माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
أعود فألاحظ أن ما يلفت أنظارنا - من الناحية العقلية التي هي موضوعنا - أن ينشق الخوارج على أنفسهم عشرين فرقة في مثل هذا المبدأ البسيط؛ إذ ما معنى هذا التباين الواسع؟ معناه دقة في التحليل؛ فقد تختلف الفرقة منهم عن الفرقة الأخرى في جانب هو في دقة الشعرة، حتى ليفوتنا إدراكه ونحن نستعرض آراء هذه الفرق العشرين.
وكانت «الأزارقة» - وهم أتباع نافع بن الأزرق - أكثر فرق الخوارج عددا وأشدهم بأسا، ومن أهم ما يميز مبدأهم قولهم بأن من خالفوهم مشركون، وكان الخوارج الأولون يكتفون بالقول عن مخالفيهم بأنهم كفار، لا مشركون، ثم يميز الأزارقة - ثانيا - قولهم عن «القعدة» (أو المحايدين بلغة العصر الحاضر؛ إذ القعدة هم الذين قعدوا عن نصرة علي وعن مقاتلته) أقول إن ما يميز مبدأ الأزارقة كذلك قولهم عن القعدة بأنهم أيضا مشركون، برغم أن القعدة هم من الخوارج من ناحية المذهب النظري، لكن الاكتفاء بالاقتناع النظري، دون ملاحقته بالتنفيذ العملي كفيل - في رأي الأزارقة - أن يسلك صاحبه في زمرة المشركين، ولقد عرف هؤلاء الأزارقة - شأنهم في ذلك شأن كثير من الخوارج الآخرين - بنوع من القسوة وغلظة القلب، لا يكاد المرء منا يصدق معه أنهم كانوا حقا من المسلمين، فقد كانوا لا يترددون في قتل أسراهم ممن يخالفونهم في الرأي - مع أن الأسرى مسلمون - بل إنهم إذا ما جاءهم أحد يدعي لهم أنه يريد أن ينضم إلى جماعتهم، امتحنوه بأن يقدموا له رجلا من الأسرى، ويطلبون منه - أي من العضو الجديد - أن يقتله، فإذا فعل في غير مبالاة كان جديرا بعضوية حزبهم، وإذا تردد، عرفوا أنه مخالف لهم، وبالتالي فهو مشرك، وقتلوه! ولقد بلغت بالأزارقة ضراوة الطبع حدا استباحوا معه لأنفسهم ألا يكتفوا بقتل من خالفهم في الرأي، بل إنهم ليقتلون معه من كان ينتمي إليه من نساء وأطفال، زاعمين أن نساء المشركين وأطفالهم هم كذلك مشركون ومخلدون في النار، فتلك - إذن - جماعة لا نكاد نعجب بمبدئها السياسي الذي يجعل حق الحكم للأصلح أيا كان نسبه، حتى نبرأ إلى الله منهم أن يكونوا أسلافا لنا في وجهة النظر وفي أسس السلوك.
ولقد برئ منهم في زمانهم فريق آخر من الخوارج يسمى بالنجدات (نسبة إلى نجدة بن عامر) إذ خالفوهم في إشراك القعدة (المحايدين) الذين أبوا على أنفسهم أن يشاركوا في فعل تلك الشنائع، برغم موافقتهم على المبدأ السياسي الذي يجعل الحكم للأصلح لا لصاحب النسب، كما خالفوهم كذلك في قتل النساء والأطفال لمجرد كونهم ينتمون إلى رجال ظنوهم مشركين لمخالفتهم لهم في الرأي.
ومن فرق الخوارج كذلك فئة يطلق عليها «الصفرية» (بضم الصاد وسكون الفاء)، وإنما سموا بهذا الاسم إما نسبة إلى صفرة وجوههم من أثر ما تكلفوه من السهر والعبادة، وإما نسبة إلى جمع الأصفر الذي هو أبو زياد، الذي تنسب إليه هذه الجماعة، وهي جماعة تذهب إلى ما ذهب إليه الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم كما كان يفعل الأزارقة، وكان من رأي الصفرية أيضا ألا يوصف بالكفر ولا بالشرك رجل اقترف إثما اختصه الكتاب باسم خاص، كالسارق والزاني والقاتل عن عمد؛ فهؤلاء يوصفون بأوصافهم هذه بلا زيادة، دون أن يكونوا من الكفرة أو المشركين، أما من يحكم عليهم بكفر أو بشرك، فهم أصحاب الذنوب التي لم ترد فيها حدود كترك الصلاة والصوم.
وكان من جماعات الخوارج العشرين، فرقة يطلق عليها اسم الإباضية (لقولهم بإمامة عبد الله بن إباض) ويميزها مذهبها القائل عن مخالفيهم إنهم في منزلة وسطى بين الإيمان والشرك، فلا هم مؤمنون ولا هم مشركون، ولكنهم كفار، ولقد حرموا دماءهم في السر وإن يكونوا قد استحلوها في العلانية! ثم أجازوا شهادتهم ومصاهرتهم والتوارث منهم، فإذا وقع منهم أسرى، استحل الإباضية بعض أموالهم دون بعض؛ إذ استحلوا الخيل والسلاح، فأما الذهب والفضة فإنهم يردونهما على أصحابهما عند الغنيمة (راجع في كل هذه الجماعات من الخوارج، وما بينهما من فروق وما لكل منها من فروع، كتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي).
وإنه لