقضية الذرية البسيطة؟ كلا، ولا هذه أيضا؛ لأن كلمة «العقاد» هي أيضا لفظة تطلق في الحقيقة على مجموعة كبيرة من المفردات، وهذه المفردات هي الحالات الكثيرة التي يكون عليها العقاد في لحظات حياته المتتابعات؛ فقد تقع عينك على العقاد ألف مرة، وقد تسمعه يتحدت ألف مرة، دون أن يكون المرئي منه أو المسموع هو هو بعينه في حالتين اثنتين من هذه المرات الألف جميعا، لكننا نضم هذه الحالات كلها، وما سبقها وما سيلحق بها، لنطلق عليها اسما واحدا هو اسم «العقاد»؛ وإذن فما هذا الاسم بالبساطة التي ليس بعدها تحليل، وإنما هو اسم يأتي بعده تحليل وتحليل.
وأما إذا جعلنا موضوع القضية التي نقولها حالة واحدة من تلك الحالات المتعاقبة للفرد الواحد من الإنسان، كأن أتحدث عن لونه في لحظة معينة، أو صوته في حالة واحدة مما يصح أن أشير إليها بقولي «هذا» لمن أتحدث إليه، فتلك هي القضية الذرية الأولية البسيطة التي لا تحتمل بعد ذلك تحليلا؛ تلك هي الوحدة التي يتألف منها ومن مثيلاتها فكر الإنسان مهما بلغ بعد ذلك من التعقيد والتركيب.
لكني لا أستطيع أن أشير لمن أتحدث إليه بقولي «هذا» مشيرا إلى الحالة الواحدة الفردة التي أجعلها موضوع حديثي ، إلا إذا كانت تلك الحالة مما يمكن أن يتلقاها بإحدى حواسه؛ وبالتالي يستحيل أن يكون لكلامي معنى إلا إذا حللته إلى مفردات أولية، كل مفرد منها قضية ذرية، موضوعها حالة جزئية تدرك بإحدى الحواس.
قارن هذا الأساس المنطقي الجديد بمنطق أرسطو تر الفرق شاسعا بعيدا من حيث الإطار الفكري في كل من الحالتين؛ فالوحدات البسيطة عند أرسطو - وعند العصور الوسطى كلها من بعده، وعند كل من لا يزال يفكر على هذا الغرار - هي القضايا التي موضوعاتها كلمات كلية؛ فإذا سألته عن كلمة كلية مثل «إنسان» ما معناها، راح يحللها لا على أساس مدلولاتها الحسية، بل على أساس مقوماتها العقلية. نعم، لو سألته عن معناها انصرف إلى داخل رأسه لا إلى الدنيا العريضة من حوله، ليرى ماذا يكون داخل رأسه هو من «مفهوم» لتلك الكلمة، حتى لو لم تكن الكلمة دالة أبدا على أي شيء محسوس من أشياء الطبيعة الخارجية، فلا فرق عنده أن تسأله عن معنى «إنسان» أو عن معنى «ملك» أو عن معني «غول»؛ لأنه في شتى هذه الحالات جميعا سينصرف إلى داخل رأسه باحثا عن «مفاهيم» تلك الأسماء، ولا عبرة عنده بعد ذلك أن تكون أو لا تكون؛ هنالك في العالم ملائكة وغيلان كما أن فيه أفرادا هم بنو الإنسان، لا عبرة عنده لشيء من هذا؛ لأن العبرة هي بالمفهوم العقلي للفظ لا بمسمياته الفردية الجزئية التي تدركها هذه الحاسة أو تلك.
كان التفكير في العصور الوسطى - في أوروبا وفي الشرق الإسلامي على السواء - قائما على أساس من المنطق الأرسطي، وفي اعتقادي أن تجديد التفكير لا يمكن أن يتم على صورة وافية إذا اقتصر التغيير على الطوابق العليا وحدها، بل لا بد من تغيير الأساس، لا بد من إقامة البناء على منطق جديد؛ فإذا كان أرسطو والأرسطيون يكفهم الجولان داخل رءوسهم، فلا مناص لنا نحن الذين نريد التجديد من الخروج إلى حيث العالم المرئي المسموع. كان أرسطو بل وكثير غيره من الفلاسفة الأقدمين يفرقون بين «المعرفة » من جهة و«الظن» من جهة أخرى، وعندهم أن ما تجيء به الحواس «ظن» لا يقين فيه، أما «المعرفة» بمعناها الصحيح فلا بد أن ترتكز إلى يقين، ولكن كيف؟ إن ذلك اليقين المنشود لا يتحقق عند أرسطو وأتباعه وأشباهه إلا إذا كانت الفكرة نتيجة حتمية لمقدمات سبقتها، وهذه المقدمات بدورها لا تكون يقينا إلا إذا كانت نتائج لمقدمات سبقتها، وهكذا دواليك حتى تصل في الطرف الأعلى من بناء المعرفة إلى ما يسمونه المبادئ الأولى. وكيف أعرف هذه المبادئ الأولى؟ تعرفها بالحدس؛ أي بالعيان العقلي المباشر، فلعقلك ما يشبه العين ترى الحقائق العقلية رؤية مباشرة كما هي الحال في العين التي في رأسك، غير أن هذه تدرك محسوسات وتلك تدرك معقولات؛ وعلى ذلك فلا يقين عندهم إلا إذا كانت الحقيقة حدسية - وتلك هي المبادئ الأولى - أو إذا كانت حقيقة أقيم عليها البرهان القياسي الذي يبين من أي المقدمات جاءت. و«المبادئ الأولى» في كلتا الحالتين هي الأساس، أو قل هي المعرفة الأصيلة، ولكن هذه المبادئ الأولى هي نفسها «جواهر» الأشياء في رأي أرسطو، وجوهر الشيء هو نفسه تعريفه عند أرسطو كذلك؛ فما معني ذلك كله؟ معناه أنك إذا أقمت بناءك الفكري على أساس منطق أرسطو، فما عليك إلا أن تعرف الأشياء من حيث جوهرها العقلي، لا من حيث مظهرها الحسي، ومن هذه التعريفات تبني بناءك صاعدا أو هابطا، فلك أن تصعد منها بأن تضمها بعضها إلى بعض فيما هو أعم حتى تصل إلى قمة الوجود في مبدأ واحد، أو أن تهبط منها إلى ما يترتب عليها من نتائج قياسية؛ وبهذا يتاح لك أن تعلم حقائق الكون كله وأنت قابع في عقر صومعتك، لا حاجة بك إلى رؤية أو سمع.
4
كان المنطق الأرسطي تحليلا للفكر العلمي الذي ساد أيام اليونان، وساد بعد أيام اليونان قرونا طويلة شمل العصور الوسطى وما بعدها، حتى طرأ على التفكير العلمي تغير جوهري، استلزم أن يتغير معه المنطق الذي إن هو إلا تحليل للتفكير العلمي.
كان التفكير الذي ساد أيام اليونان رياضيا في صورته ومبناه وإن لم يكن كله رياضيا في مادته وفحواه؛ بمعنى أنه كان دائما يسير من مبدأ مفروض إلى النتائج التي تتولد من ذلك المبدأ. وكان علم الهندسة - ممثلا في هندسة إقليدس - هو خير ما يصور ذلك الضرب من التفكير الذي يبدأ بالمسلمات والبدائه لينتهي منها إلى النظريات التي تستمد يقينها من يقين مقدماتها؛ فإذا ما نهض أرسطو فيلسوف المنطق اليوناني ليرسم طريق السير للفكر الصحيح، كان طبيعيا أن يترسم خطوات التفكير الرياضي، ما دام هذا التفكير الرياضي ينتهي بصاحبه إلى النتائج اليقينية؛ وراح يحلل هذا الضرب من التفكير النموذجي ما وسعه التحليل، حتى خرج على الناس بمنطقه المعروف الذي مؤداه أن الوحدة الأولية لكل تفكير هي «القضية» التي لا بد أن يكون قوامها «موضوعا» نحكم عليه بصفة ما، و«محمولا» يكون هو تلك الصفة التي ننسبها إلى الموضوع؛ فإذا ما ضممنا قضيتين من هاتيك القضايا الحملية بحيث تتوافر فيهما شروط خاصة، أمكن أن نستنتج منهما نتيجة يقينية على نحو ما يحدث في التفكير الرياضي.
अज्ञात पृष्ठ
وجاءت العصور الوسطى بطابعها الديني، فوجدت هذا المنطلق الأرسطي أداة طيعة نافعة لخدمة أغراضها؛ فها هو ذا كتاب أو كتب نزل بها الوحي؛ وإذن فكل ما فيها صادق، ويمكن اتخاذ هذا العلم الصادق مقدمات لا سبيل فيها إلى الشك، فننتهي من تلك المقدمات إلى نتائج يقينية كذلك. وما يزال هذا الضرب من التفكير أداة يستخدمها كل من أراد أن يرتكز على سند يزعم له اليقين ليستدل منه ما استطاعت قدرته أن يستدل.
كان الافتراض الكامن وراء المنطق الأرسطي كله هو أن العلم الذي هو جدير بهذا الاسم، لا بد أن يبلغ درجة اليقين، وما ليس يبلغ اليقين فهو «ظن» لا يجوز الأخذ به، لكن هذا اليقين المنشود إذا جاز لنا أن نلتمسه في الرياضة وما يجري مجراها من ضروب التفكير، فلا يجوز أن يكون هدفنا إذا كانت «الطبيعة» هي مجال البحث؛ ذلك لأننا في الرياضة لا نزيد على استخراج نتيجة كانت كامنة في مقدماتها فأبرزناها، وأما في التحدث عن الطبيعة فالأمر مختلف، فها هنا ننبئ عن الظواهر أنباء قد نصيب فيها وقد نخطئ؛ ومن ثم فلا مندوحة لنا في هذا المجال الطبيعي عن اصطناع منهج فكري آخر؛ أي عن اصطناع منطق آخر، يكون عماده الترجيح لا اليقين، ما دام مجال القول هو النبأ الجديد لا مجرد تكرار النتيجة لما كان متضمنا في مقدماتها.
غير أن هذا المنطق الجديد الذي تلزمنا به ضرورة اتساع مجالات الفكر والقول لا يأتي على أنقاض المنطق القديم، بل هو يبني إلى جوار المنزل القديم منزلا جديدا؛ لأن مجال التفكير الذي من أجله نشأ المنطق الأرسطي ما يزال ولن يزال قائما، وكل ما في الأمر أن أضيف إلى القديم جديد من الفكر، يستوجب أن يضاف إلى المنطق القديم منطق جديد يسد حاجة هذا الفكر الجديد.
كان علم الهندسة في الرياضة لا يعرف سوى الهندسة الإقليدية التي أنشأها إقليدس، والتي ألممنا بطرف منها أو أطراف أثناء دراستنا الثانوية، لكن «هندسات» جديدة نشأت إبان القرنين التاسع عشر والعشرين إلى جانب هندسة إقليدس؛ فلئن كان إقليدس يبني علمه الهندسي على أساس استواء المكان، فهذه الهندسات الجديدة «اللاإقليدية» تبني بناءاتها على أسس أخرى؛ فواحدة منها تبني بناءها على أساس انحناء المكان كما هي الحال على سطح الأسطوانة؛ فإذا ما كنت إزاء سطح صغير نسبيا، كسطح هذه المنضدة التي أكتب عليها، جاز لك أن تفترض أنه مستو لا انحناء فيه؛ وبالتالي لا تخطئ إذا استخدمت هندسة إقليدس بالنسبة لما عساك أن ترسم عليه من مثلثات ودوائر، ولكنك لا تستطيع ذلك إذا ما تصديت لرقعة كبيرة من المكان، كالمكان الممتد بين الشمس والأرض، فها هنا يتحتم عليك أن تقلع عن افتراضك استواء المكان؛ لأنه يسلمك عندئذ إلى نتائج خاطئة، ولا بد لك من افتراض آخر يتمشى مع حقائق العلم الجديد، وهو أن المكان منحن، بحيث تسير أشعة الشمس فيما يشبه الأقواس لا في خطوط مستقيمة. وخلاصة القول هي أن هندسة إقليدس ما تزال صالحة ولكن في مجال محدود، ولا بد فيما عدا ذلك المجال المحدود من هندسات «لا إقليدية».
وكذلك الحال في فيزيقا نيوتن؛ فإذا كنت إزاء أجسام عادية تسير بسرعات عادية، فلا حرج عليك أن تستخدم علم الطبيعة كما عرفه نيوتن، وكما لا نزال نعرفه في مجال الحياة العلمية التي تتناول الأشياء المادية كأشياء، دون أن تتعرض للذرات الصغيرة التي هي قوام تلك الأشياء المادية؛ فالمهندس الذي يقيم جسرا أو بناء يكفيه علم الطبيعة النيوتوني في معالجته للمواد التي يستخدمها، أما إذا كان مجال البحث هو الذرة الصغيرة، فها هنا سنجد أنفسنا إزاء «طبيعة» أخرى، أجسامها ليست هي نفسها أجسام الأشياء كما نألفها، وسرعاتها ليست هي السرعات التي نألفها في تلك الأجسام؛ ولذلك اضطررنا اضطرارا إلى علم طبيعي «لا نيوتوني» إلى جانب علم الطبيعة النيوتوني؛ أما أولهما فللطبيعة الذرية، وأما الآخر فللطبيعة بمعناها المألوف.
وشيء كهذا لا بد أن يحدث للمنطق - والمنطق هو دائما تحليل التفكير العلمي - فلئن كان المنطق الأرسطي صالحا لأنواع التفكير الاستنباطي كما عرفها اليونان وكما عرفتها العصور الوسطى بعد اليونان، بل كما عرفتها العصور الحديثة حتى القرن التاسع عشر، فلا بد إلى جانبه من منطق آخر «لا أرسطي» على غرار الهندسة «اللاإقليدية» والفيزيقا «اللانيوتونية» ليواجه التفكير العلمي في تطوره الأخير.
ولنضرب بعض الأمثلة الموضحة؛ يقوم المنطق الأرسطي على دعائم أولية يعدها «قوانين» للفكر لا بد من سريانها في كل عملية فكرية، وأول تلك «القوانين» قانون الذاتية، الذي يرمزون له بقولهم «أ هي أ»، وهم يريدون بذلك أن الشيء المعين يحتفظ بذاتيته مهما تغير السياق من حوله؛ فهذه المنضدة التي أكتب عليها هي نفسها التي كانت بالأمس، على الرغم مما قد تغير من التفصيلات المحيطة بها، وأنا اليوم هو نفسه الذي كان أمس على الرغم من أنني قد ارتديت ثيابا أخرى وأتحدث حديثا غير حديثي بالأمس، وهكذا. يقوم النطق الأرسطي أول ما يقوم على افتراض أن الشيء الواحد المعين يحتفظ بذاتيته، وقد يكون هذا الاقتراض هو نفسه ما تنطوي عليه حياتنا العملية؛ ولذلك فلا بأس من تطبيق المنطق الأرسطي حيث يقوم هذا الافتراض.
ولكن ماذا تكون الحال إذا ما تحدثنا بلغة العلم الحديث، فقلنا إن هذه المنضدة التي تبدو للعين المجردة «شيئا واحدا بذاته» إن هي في الحقيقة إلا كومة هائلة من الذرات الصغرى التي لا تنفك متحركة مغيرة من أوضاع كهاربها؟ إنها وإن تكن قد حافظت على الإطار الخارجي لشكلها محافظة نسبية، إلا أن حشوها في تغير دائب لا ينقطع، إنها في حقيقتها سلسلة من «حالات» أو من «حوادث»، أفنكون على صواب إذا قلنا للعالم الطبيعي الذري «تمسك بأهداب المنطق الأرسطي، واحسب هذه المنضدة «شيئا واحدا بذاته» حتى لا تجاوز «قانون الذاتية» لأنه قانون من قوانين الفكر»؟ كلا، إنه لو أخذ بنصحنا كان خائنا لعلمه. كانت دنيا أرسطو سكونية مؤلفة من «أشياء» كل شيء منها ثابت على طبيعة بعينها؛ ولذلك أمكن تصنيف هذه الأشياء أنواعا أنواعا؛ وعلى هذا الأساس قام العلم الأرسطي كله. أما دنيا علمنا الراهن، فذات حركة مستمرة وصيرورة دائبة، لا يمكن تصنيفها «أشياء» كما يصنف البقال بضائعه في صناديق ورفوف؛ لأنها سير وحركة لا يحتفظ الشيء فيها بذاتية واحدة، إن «أ» لن تكون دائما هي «أ»، بل سرعان ما يتحول تركيبها الذري، ومهمة العلم الآن لم تعد كمهمة العلم الأرسطي، وهي أن يدرك «طبائع الأشياء» لأنه لا أشياء ولا طبائع، بل مهمة العلم الآن هي أن يرصد مجرى الحوادث ليلقف منه الاطرادات في سير تلك الحوادث، وكلما وقع على اطراد وقع بذلك على قانون من قوانين العلم؛ فلئن كان القانون العلمي عند المنطق الأرسطي رمزه هو «كل أ هي ب»؛ أي إن «أ» من طبيعتها كذلك أن تكون «ب»، كأن نقول «كل إنسان فان»، فيكون معنى ذلك أن الإنسان من طبيعته الفناء، فإن القانون العلمي عند المنطق الحديث رمزه هو «إذا وقعت أ لازمتها ب»، دون أن يكون معنى ذلك أن «طبيعة» أ تستلزم بالضرورة أن تلازمها ب، بل معناه أن ملاحظة الحوادث في مجراها الدائب المتغير قد دلت على أن أ، ب قد اطرد حدوثهما متلازمين، وكذلك «يرجح» أنه إذا حدثت «أ» مرة أخرى حدثت «ب» كذلك. هكذا تغيرت وجهة النظر إلى العالم، فتغيرت أسس العلم؛ وبالتالي وجب أن يتغير منطق التفكير.
الفصل الثاني
شعاب الطريق
अज्ञात पृष्ठ
1
ليست الفلسفة العلمية التي ندعو إليها وليدة اليوم؛ فقد تناوب التفكير الفلسفي على مدى التاريخ ضربان من الفلاسفة يختلفان من حيث الدوافع التي حفزتهم إلى التفلسف؛ فهنالك الفلاسفة الذين استهدفوا بفلسفاتهم غايات دينية أو خلقية، مثل أفلاطون وسبينوزا وهيجل، وهنالك إلى جانب هؤلاء فلاسفة كان التفكير العلمي رائدهم، مهما اختلفوا في النتائج التي انتهوا إليها، مثل ليبنتز ولك وهيوم، وإلى جانب أولئك وهؤلاء فريق ثالث اتخذ طريقا وسطا، مثل أرسطو وديكارت وباركلي وكانت. «وفي اعتقادي أن الدوافع الأخلاقية والدينية - على الرغم مما قد أنتجته من نسقات فلسفية تتسم بعظمة الخيال - إلا أنها كانت على وجه الجملة عائقا في سبيل التقدم الفلسفي.»
1
على أننا وإن نكن ندعو إلى اطراح الفلسفة التي تجعل هدفها تثبيت قواعد الدين أو الأخلاق، فليس يعني هذا أبدا أن نتخلى عن الدين أو الأخلاق، وكل ما في الأمر هو أننا لا نريد للفلسفة بمعناها الاصطلاحي الدقيق أن تكون وسيلة لنشر أخلاق بعينها أو دين بذاته؛ لأن لهذين وسائل أخرى ليس بينها التحليل العقلي الموضوعي للعبارات اللغوية وما تتضمنه من قضايا وكيفية إثبات هذه القضايا، وليس من شأننا الآن أن نبدي الرأي في الطرائق المثلى لتثبيت الأخلاق أو لإثبات الدين.
مذهبنا هو «أن يكون العلم - لا الأخلاق ولا الدين - مصدر الوحي للفلسفة».
2
وليس في هذا انتقاص لما يمكن أن توحي به الأخلاق أو يوحي به الدين من ضروب الفكر، ولكن هذا كله شيء والفلسفة بالمعنى الذي نريده لها شيء آخر؛ ذلك أن المفكر إذا ما جعل رائده في التفكير عقيدة دينية أو مذهبا خلقيا، فيستحيل عليه أن يتخلى عن تقييم الأشياء والأفعال تقييما يجعل من بعضها خيرا ومن بعضها الآخر شرا، وما دام الإنسان قد تصدى لمثل هذا التقييم فقد بعد عن المنهج العلمي الذي لا يفرق في موضوع البحث بين خير وشر، ولا بين جميل وقبيح؛ فالزهرة عند عالم النبات كائن يطلب تحليله وتشريحه، ولا يطلب تقييمه جمالا أو قبحا، وكذلك العبارة اللغوية عند من يريد أن يتناولها تناولا علميا شيء يراد تفتيته إلى أجزائه ومقوماته، ولا شأن له بعد ذلك بما قد تبعثه في نفس قارئها أو سامعها من نشوة أو انقباض.
النظرة العلمية تقتضي صاحبها ألا يجاوز أوضاع الأمور الواقعة؛ فإذا أراد - مثلا - أن يحدد تأثير الضوء على حدقة العين التي ترى ذلك الضوء، حصر نفسه فيما يظهر له في حدقة العين من تغيرات، دون أن يجاوز ذلك إلى «شعور» الرائي؛ فقد يسبب وقع الضوء على العين «ضيقا» أو «ارتياحا»، لكن أمثال هذه الحالات النفسية الداخلية لا تكون جزءا من النظرية العلمية التي تصف وقع الضوء على العين. ولما كان «وضع» الأمور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث العلمي، أطلق على النظرة العلمية اسم «الوضعية»؛ فإن كان «الوضع» القائم الذي يشغل الباحث عبارة من عبارات اللغة أو لفظة من ألفاظها، كانت «الوضعية» في هذه الحالة وضعية «منطقية»؛ ومن ثم كان هذا الاسم (الوضعية المنطقية) مميزا لطائفة من أصحاب الفكر صمموا على ألا يجاوزوا الواقع بنظرهم، وعلى أن يكون هذا الواقع الذي يختصون به هو اللغة التي يصوغ فيها سائر العلماء علومهم على اختلاف موضوعاتها.
لكن هذا الاتجاه «الوضعي» العلمي بين الفلاسفة لم يكن دائما «منطقيا» في صبغته، بل إنه لم يصبح كذلك إلا في العشار الثالث من أعوام هذا القرن. وكانت هنالك قبل ذلك اتجاهات وضعية في عالم الفلسفة، جعلت موضوع تحليلها «الأشياء» لا «العبارات اللغوية والألفاظ»، غير أنهم بالطبع لم ينافسوا علماء الطبيعة والفلك وما إلى ذلك في «أشيائهم» التي يبحثونها، ولكنهم اختصوا «بأشياء» أخرى لم تكن من شأن غيرهم من العلماء، ألا وهي - على وجه الجملة - «المعرفة الإنسانية»، فما حدودها؟ وما عناصرها؟ وما نصيبها من اليقين؟
وأول فيلسوف وضعي بالمعنى الشامل الدقيق هو «ديفد هيوم» (1711-1776م)؛ فقد تنبه ونبه الأذهان إلى أنه يستحيل على الإنسان أن يهتدي إلى وصف العالم الواقع بالتفكير الاستنباطي وحده؛ أعني أن من أراد أن يتحدث عن الوجود الخارجي في أي جزء من أجزائه، فلا يجوز له أبدا أن يحصر نفسه بين جدران رأسه، ليضع لنفسه «مبدأ» يزعم أنه قد رآه بالحدس، ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه ونتائج نتائجه، وبعدئذ يقول إن هذه النتائج التي جاءته استنباطا، إنما هي تصور هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الواقع. ولما كان هذا هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، إذ ترى الواحد منهم يصف العالم الخارجي أو أي جزء منه، لا عن طريق ما قد رأت عيناه أو سمعت أذناه، بل عن طريق استنباطه المنطقي العقلي الصرف بادئا من مبدأ فرضه لنفسه فرضا؛ أقول إنه لما كان هذا الضرب من التفكير هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، فقد جاء هيوم بمثابة الضربة القاتلة الأولى للتفكير الميتافيزيقي.
अज्ञात पृष्ठ
نعم قد سبق هيوم فلاسفة آخرون عرفوا أن التفكير الاستنباطي وحده لا يكفي بذاته أن ينبئنا بشيء عن العالم الواقع، وأن سبيل معرفة هذا العالم الواقع هو التمرس بظواهره عن طريق الحواس، لكن فضل هيوم في هذا الصدد هو تطبيق هذا المبدأ في غير ملاينة أو تسامح؛ فلم يفزع - كما فزع «لك» من قبله مثلا - من تطبيق المبدأ على أشياء كالنفس الإنسانية، فهي - كغيرها من الأشياء - إذا لم أخبرها بالحواس فلا سبيل إلى علمي بها؛ وبالتالي فكل حديث عنها هراء، ولا ينجيها أن تقول إن وجودها ينتج منطقيا عن كذا وكذا من المقدمات والمبادئ؛ لأن الاستنباط وحده - كما قلنا - يستحيل أن ينبئ بجديد عن الوجود وكائناته.
وإنا لنقدر هذه اللفتة الجديدة في تاريخ الفلسفة حق قدرها، حين نذكر كم من أعلام الفلاسفة قد أقام بناءه الفلسفي على المنهج الاستنباطي الخالص، فتراه يبدأ بحقيقة أو طائفة من حقائق يزعم أنها واضحة بذاتها، وما دامت كذلك فكل ما ينتج عنها بالاستنباط يكون كذلك واضحا لا يحتمل الشك. ولو وقف هؤلاء الفلاسفة الاستنباطيون عند هذا الحد لما كان على موقفهم غبار؛ لأن شأنهم عندئذ يكون كشأن علماء الرياضة يفرضون مجموعة من المسلمات في أول الأمر ثم يستنبطون منها نظرياتهم، فتكون هذه النظريات صادقة صدق مقدماتها، ما دام استنباطها من تلك المقدمات لم يتعرض للخطأ، لكن علماء الرياضة حين يشيدون بناءهم الرياضي على هذا الطراز لا يزعمون أنه يصور بالضرورة عالم الطبيعة الخارجي، بدليل أنهم يستطيعون أن يغيروا من مجموعة المسلمات الأولية فتتغير بذلك النظريات المستنبطة؛ أي يتغير بذلك البناء الرياضي عما كان عليه في الحالة الأولى، ويكون كل من البناءين صحيحا من الوجهة الرياضية، مع أنه يستحيل أن يصدقا معا على العالم الطبيعي؛ أقول إنه لو سار الفلاسفة الاستنباطيون على غرار العلماء الرياضيين، ففرضوا فروضهم «الواضحة بذاتها» ثم استنتجوا منها نتائجها، دون أن يزعموا أن تلك الفروض أو هذه النتائج مصورة لما يجري في عالم الطبيعة، لما كان لأحد اعتراض على ذلك، ولكان عملهم من قبيل الرياضة الذهنية لا أكثر ولا أقل، لكنهم لا يقنعون بهذا، ويصرون على أن تكون نتائجهم الاستنباطية التي هي من فعل العقل وحده مطابقة للظواهر الطبيعية؛ ومن ثم يقع الخطأ.
كان للمنهج الاستنباطي الخالص بريق يخطف أبصار الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم، وما ظنك بمنهج كل ما يتطلبه من المتعارضين في الرأي أن يتفقوا على صواب حقيقة واحدة أو طائفة قليلة من حقائق؛ فإذا ما تم لهم مثل هذا الاتفاق ضمنوا الاتفاق بعدئذ على تفصيلات البناء الفكري كله؛ لأن هذه التفصيلات كلها إنما جاءت نتائج محتومة لتلك المقدمات الأولى التي تم عليها الاتفاق بادئ ذي بدء. انظر مثلا إلى الجهد الجبار الذي بذله توماس الأكويني (1225-1274م) ليستخلص تفصيلات المذهب الكاثوليكي كلها من عدد قليل جدا من المقدمات، كان يراها قريبة إلى كل عقل سليم، وإذن فلا عقبة هناك تحول دون الاتفاق على صوابها؛ وبالتالي يتم الاتفاق على مجموعة التفصيلات التي تلزم عنها لزوما منطقيا.
3
وقل شيئا كهذا في كثير جدا من فلاسفة اليونان وفلاسفة العصر الوسيط، بل في كثير جدا من فلاسفة العصر الحديث ذاته، الذين حسبوا أنفسهم ثائرين على المنهج الاسكولائي في التفكير، وإذا هم ينهجون النهج نفسه من حيث الجوهر والأساس؛ فهكذا فعل ديكارت حين علق بناءه الفلسفي كله على مسمار واحد، هو نقطة البداية التي زعم أنها «واضحة بذاتها»، وهي تقريره عن نفسه أنه يفكر، ثم جاءت تفصيلات البناء كله نتيجة لازمة عن تلك البداية، ومن هذه التفصيلات ما يصف أجسام الطبيعة المادية الخارجية. وهكذا فعل سبينوزا الذي أغراه القالب الرياضي الاستنباطي إغراء حدا به أن يستخدم هذا القالب كما استخدمه إقليدس بغير تحريف ولا تغيير؛ بغية أن يصل إلى نتائج لها نفس اليقين الذي تتصف بها نظريات إقليدس، فتراه في كتابه «الأخلاق» يبدأ - كما فعل إقليدس تماما - بطائفة من مسلمات، منها ما هو تعريف ومنها ما هو بديهية أو مصادرة، ثم طفق بعد ذلك يستخرج من تلك المسلمات كل ما يمكن استخراجه من نتائج، فإذا كان بين هذه النتائج ما يشير إلى العالم الطبيعي الخارجي، كان معنى ذلك أنه استطاع الحديث عن هذا العالم ناسجا من عقله الخالص، بغير حاجة منه إلى استخراج حواسه في ملاحظات أو تجارب.
إلى هذا الحد البعيد كان تأثير المنطق الأرسطي في صياغة التفكير الفلسفي على مر العصور؛ إذ انصرف جهد الفيلسوف إلى صب بنائه في قالب استنباطي كما رأيت، مستغنيا عن حواسه في إدراك حقيقة العالم. ولو رجعت إلى المبادئ الأولى التي كان يستند إليها هؤلاء الفلاسفة في تشييد بناءاتهم الفلسفية، والتي زعموا لها الوضوح الذاتي الذي لا يحتمل شكا، وجدت تلك المبادئ مشتملة على ألفاظ كهذه: «نفس»، «روح»، «عقل»، «عنصر»، «تفكير»، «إرادة حرة»، وهكذا. وهي كلها كما ترى ليست أسماء تسمي محسوسات من عالم الأشياء الطبيعية. نعم إنهم كانوا يعرفونها ليستدلوا من تعريفاتهم لها ما يمكن استدلاله من نتائج، فيزعمون الصدق لهذه النتائج ما دامت قد استنبطت من تلك المقدمات، ولكن فاتهم أنهم يدورون في ألفاظ بعد ألفاظ؛ فبالألفاظ التي لا تسمي شيئا كانت البداية، وبالألفاظ التي اشتقوها من تلك البداية كان طريق السير ثم النهاية. ولسنا ننكر في مثل هذا العمل العقلي اتساقا منطقيا؛ فقد يكون السير الاستدلالي على أتمه وأكمله وأضبطه، ولكن أين عسى أن تكون العلاقة بين هذا البناء اللفظي من جهة وبين أمور الطبيعة الواقعة من جهة أخرى؟
ها هنا نعيد من جديد ما جاء هيوم ليؤكده، وهو أن التفكير الاستنباطي وحده، وإن يكن يحدد الروابط بين فكرة وفكرة، إلا أنه لا يجاوز حدود الرأس إلى حيث العالم الواقع؛ فأمور هذا الواقع يستحيل أن تدخل في مجال إدراكنا إلا عن طريق آخر، هو طريق الحواس؛ فالخبرة الحسية وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بالعالم الخارجي؛ وبهذا القول أصبح هيوم في طليعة الرواد إن لم يكن الرائد الأول بحق للفلسفة الوضعية الراهنة، على الرغم من الاختلاف البعيد بين وضعيته ووضعية الحركة الفلسفية المعاصرة؛ إذ بينما جعل اهتمامه الأول تحليل «المعرفة» تحليلا نفسيا لا منطقيا، بمعنى أنه حاول أن يرد «الأفكار» إلى مصادرها الأولى البسيطة، فكانت هذه المصادر عنده هي «الانطباعات» الحسية التي انطبعت بها هذه الحاسة أو تلك، والفكرة التي نحاول ردها إلى مصدرها الحسي فلا نجد لها مثل هذا المصدر تكون عنده فكرة وهمية باطلة؛ أقول إنه بينما جعل مجال بحثه تحليلا نفسيا كأنما هو عالم نفسي يبحث في التفكير الإنساني، ترى الوضعية المعاصرة «منطقية» لا نفسية؛ فالذي تحلله ليس هو «الأفكار» بل «القضايا»، والعناصر البسيطة التي تحاول الارتداد إليها ليست هي «الانطباعات» الحسية الأولية، بل هي القضايا الأولية التي لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها، على أن كل واحدة من هذه القضايا الأولية لا تكون كذلك إلا إذا كان موضوعها خبرة حسية مباشرة، كانطباعة لونية على العين أو ضغطة لمسية على سطح الجلد وهكذا.
2
الوضعية المعاصرة - إذن - ترتد إلى «هيوم» من حيث ارتكازها في نهاية التحليل على الخبرة الحسية المباشرة، وذلك حين يكون الحديث قائما حول ظاهرة من ظواهر العالم الخارجي، لكن ما كل حديث يقوم على الظواهر الطبيعية، بل هنالك ضرب آخر من الحديث يكون موضوعه «لفظة» معينة نتحدث عنها بما يعرفها، كقولنا - مثلا - «الجرو كلب صغير»، فها هنا لا يقتضينا الأمر أن ننظر خارج العبارة نفسها لنعلم إن كانت صادقة أو غير صادقة؛ لأن صدقها قائم في تكوينها نفسه؛ وإذن فهو صدق نقرره لها «قبل» النظر إلى الجراء في عالم الحيوان؛ إذ الأمر أمر لفظة وتعريفها، أو فكرة وتحليلها.
هذه التفرقة المنطقية بين نوعي القضايا؛ القضايا التي يقتضي تحقيق صدقها رجوعا إلى عالم الواقع الخارجي، والقضايا التي لا يقتضي تحقيق صدقها أكثر من مراجعة الكلام نفسه عجزه على صدره، لنرى إن كان العجز تكرارا دقيقا للصدر كله أو بعضه؛ أقول إن هذه التفرقة المنطقية بين نوعي القضايا، والتي هي - كما سنرى في غضون هذا الكتاب - من أهم الركائز التي يرتكز عليها التحليل الحديث، إنما يرجع أكبر الفضل فيها إلى ليبنتز (1646-1716م)، على الرغم من أن الوضعيين المحدثين لم يستخدموا هذه التفرقة لنفس الأغراض التي استخدمها ليبنتز من أجلها، بل على الرغم من أن الوضعيين المعاصرين لم يتفقوا مع ليبنتز على تفسير واحد لها.
अज्ञात पृष्ठ
فقد فرق ليبنتز تفرقة واضحة بين ما أسماه ب «حقائق العقل» وما أسماه ب «حقائق الواقع»، أما «حقائق العقل» فأزلية وضرورية؛ أي إن صدقها لم يحدث في لحظة معينة من لحظات الزمن، بل هي صادقة منذ الأزل وستظل صادقة إلى الأبد، وصدقها «ضروري» بمعنى أنه يستحيل عليها احتمال ألا تكون صادقة. ومثل هذه الحقائق العقلية إنما تستمد صدقها من مبدأ عدم التناقض؛ أي إننا لو حكمنا عليها بالكذب كنا بمثابة من يناقض نفسه؛ فقولك - مثلا - عن المثلث إنه شكل محوط بثلاثة أضلاع، حقيقة عقلية من هذا القبيل؛ لأن نقيضها مستحيل، فلا يجيز العقل ألا يكون المثلث محوطا بأضلاع ثلاثة، ولو قلنا قولا كهذا ناقضنا أنفسنا؛ لأن تعريف «المثلث» هو أنه شكل محوط بثلاثة أضلاع، وتقريرنا لنقيض هذه الحقيقة مساو لقولنا «المثلث ليس مثلثا». وأمثال هذه الحقائق العقلية إما أن تكون واضحة بذاتها، أو أن تكون مستنبطة من حقيقة واضحة بذاتها، كأن أستنبط من الحقيقة السالفة حقيقة أخرى، وهي أن للمثلث زوايا ثلاثا.
ويذهب ليبنتز إلى أن «عقولنا هي مصدر الحقائق الضرورية، فمهما أكثرنا من الأمثلة الجزئية التي تعرض لنا في خبرتنا مما عساه أن يؤيد حقيقة كلية معينة، فلن يكون في مقدورنا أن نثق بصدقها إلى الأبد لمجرد أننا استقرأنا عددا من الأمثلة التي تؤيدها، بل لا بد أن ندرك ما فيها من ضرورة الصدق عن طريق العقل؛ فقد تستطيع الحواس أن توحي لنا بهذه الحقائق الكلية وأن تؤيدها وأن تثبت صدقها، لكنها لن تستطيع أن تقيم البرهان على استحالة تعرضها للخطأ وعلى يقينها الدائم.»
4
تلك هي «حقائق العقل» في يقينها الأزلي الضروري، وأما «حقائق الواقع» فصدقها عرضي؛ فهي وإن تكن - في رأي ليبنتز - حقائق فطرية في النفس، شأنها في ذلك شأن الحقائق العقلية الضرورية سواء بسواء، إلا أنها - على خلاف هذه - لا ترتكز في صدقها على مبدأ عدم التناقض، بل ترتكز في ذلك على ما أسماه ليبنتز بالعلة الكافية؛ فلو قلنا - مثلا - عن الماء إنه يتجمد بالبرودة عند درجة معينة، كان هذا القول حقيقة عرضية الصدق وليست بضروريته؛ أي إنه ليس من التناقض عند العقل ألا يتجمد الماء عند هذه الدرجة المعينة من البرودة؛ فقد كان يمكن ألا تكون هذه هي حالة الماء، وكان هنالك حالات كثيرة جدا كلها ممكن، ولكن الذي جعل هذه الحالة المعينة - دون سائر الممكنات جميعا - هي حالة الواقع، هو أن الله قد اختارها لتكون مع سائر حالات العالم الواقع أحسن عالم ممكن.
وتحصيل هذه الحقائق العرضية عن أمور الواقع إنما يكون بالملاحظة التي تتعقب وتستقرئ الحالات الجزئية التي تقع لنا في خبراتنا التجريبية. إنها ليست «واضحة بذاتها»؛ إذ ليس هناك عند العقل ما يحتم أن تكون كما هي كائنة، لا، ولا هي مستنبطة من حقائق واضحة بذاتها بحيث نستطيع أن نقيم على صدقها البرهان العقلي، وليس لها من سند إلا أن حواسنا هكذا أدركتها.
هذه التفرقة التي ميز بها ليبنتز بين «حقائق العقل» و«حقائق الواقع» هي التي إذا نقلناها إلى عالم القضايا أصبحت تفرقة بين «القضية التحليلية» و«القضية التركيبية»، أو إن شئت فسم الأولى قضية تكرارية والثانية قضية إخبارية؛ الأولى يقينية لأن محمولها يكرر ما في موضوعها من عناصر، والثانية احتمالية لأن محمولها يضيف إلى موضوعها خبرا جديدا. وهي تفرقة - كما أسلفنا - تكون ركيزة هامة في بناء الفلسفة التحليلية المعاصرة؛ ولهذا كان «ليبنتز» أحد الرواد الذين مهدوا لنا الطريق.
وكذلك كان «عمانوئيل كانت» (1724-1804م) رائدا آخر من جماعة الرواد الذين دقوا شعاب الطريق إلى الفلسفة الوضعية في شكلها الراهن، وإن بدا هذ الزعم غريبا عند النظرة الأولى؛ إذ قد يسأل سائل: كيف يكون وضعيا هذا الفيلسوف الذي امتد به السير حتى بلغ آمادا هي أبعد ما تكون عما تراه الأعين أو تحسه الأيدي؟ لكن النظرة الفاحصة سرعان ما تتبين أشد الروابط وأوثق الصلات بين «كانت» من جهة، وجماعة الوضعية المنطقية من جهة أخرى، وحسبنا أن نذكر حقيقة واحدة واضحة عن «كانت» ليظهر صدق دعوانا، وهي إصراره على أن تكون «الخبرة» هي المجال الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يغترف منه أحكامه العلمية، أما إذا جاوز الإنسان حدود «خبرته» فقد جاوز بذلك حدوده المشروعة وعرض نفسه للوقوع في الخطأ.
لقد تصدى «كانت» لتحليل العقل الخالص في مجال التفكير العلمي، سواء كان هذا العلم علما رياضيا أو علما طبيعيا، فانتهى به التحليل إلى هذه النتيجة الهامة، وهي أن العقل الإنساني وإن تطلب في قيامه لما يقوم به من فكر مبادئ ومقولات لا محيص له عنها كي يؤدي ما يؤديه، وهي مبادئ ومقولات ليست مستمدة من عالم الخبرة، إلا أن هذه المقولات وتلك المبادئ لا يمكن استخدامها وتطبيقها إلا في حدود الخبرة الإنسانية، نعم إنها لم تشتق أصولها من عالم التجربة، ولكنها لا تستخدم إلا في عالم التجربة؛ أي إنه على الرغم من أن الإنسان محال عليه أن يستقي ما يستقيه من خبرات إلا إذا استعان بما فطر عليه عقله من مبادئ ومقولات، إلا أن هذه المبادئ والمقولات العقلية نفسها لا تجاوز به حدود «الظواهر» التي تقع له في خبراته؛ فحين أنظر إلى هذه المنضدة التي أمامي، فيستحيل علي إدراكها على الصورة التي أدركها بها، إلا إذا كان ثمة مبدأ مجبول في فطرة العقل ينظم لي أشتات المعطيات الحسية التي تجيء إلي منها، وإلا ظلت تلك الأشتات أشتاتا لا تستقيم ولا تتعين في «شيء» بذاته. نعم إن «المبدأ» الذي أعانني على إدراك المنضدة المحسوسة ليس هو بذاته أحد المعطيات الحسية، إلا أنه يقف بي عند حدود تلك المعطيات في إدراكي لهذه المنضدة، وأما «الشيء في ذاته» الذي هو مصدر تلك المعطيات الحسية، فمحال علي بلوغه عن طريق ذلك المبدأ نفسه؛ أي محال علي بلوغه عن طريق العقل الخالص.
ولو سئل «كانت» ما هو هذا «الشيء في ذاته» الذي تنبعث عنه المعطيات الحسية، أو الذي هو مصدر وراء الظواهر التي تنشأ عنها خبراتنا الحسية، لأجاب: لست أدري، ولا حاجة بي إلى هذه الدراية. فهو لا يدري لأن «الشيء في ذاته» بحكم التعريف لا يقع له في خبرته؛ إذ الخبرة محدودة «بالظواهر» لا تجاوزها إلى الحقائق الكامنة وراءها، ثم هو في غير حاجة إلى العلم بهذه الحقائق الكامنة وراء الظواهر؛ لأنها لن تكون جزءا من علم، كائنا ما كان ذلك العلم. وجدير بنا في هذا الموضع أن نشير إلى نقطة اختلاف رئيسية في هذا الصدد بين «كانت» وبين أتباع الوضعية المنطقية المعاصرة، وتلك هي أنهما وإن يكونا على اتفاق في وجوب انحصار الإنسان في حدود خبرته، إلا أنهما يختلفان في «الحقائق» المزعومة وراء تلك الخبرة، أو ما يسميه «كانت» «الأشياء في ذواتها»؛ فبينما يعترف «كانت» بوجود هذه الحقائق فوق متناول الإدراك الإنساني، يرى الوضعيون المنطقيون المعاصرون أن كل عبارة يقولها قائل عن أمثال تلك «الحقائق» إنما يتبين في ضوء تحليلها المنطقي أنها ليست بذات معنى؛ ولهذا فهم يختلفون مع «كانت» في السبب الذي من أجله لا يجوز الحديث العقلي في عالم «الأشياء في ذواتها»؛ فمثل هذا الحديث عندهم غير جائز؛ لأنه حديث محتوم عليه بحكم طبيعته أن يجيء فارغا من المعنى، وأما «كانت» فلا يجيز مثل هذا الحديث؛ لأنه يختص بعالم إدراكه مستحيل على العقل ما دام العقل مركبا على نحو ما هو مركب عليه.
أيجوز للإنسان - مثلا - أن يتحدث عن «النفس» باعتبارها كائنا مستقلا عن الجسد؟ الجواب عند «كانت» وعند أتباع الوضعية المنطقية المعاصرة معا هو أن ذلك لا يجوز؛ لأن مثل هذا الكائن لا يقع في خبراتنا؛ ففي هذا الصدد يقول «كانت» إننا نخطئ إذا استدللنا وجود «نفس» مستندين في هذا الاستدلال إلى «الوحدة» التي تنتظم فاعلية الوعي عندنا فتجعلها كيانا واحدا متصلا. نعم، يخطئ الإنسان لو استند إلى مثل هذه الوحدة في مجرى وعيه ليستدل وجود كائن عنصري مستقل قائم بذاته اسمه «نفس»؛ لأنه عندئذ يستدل وجود عنصر بسيط من عملية تركيبية لا بساطة فيها. إن الوحدة الصورية في فاعلية نشاطنا الواعي ليست وحدها دليلا على ما قد يكون وراءها من جوهر قائم بذاته، كل ما في وسعنا إدراكه هو ماذا يدور في مجال الوعي وكيف يدور، وأما «النفس» التي هي وراء هذا النشاط، فلا حيلة أمامنا للوصول إلى كنهها. إن حياتنا الواعية ليست كائنا بسيطا، إنها ليست كائنا عنصريا واحدا يعرض نفسه دائما في هوية واحدة، بل هنالك حالات كثيرة، أو حاضرات كثيرة، تمثل في الوعي، بينها علاقات تجعل منها شعورا واحدا، لكن هل يجوز لنا أن نستنتج من هذه الحاضرات النفسية الكثيرة وجود «نفس» واحدة بسيطة؟ إن طريق البحث العلمي مأمونة طالما كان مجال البحث هو هذه «الحاضرات» في مجري الشعور؛ لأننا عندئذ نحصر أنفسنا في حدود ما هو في نطاق الملاحظة والخبرة. وليس هنالك فرق جوهري بين ملاحظة تلك الحاضرات النفسية وملاحظة الظواهر الطبيعية؛ ولهذا فلا فرق في حقيقة الأمر بين «علم النفس» و«علم الطبيعة» من حيث مادة البحث ومنهجه، وكما أنه لا يجوز لعالم الطبيعة أن يجعل «الشيء في ذاته » موضوع بحثه، فكذلك لا يجوز لعالم النفس أن يجعل «النفس» - باعتبارها جوهرا بسيطا مستقلا قائما بذاته وراء الحاضرات النفسية الجزئية - موضوع بحثه. هكذا يقول «كانت»، وهكذا يقول التجريبيون العلميون المعاصرون.
अज्ञात पृष्ठ
أيجوز أن نتحدث عن الكون كله دفعة واحدة؛ أي أن نتحدث عن الكون باعتباره كلا واحدا؟ يجيب «كانت» بما يجيب به أتباع التجريبية العلمية المعاصرة، وهو أن ذلك غير جائز؛ لأن الكون باعتباره كلا واحدا لم يقع ولن يقع لنا في خبراتنا. والفرق بين «كانت» وبين أنصار التجريبية العلمية هو - كما أسلفنا - أن «كانت» يعلل استحالة مثل هذا الحديث بكونه فوق متناول العقل النظري بمبادئه ومقولاته، وأما التجريبيون العلميون فيعللون استحالة ذلك تعليلا منطقيا؛ إذ يقولون إن كل عبارة تقال عن مثل هذا الموضوع يمكن للتحليل المنطقي أن يبين أنها ليست بذات معنى.
غير أنك لو سمعت ما يقوله «كانت» عن النتائج التي تترتب على الحديث عن الكون باعتباره كلا واحدا، لحسبته واحدا من أتباع الفلسفة الوضعية المنطقية المعاصرة يتكلم ويبني كلامه على أساس منطقي صرف! فاستمع إليه وهو يصف لنا «النقائض» التي نتورط فيها لو جعلنا «الكون» موضوع حديثنا، فعندئذ يجوز للمتكلم أن يقول قضية ونقيضها في آن معا:
فلك أن تقول عندئذ إن العالم لا بد أن تكون له بداية زمنية، ولا بد أن تكون له حدود مكانية؛ لاستحالة أن يمتد زمانه إلى ما لا نهاية من حيث لحظة الابتداء، أو أن يمتد مكانه إلى ما لا نهاية، لكنك تستطيع في الوقت نفسه أن تقول نقيض ذلك، فتقول إن العالم يستحيل أن تكون له بداية في الزمن ولا حدود في المكان، وإلا فلو زعمنا له بداية زمنية للزم أن يكون قد سبق هذه البداية زمن خال مما يملؤه من حوادث، أو لو زعمنا له حدودا مكانية للزم أن يكون وراء هذه الحدود مكان خال مما يحل فيه، وكلا الفرضين محال تصوره؛ لأن الزمن الخالي لا يمكن التمييز فيه بين لحظة ولحظة، وبغير تتابع اللحظات فلا زمان، ولأن المكان الخالي لا يمكن التمييز فيه بين نقطة ونقطة، وبغير تحديد العلاقات بين مختلف النقط فلا مكان.
وانظر إلى «نقيضة» أخرى من هذه النقائض التي لا مندوحة للإنسان عن التورط فيها إذا هو جاوز حدود خبراته؛ ذلك أنه إذا ما رجع من المسبب إلى سببه، ومن هذا السبب إلى سببه، وهكذا، فقد يقول إنه لا بد من الوقوف عند سبب أول لا يكون بدوره مسببا لشيء سابق عليه حتى لا يظل ينتقل من المسببات إلى أسبابها إلى غير نهاية معلومة؛ ومن ثم تراه يزعم وجوب أن يكون للكون سبب مطلق غير مسبوق بشيء، وهو في الوقت نفسه سابق لكل شيء - لكنك من الناحية الأخرى تستطيع أن تقرر نقيض هذه الحقيقة فتقول إن السبب المطلق من كل قيد وشرط محال تصوره، وإلا فكيف أحدث هذا السبب الأول مسبباته؟ ما الذي جعل السبب الأول يحدث ما قد نشأ عنه في اللحظة المعينة التي حدث عندها ما قد حدث؟ وبإلقائك سؤالا كهذا تكون بمثابة من يبحث للسبب الأول عن أسباب تحدد له مسلكه، وهو نقيض ما قد قررناه له بادئ ذي بدء. وهكذا يمكن للإنسان أن يقول النقيضين عن الموضوع الواحد إذا هو أباح لنفسه أن يجاوز حدود خبراته، وما دام «الكون» باعتباره كلا واحدا خارجا عن حدود هذه الخبرات فلا يجوز للإنسان أن يتخذ منه موضوعا للحديث. ومثل هذا الاعتراض كما يبديه «كانت» هو هو بعينه ما يرتكز إليه الوضعيون المنطقيون في تحليلاتهم، حين يرفضون العبارات الميتافيزيقية على أساس أن كان عبارة منها يمكن أن تقال هي ونقيضها معا دون أن نجد في خبراتنا ما ينفي أحد النقيضين ليثبت الآخر، وما هكذا يكون الكلام ذو المعنى من الناحية المنطقية؛ إذ لا بد في مثل هذا الكلام أن يكون الصادق هو أحد النقيضين دون الآخر.
ولعل أقرب ما يقرب «كانت» من جماعة الوضعية المنطقية هو موقفه إزاء البرهان الوجودي على وجود الله؛ فمن الأسس الهامة عند هذه الجماعة - كما سنبين في هذا الكتاب - أن يظل المدرك العقلي بغير «معنى» حتى نجد له مسمي بين محسوساتنا الفعلية أو الممكنة، وأن المدرك العقلي في ذاته لا يضمن لنا أن يكون له مثل ذلك المسمى المحسوس؛ فلك إن شئت أن تكون في رأسك مدركا عن «الغول» أو عن «جبل من ذهب» أو عن «جنية البحر»، لكن مثل هذا المدرك العقلي لا يكون وحده دليلا على أن له مدلولا في عالم الأشياء.
وهذا هو نفسه موقف «كانت» في البرهان الوجودي على وجود الله، وهو البرهان الذي يستنبط وجود الله من المدرك العقلي الذي نتصوره عنه، فكأنما نقول لأنفسنا: بما أننا قادرون على تكوين هذه الفكرة المعينة عن الله، فلا بد أن يكون لهذه الفكرة مدلولها في الخارج؛ وإذن فلا بد أن يكون الله موجودا وجودا فعليا. وهنا يعترض «كانت» بحق قائلا إنه من تصورنا لفكرة معينة عن شيء معين لا يجوز الاستدلال بأن ذلك الشيء موجود وجودا فعليا، وحتى إن فرضنا أن الفكرة التي تصورناها قد بلغت الغاية في الدقة واستكمال شتى العناصر، فسيظل السؤال مع ذلك قائما: هل يوجد أو لا يوجد ذلك الشيء الذي عنه تكونت الفكرة في رءوسنا؟ ذلك لأن «الوجود» ليس صفة كسائر الصفات؛ فحاول - مثلا - أن ترسم في ذهنك صورة لما شئت من كائنات، كأن تتصور «جبلا من ذهب»، وارسم الصورة الذهنية بكل تفصيلاتها، ومع ذلك فلن يكون «الوجود» صفة تضاف إلى تلك التفصيلات كأنها واحدة منها؛ بل يكون معنى «الوجود» هو أن هذه الصورة الذهنية لها ما يقابلها في الخارج، فإذا لم يكن لها ذلك المقابل الخارجي لم تنقص الصورة شيئا من صفاتها ولا من تفصيلاتها. بعبارة أخرى، كون الصورة العقلية التي تصورتها مقابلة أو غير مقابلة لشيء في الخارج لا يؤثر في مضمون الصورة العقلية نقصا أو زيادة؛ فمضمونها ومحتواها هو هو في كلتا الحالتين، وليس هنالك أدنى تناقض بين أن أتصور كائنا معينا تصورا عقليا غاية في الدقة واستيفاء العناصر والصفات، وأن أتصور أن ذلك الكائن نفسه غير موجود؛ وإذن فالعقل الخالص وحده لا يستطيع أن يستنبط الوجود الفعلي لكائن صوره لنفسه مدركا عقليا، ولا سبيل إلى إثبات هذا الوجود الفعلي للكائن الذي تصورنا صفاته سوى الخبرة الحسية. ولا يكفي أن نحلل مضمون المدرك العقلي فنجد عناصره متسقة بعضها مع بعض وخالية من التناقض، لكي نزعم أنه لذلك لا بد أن يكون مشيرا إلى كائن خارجي موجود.
3
جاء القرن التاسع عشر فجرى خلال أعوامه تياران فكريان؛ تيار المثالية من جهة وتيار الوضعية من جهة أخرى؛ الأول يلبي نداء القلب ويشبع الجانب العاطفي من الإنسان، والثاني يحصر نفسه في حدود التجربة وحدها، بحيث لا يجاوز عالم الأشياء العينية التي تدركها الحواس. ولئن كان هذان التياران الفكريان - على بعد ما بينهما من تباين - يستهدفان غاية واحدة، هي الكشف عن حقيقة العالم، إلا أنهما قد نبعا من مصدرين متقابلين وسار كل منهما في اتجاه مضاد لاتجاه الآخر؛ فتيار منهما يقصد إلى غايته هابطا من أعلى إلى أسفل، وتيار آخر يقصد إلى الغاية نفسها صاعدا من أسفل إلى أعلى. أما التيار المثالي فينبع من داخل الفيلسوف ومن ذاته خارجا إلى عالم الأشياء، وأما التيار الوضعي فعلى عكس ذلك، يبدأ الشوط من عالم الأشياء لينتهي إلى باطن الفيلسوف وذاته. الأول ينتهج منهجا ذاتيا، والثاني يصطنع المنهج الموضوعي الذي يبني بناءه بلبنات من حقائق الواقع.
المثالية والوضعية كلتاهما - إبان القرن التاسع عشر - متفقتان على أن يكون هدف البحث هو الحقيقة القائمة، ولا حاجة بهما إلى الحفر وراء هذه الحقيقة القائمة بغية الوصول إلى ما هو كائن في جوفها - كما فعل «كانت» بتحليله للعقل - ولذلك تراهما معا، على ما بينهما من اختلاف في المنهج والوسيلة، ينصرفان إلى البحث في الطبيعة وفي التاريخ، كما تراهما معا يسلمان بأن العالم تطوري سائر إلى أمام، لا سكوني ذو حقائق ثابتة جامدة؛ وإذن فليس صوابا كل الصواب أن يقال عن وضعية القرن التاسع عشر إنها رد فعل للحركة المثالية التي سادت النصف الأول من ذلك القرن؛ لأن الحركتين قد سارتا حينا جنبا إلى جنب، حتى في إنجلترا نفسها التي تنطبع فلسفتها غالبا بطابع التجريبية والواقعية، ولكننا - مع ذلك - نلاحظ أن التفكير الوضعي قد أسرع الخطى حين وهنت قوة التيار المثالي، ولبث الأمر كذلك حتى أوشك أن يكون هو الفلسفة القائمة بلا منازع.
وليس من شك في أن الفلسفة الوضعية - وهي فلسفة تبدأ سيرها من الحقائق الواقعة المحسة - قد وجدت معينا في تقدم العلوم الطبيعية إبان القرن التاسع عشر، تقدما حدا بالإنسان أن يتساءل: أفلا يكون مصير هذا المنهج العلمي الذي يتسع مداه بهذه القفزات السريعة، أن يطرد اتساع رقعته حتى يشمل نواحي الفكر كلها؟ أيجوز لنا أن نجتزئ من مجال الفكر جانبا لنقول إن هذا الجانب لا يخضع ولن يخضع للمنهج العلمي أبد الآبدين؟ وحتى إن ثبت قطعا أن من حياة الإنسان الفكرية ما ليس يخضع للمنهج العلمي، أفلم يحن الحين أن نركز اهتمامنا كله في حدود ما يستطيعه العلم ومنهجه؟ أخذت هذه الأسئلة وأمثالها تساور النفوس إزاء ما قد شهده الناس من تقدم العلوم الطبيعية تقدما يستوقف النظر، ولعل أبرز من تمثلت فيه هذه النزعة هو «أوجيست كونت» (1798-1857م)، الفيلسوف الفرنسي الذي نهض ليؤدي رسالتين؛ أولاهما أن يجعل من العلوم العقلية علوما وضعية، والثانية أن ينسق شتى العلوم بما لها من قوانين ومناهج، وما تتناوله من موضوعات للبحث، في بناء نسقي واحد، كأنما أراد أن يدل ببنائه هذا على أن كل ما لا يقع في حدوده لا يكون من العلم الإنساني في شيء؛ وإذن فقد مضى عصر اللاهوت وانقضى عصر الفلسفة التأملية، وأصبح التفكير الوضعي من علم وفلسفة هو طريق النجاة، وسيكف الناس عاجلا أو آجلا عن إرباك أنفسهم بأسئلة لا تجد لها جوابا في عالم الحقائق الواقعة.
अज्ञात पृष्ठ
تلك نهاية علمية لا بد - في رأي «كونت» - أن ينتهي إليها الإنسان نتيجة محتومة لتطوره الفكري؛ ذلك أن الفكر الإنساني لا مندوحة له عن السير في مراحل ثلاث تستطيع أن تراها في تاريخ أي علم شئت . على أنه كلما ازداد العلم من العلوم تعقدا وتركيبا، طال الأمد الذي يحتاجه ليقطع أطواره الثلاثة في مجري تاريخه؛ فكلما أمعن موضوع العلم في التجريد كان أقرب إلى الوصول إلى مرحلة التحديد العلمي، وكلما هبط إلى المواقف ذوات الحوادث المفصلة المعقدة المركبة كان أبطأ في وصوله إلى تلك المرحلة. ولما كان علم الاجتماع - عند «كونت» - هو أدنى العلوم من حيث درجة التجريد، وأقربها إلى مستوى المواقف ذوات التفصيلات الجزئية، فقد آن الأوان أن نبلغ به مرحلة التحديد العلمي، ولو فعلنا لتم للإنسان بناؤه الفكري على الوجه الأكمل.
وأولى مراحل التطور الفكري مرحلة لاهوتية، لا يكون لدى الإنسان عندها من مشاهدات عن الطبيعة إلا عدد قليل، ومن ثم تراه يكمل الصورة لنفسه بخياله؛ فهو لا يجد في هذه المرحلة الأولى بدا من تعليل الظواهر الطبيعية، لا بما تشهده حواسه ويقع له في تجربته، بل بما يسعفه به خياله المتوقد النشيط. وليس أقرب إلى الخيال في مثل هذه المرحلة من أن يفترض لكل شيء ذاتا كذات الإنسان ونفسا كنفسه، فإذا نمت شجرة فهي إنما نمت كما ينمو الإنسان نفسه بدافع ذاتي من باطنه، وهكذا قل في النجوم إذا عبرت السماء، وفي النهر إذا تدفق، وفي المطر إذا نزل؛ هكذا عمر الكون في خيال الإنسان عندئذ بالكائنات الحية ذوات الأرواح والأنفس. ولم يكن في وسع الإنسان بالطبع أن يغير من مجرى الأمر شيئا، وما عليه إزاء الظواهر الطبيعية سوى أن يستسلم لفعلها، فلكل منها ما له هو نفسه من إرادة وتصميم، والغلبة للأقوى. ولا عجب أن تسود الناس عندئذ فكرة السلطة المطلقة في السياسة والحكم، انعكاسا لاعتقادهم إذ ذاك في قوى مطلقة لا راد لها في حكم الطبيعة.
وتأتي بعد المرحلة اللاهوتية في تفسير الطبيعة وظواهرها مرحلة ثانية ميتافيزيقية؛ فها هنا يكون التفسير لا بافتراض كائن روحاني وراء الظاهرة المراد تفسيرها، بل برد الظاهرة إلى مبدأ أو إلى فكرة أولى أو إلى قوة غير مشخصة في ذات؛ وهنا كذلك لا يكتفي الإنسان برد كل ظاهرة على حدة إلى مبدأ خاص بها، بل يحاول أن يضم شتى ظواهر الكون كله تحت مبدأ واحد أو فكرة واحدة. وإذا ما بلغ الفيلسوف الميتافيزيقي مبدأ واحدا يطوي تحته كل ظاهرات الوجود، كان بمثابة اللاهوتي في المرحلة الأولى حين بلغ به السير نقطة الإيمان بإله واحد يعلو على سائر الآلهة والقوى؛ فكلتا المرحلتين - اللاهوتية والميتافيزيقية - تحاولان حل جميع المشكلات بأداة واحدة، والفرق بينهما هو أن الأداة الواحدة في الحالة الأولى أداة مشخصة ذات إرادة، وهي في الحالة الثانية فكرة مجردة، وأن الوسيلة لبلوغ تلك الأداة الواحدة في الحالة الأولى هي الخيال، وهي في الحالة الثانية حجاج منطقي يعلو من النتيجة إلى مقدمتها أو يهبط من المقدمة إلى نتيجتها.
ومن رأي «كونت» أن المرحلة الميتافيزيقية من مراحل الفكر الثلاث إن هي إلا مرحلة انتقال مهمتها أن تفكك أوصال التفكير الروحاني الذي ساد المرحلة الأولى، تمهيدا للمرحلة الوضعية العلمية التي هي نهاية الشوط؛ وذلك لأن استخدام الحجة المنطقية في مرحلة التفكير الميتافيزقي من شأنه أن يكشف عما كان كامنا في الأفكار الدينية من تناقض، ومن شأنه كذلك أن يحل أفكارا ثابتة محل ما قد كان قائما من كائنات كثيرة ذوات إرادة تتصرف إشباعا لنزوة أو هوى؛ فالطبيعة في المرحلة الدينية الأولى كانت خاضعة لقوى لا راد لسلطانها، ولم يكن للإنسان قدرة على تصريف شئون نفسه، أما وقد جاءت المرحلة الثانية، مرحلة التفكير الميتافيزيقي، فماذا تركت للناس بعد أن أزالت عنهم العقيدة في سلطان غيبي نافذ الكلمة فعال الإرادة؟ إن من رأي «كونت» أن المرحلة الميتافيزيقية من تاريخ البشر جاءت لتهدم مصادر قوة دون أن تقيم مقامها شيئا إيجابيا يفعل فعلها؛ ولذلك ساد خلالها الشك وقويت الفردية، وأوشكت أن تتمزق الروابط التي تصل الفرد بجماعته. ولئن كان العقل الإنساني قد شحذ وأرهف في تلك المرحلة، فذلك على حساب الشعور الذي غاض معينه بعد خصوبة وفيض، وانعكست لذلك كله صورة على صفحة السياسة؛ إذ أصبح السلطان في أيدي أفراد الشعب باعتبارهم أفرادا لا ينطوون تحت حاكم يمحوهم في شخصه محوا؛ فإذا كانت المرحلة اللاهوتية الأولى عصر الحاكم الفرد المستبد، فقد كانت المرحلة الميتافيزيقية الثانية عصر الشعب، وأصبحت السيادة مستمدة من تعاقد الأفراد بعضهم مع بعض بعد أن كانت مستمدة من حق إلهي للأباطرة والملوك.
وثالثا وأخيرا جاءت المرحلة «الوضعية» حيث حلت مشاهدات الحواس وتجارب العلماء محل خيال اللاهوتي وحجاج الفيلسوف الميتافيزيقي؛ ها هنا بات حتما على من يتكلم عن الطبيعة جادا أن يصل كلامه بالوقائع المحسوسة، بحيث تكون المطابقة بين العبارة الكلامية من جهة والواقعة المحسوسة التي جاءت العبارة لتتحدث عنها من جهة أخرى، هي علامة الصدق ومعيار الصواب. وها هنا أيضا لم يعد الإنسان يبحث عن «علل أولى» يرد إليها الطبيعة وما فيها، بل يبحث عن «قوانين» تصور الاطراد الملحوظ في الظواهر الطبيعية؛ أي إنه يبحث عن «العلاقات» الكائنة بين الظواهر الملحوظة، والتي تجعل منها مجموعات من حوادث يطرد وقوعها كلما تحققت ظروف معينة. ولا فرق عنده بين أن يكون موضوع البحث أفكار الإنسان ومشاعره، أو قطع المادة من حيث الوزن والصلابة؛ لأنه ينظر إلى كل ما يعرض له نظرة موضوعية تحاول أن ترى على أي نظام يطرد حدوثه.
كان جهد الإنسان الفكري في المرحلتين الأولى والثانية منصرفا إلى الكشف عن مبدأ واحد يضم تحت جناحيه كل ما في الوجود على اختلاف نوع هذا المبدأ الواحد في كل من المرحلتين عنه في المرحلة الأخرى؛ فهو كائن روحاني واحد مطلق في المرحلة اللاهوتية الأولى، وهو مبدأ عقلي واحد مطلق في المرحلة الميتافيزيقية الثانية. أما في المرحلة الوضعية الثالثة والأخيرة، فما دام الاعتماد كله على الحواس وما يقع لها من خبرات، فقد أصبح محالا أن يتطلب الإنسان للكون كله مبدأ واحدا مهما يكن نوعه؛ لأن الخبرة الحسية التي هي مرجعه تقتضي أن يكون مجال البحث دائما محصورا في دائرة الحوادث التي يمكن أن تقع في مجال تلك الخبرة الحسية، ومهما اتسع هذا المجال فهو محدود على كل حال، ولن يسع الكون كله؛ فقصارانا أن نقف عند حدود خبراتنا، وكلما توافرت لنا مجموعة من ملاحظات في نوع معين من الظواهر، أمكننا أن نبني منها علما قائما بذاته، له قوانينه الخاصة، دون أن يكون في مستطاعنا - هكذا يرى أوجيست كونت - أن ندمج قوانين علم في قوانين علم آخر بحيث يكونان معا علما واحدا، فضلا عن أن ندمج قوانين العلوم كلها على اختلافها بحيث ترتد جميعا إلى قانون واحد كما كان الأمل الذي راود الإنسان في مرحلتيه الأوليين. وكل ما يستطيعه الإنسان في توحيد العلوم هو أن يجعل منها وحدة ذاتية؛ بمعنى أن يضم الإنسان معارفه المختلفة بعضها إلى بعض داخل ذاته هو، ولا يكون معنى ذلك أن قوانين الظواهر الطبيعية المختلفة قد اتحدت كلها في شيء واحد موضوعي كائن خارج ذواتنا.
في هذه المرحلة الوضعية الأخيرة من مراحل التفكير الإنساني، اقتربت المعرفة النظرية من تطبيقها العملي اقترابا جعلهما وجهين لحقيقة واحدة، وأصبح علمنا بقانون معين من قوانين الظواهر الطبيعية معناه أن في مستطاعنا أن نتحكم في مصيرنا بالنسبة إلى الظاهرة الطبيعية التي هي موضوع ذلك القانون؛ إننا اليوم نعلم من الطبيعة ما نعلمه لا لنقف عند هذا الحد، بل لنتسلف العلم بما عساه أن يقع في المستقبل. وأمل الإنسان في هذه المرحلة العلمية من حياته الفكرية هو أن يمد من نطاق علمه هذا بحيث يشمل الإنسان فردا ومجتمعا إلى جانب الظواهر الطبيعية الخارجية، وعندئذ يصبح مصيره ومصير الطبيعة في يديه.
تلك هي «وضعية» أوجيست كونت التي مدت أطرافها حتى بلغت إنجلترا، حيث ترعرعت على أيدي «جون ستيوارت مل» و«هربرت سبنسر»، وهي وضعية قوامها - كما رأيت - جوانب ثلاثة؛ فجانبها الأول المميز هو نظرتها التاريخية عند تقديرها لقيمة الفكرة؛ فالفكرة المعينة في العصر اللاهوتي قد تكون صالحة في مرحلتها، لكنها لا تعود صالحة في المرحلتين التاليتين، والفكرة المعينة في العصر الميتافيزيقي لم تكن لتصلح في المرحلة اللاهوتية الأولى ولن تكون صالحة في المرحلة العلمية الثالثة وهكذا. وجانبها الثاني هو حصر المعرفة النافعة في حدود الخبرات التجريبية ، وكل علم لنا اليوم عما يجاوز تلك الحدود قد يكون خطأ أو صوابا، ولكنه على كل حال علم لا يفيد. وجانبها الثالث هو تقريبها بين الفكرة النظرية وتطبيقها العملي؛ فليس علما ما ليس يمكن استخدامه في التحكم في مجرى الطبيعة ومصير الإنسان.
ويسود عصرنا الراهن - منتصف القرن العشرين - فلسفة وضعية جديدة لا تمت إلى وضعية كونت إلا بصلة واحدة، وهي أن كلتيهما ترتكزان على الخبرة الحسية وحدها إذا ما كان المجال مجال حديث عن الطبيعة وما فيها، ثم تفترق الحركتان بعد ذلك افتراقا بعيدا. على الرغم مما يخيل للذين يأخذون الدراسات الفلسفية أخذ المستهتر من أنه ما دامت كلمة «الوضعية» مشتركة فلا بد أن يكون الاتجاه واحدا بكل حذافيره،
5
अज्ञात पृष्ठ
فالحركة الفلسفية الراهنة تضيف إلى كلمة «وضعية» كلمة أخرى هي «منطقية»، بحيث تجعل اسمها «وضعية منطقية» لا على سبيل اللهو والعبث، بل عن قصد ودراية؛ فلو سأل سائل: لماذا يجب الكف عن النظر إلى ما وراء الحس؟ كان جواب «أوجيست كونت» هو: لأنه لا يفيد. أما جوابنا نحن فهو: لأن الكلام عندئذ سيخلو من المعنى. فالمذهب الوضعي عند «كونت» يجعل للعبارات المتحدثة عما وراء عالم الحس معني، وغاية ما في الأمر هي أن معناها لا يفيدنا في حياتنا العملية شيئا، وأما نحن فنرفض تلك العبارات على أساس «منطقي» لا على أساس النفع وعدمه؛ إذ يبين لنا التحليل المنطقي لتلك العبارات أنها أشباه عبارات تخدع بتركيبها النحوي السليم، لكنها في حقيقة أمرها لا تؤدي مهمة الكلام، وهي الإخبار؛ لأنها لا تحمل معني على الإطلاق تخبر به.
وكذلك لا تنظر «الوضعية المنطقية» إلى الأفكار نظرة تاريخية كما فعل «كونت»؛ فليست الفكرة عندها معتمدة على ظروفها التاريخية، بحيث تصلح اليوم بعد أن لم تكن صالحة بالأمس، بل الأمر موكول كله إلى تحليل اللفظ الدال على الفكرة تحليلا منطقيا لا يعرف فوارق الزمن؛ فلا مانع - مثلا - من تناول فكرة ميتافيزيقية من فلسفة أفلاطون، كقوله بخلود الروح، وتحليل لفظها تحليلا ينتهي إلى أنه لفظ فارغ بغير معني، مهما يكن من صلاحية مثل هذا القول في زمنه.
4
كان «هيوم» بفلسفته التجريبية، و«ليبنتز» بمنطقه الذي يفرق به بين حقائق العقل وحقائق الواقع، و«كانت» بتحليله للعقل وقوله باستحالة الميتافيزيقا التي تستنبط من مبدأ أول، و«كونت» بمذهبه الوضعي، كان هؤلاء جميعا من الرواد الذين مهدوا الطريق، كل من جانبه، لكي ينتهي إلى ما انتهى إليه في القرن العشرين من حركة فلسفية عرفت أول ما عرفت باسم «الوضعية المنطقية» تمييزا لها من «وضعية» كونت وغيره، وإنما سميت بهذا الاسم لأنها ترفض ما ترفضه وتقبل ما تقبله على أساس «المنطق» وحده؛ أي على أساس تحليل العبارات والألفاظ تحليلا يبين حقيقة بنائها. ولا يزال فريق من أتباع هذه الحركة الفلسفية يحتفظون لها باسمها الأول، لكن فريقا آخر أخذ يطلق عليها اسم «التجريبية العلمية» وما يدور حول هذا المعنى من أسماء، ولن أستطرد الآن في الحديث عن هذه «الوضعية» الجديدة؛ لأن مكان الحديث عنها تفصيلا هو الفصل التالي من هذا الكتاب.
ولكن «الوضعية المنطقية» إن تكن قد وجدت في هؤلاء الرواد مقدمات لها من حيث وجهة النظر العامة، إلا أنها قد اعتمدت في طرائقها التحليلية الخاصة على فريق آخر من علماء الرياضة ورجال المنطق؛ فهؤلاء هم الذين أمدوها بالأدوات التي تستخدمها في تحليلها الذي تريده لعبارات اللغة وألفاظها، تحليلا انتهى بها إلى مجموعة النتائج التي انتهت إليها حتى اليوم، وما تزال ماضية في طريقها تحلل وتحلل، فتوضح الغامض وتحل المتشابك وتلقي الضوء على الزوايا المعتمة، وهي أثناء ذلك كله لا تظل جامدة على أدوات تحليلية بعينها، بل ما تنفك تشحذ من تلك الأدوات وتصلح منها بحيث تلائم ما قد يعترض طريقها من صعاب.
فقد حدث حول منتصف القرن الماضي أن بدأت حركتان تسيران في اتجاهين متضادين، ولكن كلا منهما - مع ذلك - كانت تنفع الأخرى؛ فمن جهة أراد بعض علماء الرياضة أن يقفوا وقفة طويلة عند أساس علمهم الرياضي - وهو العدد - لعلهم مستطيعون أن يردوه إلى أصوله الأولية؛ ذلك أن فكرة أي عدد من سلسلة الأعداد فكرة مركبة وليست هي بالفكرة البسيطة؛ وإذن فعلينا أن نسأل: من أي العناصر البسيطة ركب العدد؟ وطفق علماء الرياضة يحللون العدد الذي هو أساس علمهم الرياضي كما قلنا، وما زالوا به تحليلا وردا إلى أصوله الأولية حتى انتهوا به إلى جذوره في المدركات المنطقية الخالصة. ومن جهة أخرى كان بعض المناطقة قد لفت أنظارهم قصور المنطق الأرسطي؛ ذلك المنطق الذي أدار اهتمامه كله على نوع واحد من القضايا، ألا وهو القضية التي يكون قوامها موصوفا وصفته، أو موضوعا ومحموله كما قد جرى الاصطلاح المنطقي، مع أن هنالك من الوحدات الفكرية ما يستحيل أن يصب في هذا القالب - قالب الموضوع والمحمول - لأنه تعبير عن علاقات وليس تعبيرا عن أشياء موصوفة بصفات، وفي مقدمة الصور الفكرية التي تعبر عن علاقات، والتي تأبى لهذا السبب أن تنساق مع المنطق الأرسطي، القضايا الرياضية؛ وإذن فالمنطق الأرسطي بحاجة إلى مراجعة وإلى زيادة في دقة التحليل لكي يتسع فيسع صور التفكير المختلفة، سواء كان ذلك التفكير قائما على «أشياء» أو على «علاقات»، ومن هنا أخذ المناطقة المحدثون يعملون في طريق يبدأ من المدركات المنطقية الخالصة، مثل «إما ... أو ...» و«و» و«ليس» و«إذا ... إذن ...» و«كل» و«بعض» ... إلخ، أقول إن المناطقة المحدثين أخذوا يعملون في طريق يبدأ من هذه المدركات لينتهي إلى القضايا الرياضية، كما كان زملاؤهم علماء الرياضة يعملون في طريق مضادة بادئين بالقضايا الرياضية لينتهوا إلى مدركات منطقية خالصة؛ وبهذا التقى الفريقان عند هدف واحد، وهو أن المنطق والرياضة كليهما امتداد لبناء فكري واحد، قوامه القضايا التحليلية التي يستنبط بعضها من بعض دون أن تكون دالة على حقائق الوجود الطبيعي.
كان هذان الفريقان؛ علماء الرياضة من جهة، وعلماء المنطق من جهة أخرى، فيما قاما به من تحليلات كل في موضوعه، بحيث التقيا عند غاية واحدة، بمثابة من هيأ للتحليل أدواته، فجاءت الجماعة التي أطلقت على نفسها اسم «الوضعيين المنطقيين» واستغلت تلك الأدوات التحليلية استغلالا أخذ يتشعب ويتفرع، وما يزال إلى يومنا هذا ماضيا في سبيله ، حتى نتج لنا ما قد نتج من تحليلات تملأ الكتب والمجلات الفلسفية المعاصرة، وسنسوق لك مثلا لكل من هذين الفريقين رجلا كان في فريقه إماما؛ إذ نسوق «فريجه» مثلا لفريق الرياضيين الذين عنوا بتحليل المدركات الرياضية حتى ردوها إلى أصول من المنطق الخالص، و«رسل» مثلا لفريق المناطقة الذين عنوا بتحليل المدركات المنطقية حتى أظهروا علاقتها المباشرة بالعلوم الرياضية.
كان «جوتلوب فريجه»
6 (1848-1925م) أستاذا للرياضة في جامعة بينا، وقد أصدر عام 1879م كتابا صغيرا جعل عنوانه «ترقيم الأفكار»،
7
अज्ञात पृष्ठ
وأراد به أن يكون محاولة أولى لتحقيق أمل كان يتمناه «ليبنتز» من قبله، وهو أن يستطيع الإنسان يوما أن يكتب أفكاره المجردة بلغة الرياضة، بحيث إذا ما اختلف متجادلان على أمر كان الفيصل بينهما هو شيء أشبه بالحساب الرياضي منه بالنقاش والجدل.
ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء؛ في أولها شرح لعلاقات رمزية جديدة يقترحها «فريجه» لتكون أداة لصياغة الأفكار التي يراد لها الدقة التامة، كما تكون أداة كذلك لاستنباط نتيجة من مقدمتها استنباطا لا يترك فجوة شاغرة؛ لأننا إذا أردنا أن نبين أن علم الحساب في الرياضة هو امتداد لمدركات منطقية، تحتم علينا أن نستنبط قضايا لا نشك في أنها من علم الحساب، من مقدمات لا نشك في أنها من علم المنطق، ثم لا بد أن يتم الانتقال من المقدمات التي هي من المنطق إلى النتائج التي هي من علم الحساب دون أن يتسلل إلى مجرى الاستنباط شيء نضيفه من معارفنا التي حصلناها بالخبرة، فلا هي من مدركات المنطق ولا هي مما يتولد عن تلك المدركات من نتائج.
إن مدركات المنطق الخالص لا تحتوي على مضمونات خبرية، وأي مضمون خبري تراه في «إذا» أو «ليس» مثلا؟ وإذن فلا بد لنا عند اشتقاق الرياضة من أمثال هذه الإطارات الخالية أن نكون على حذر حتى لا ندخل في إحدى مراحل الطريق كلمة من ذوات المضمون الخبري؛ لأننا لو فعلنا ذلك، ثم مضينا في طريقنا الاستنباطي حتي بلغنا نتيجة ما، فعندئذ لن يكون من حقنا أن نقول عن تلك النتيجة التي بلغناها إنها مشتقة من مدركات المنطق الخالص؛ إذ قد تكون نتيجة لذلك المضمون الخبري الذي دسسناه خلال الطريق.
وقد استخدم «فريجه» في بنائه الرمزي الاستنباطي الذي استهدف به - كما أسلفنا - بيان الصلة الوثيقة بين الرياضة والمنطق، أربع أدوات أساسية فقط، هي: (1)
علامتان رمزيتان تقومان مقام الكلمتين المنطقيتين «ليس» و«إذا». (2)
طائفة من الحروف الهجائية يستخدمها على نحو ما يستخدم الرياضي هذه الحروف في معادلاته؛ حتى لا يضطر إلى كلمات اللغة ذوات المدلول، كأن يكتب مثلا عبارة كهذه «س متضمنة في ص»، وبالطبع لا تكون أمثال هذه العبارة الرمزية ذات الفجوات الشاغرة «قضية»؛ لأنها لا توصف بصدق أو بكذب، وشرط «القضية» أن يجوز عليها مثل هذا الوصف، وقد اصطلح على تسمية عبارة رمزية كهذه بدالة قضية.
8 (3)
فإذا ملئت الفجوات الشاغرة في «دالة القضية» بكلمات مناسبة، كأن نقول في العبارة الرمزية السالفة «فئة المصريين متضمنة في فئة المتكلمين بالعربية»، تحولت الدالة إلى قضية يمكن تحقيقها صدقا أو كذبا. (4)
علامة رمزية تدل على المعنى الذي نعبر عنه في اللغة بكلمة «كل».
هذا هو الجهاز البسيط الذي أعده «فريجه» لتحليله، ولعل أهم ما فيه هو هذه التفرقة التي أقامها بين العبارة إذا اقتصرت على رموز جبرية، والعبارة نفسها إذا استبدل بتلك الرموز الجبرية ألفاظ من اللغة؛ أي التفرقة بين ما نسميه اليوم ب «دالة القضية» وما نسميه ب «القضية»؛ ففي هذه التفرقة التي قد تبدو للقارئ هينة الخطر ثورة فكرية ستلمس مداها في غضون هذا الكتاب، بل لعلها من أعظم النتائج التي وصلت إليها التحليلات المنطقية الحديثة فقلبت كثيرا من الأوضاع القديمة رأسا على عقب.
अज्ञात पृष्ठ
تلك خلاصة للجزء الأول من كتاب «فريجه» الذي أشرنا إليه، ثم يمضي الكتاب في جزئه الثاني فيقدم مجموعة كاملة من القواعد المنطقية والبديهيات، تكفي للبرهنة على كل ما يتصل بدالات القضايا - أي العبارات ذوات الرموز الجبرية - وفي الجزء الثالث من الكتاب يبين «فريجه» على سبيل التوضيح كيف يمكن استخدام جهازه الرمزي في صياغة أهم الأفكار المتصلة بالأعداد وترتيبها.
وكان الأمل يحدوه أن ينتقل بعد ذلك إلى الغاية الرئيسية المنشودة من مجهوده كله، وهي أن يفصل القول في كيفية اشتقاق الرياضة من تلك البدايات المنطقية، لكن رجاءه خاب؛ لأن أحدا لم يعر أجزاءه الثلاثة الماضية لفتة ولو عابرة؛ فآثر «فريجه» أن يترك العمل عند هذا الحد الذي انتهى إليه، وأن يحاول تقديم أفكاره الرئيسية في صورة أخرى تكون أقرب إلى قبول القراء؛ فلعل هؤلاء القراء ازوروا عن كتابه بسبب التزامه للطريقة الفنية الدقيقة في التعبير؛ ومن ثم أخرج كتابا آخر (1884م) عنوانه «أسس علم الحساب»،
9
يبين فيه بطريقة أسهل كيف أن هذا العلم الرياضي لا يحتاج أبدا إلى شيء غير ما يسبق التسليم به في مجال المنطق الخالص.
ولم يكن علماء الرياضة عندئذ يوافقون على رأي كهذا؛ فمن ذا الذي كان يظن منهم أن عددا مثل «2» أو «3» أو غيرهما هو في الحقيقة بغير مدلول في عالم الأشياء؛ لأنه ما دام نتيجة مشتقة من مدركات المنطق الخالص - ومدركات المنطق الخالص خالية من أي مضمون خبري متصل بعالم الواقع الطبيعي - فلا بد أن يكون بدوره - كهذه المدركات التي اشتق منها - رمزا تحليليا صرفا بغير مضمون من الخبرة المستمدة من عالم الأشياء؟
كلا، لم يكن الرأي الذي ساقه «فريجه» عن علم الحساب وأصوله مما يأخذ به أحد من علماء الرياضة عندئذ؛ فقد كان من هؤلاء من يعد رموز الحساب (الأعداد) كألفاظ اللغة، رموزا يتفق الناس على طريقة استخدامها لتدل على مسميات خاصة، لكن هذا هو «فريجه» يخضع الأمر لتحليله فيخرج بهذه النتيجة، وهي أن الرمز الدال على عدد ما، مثل «2»، إن هو إلا رمز ندل به على مجموع الفئات التي قوام كل منها عضوان، والتي يرتبط كل منها بالفئة المعدودة بعلاقة «واحد بواحد»، فلماذا نقول عن هذين الكتابين إنهما «اثنان»؟ نقول ذلك لأننا لو قرناهما بهذين القلمين أو هذين المقعدين أو هذين الولدين وجدنا أن كل عضو منهما يقابل عضوا، وهذه المقابلة التي تسمى «علاقة واحد بواحد» هي معنى «التشابه» بين فئتين؛ وعلى ذلك فلو جمعنا كل فئات الأشياء التي تتشابه معا بعلاقة واحد بواحد، ثم إذا أطلقنا عليها رمز «2»، لم يكن لهذا الرمز من معنى سوى تلك الفئات المتشابهة المجتمعة.
10
والذي يهمنا نحن من هذا كله أن فكرة العدد مشتقة من فكرة «الفئة» أو «النوع»، وهذه الأخيرة فكرة خالصة للمنطق وحده. ومضى «فريجه» بعدئذ في طريقه لا ينثني، حتى أخرج سنة 1893م الجزء الأول من مؤلف ضخم اعتزم إصداره بعنوان «القوانين الأساسية في علم الحساب»، والغرض منه هو نفسه الغرض من كتبه السابقة، وهو بيان العلاقة الوثيقة بين علم الحساب من جهة والمنطق الخالص من جهة أخرى. ومن أهم ما يلفت النظر في هذا الجزء بحثه الدقيق في «المعنى»، فماذا نريد على وجه الدقة حين نقول عن رمز معين أو لفظ معين إنه «يعني» كذا وكذا؟ وما علاقة هذا «المعنى» بالمسميات التي يشير إليها ذلك الرمز أو اللفظ؟
وفي 1903م أصدر الجزء الثاني من مؤلفه هذا، وجاء في ختامه «حاشية» ألحقها به بعد أن تم طبع الكتاب، قال فيها وهو آسف إن شابا إنجليزيا اسمه «برتراند رسل» قد اتصل به وبين له مواضع التناقض في بنائه الرمزي الذي هو العمود الفقري لبحثه كله.
ذلك أن «برتراند رسل» كان قد أخذ ينغمس في تحليلاته وأبحاثه المنطقية انغماسا بلغ ذروته في كتابه «أصول الرياضة» (برنكبيا ماثماتكا)، الذي أخرجه في ثلاثة مجلدات ضخمة بالاشتراك مع «وايتهد» (1910-1913م)، فجاء عمله هذا بمثابة المنهج التحليلي الذي اصطنعته جماعة الوضعية المنطقية فيما بعد، فانتهى بهم إلى ما انتهوا إليه من نتائج سنشرحها في الفصول الآتية من الكتاب.
अज्ञात पृष्ठ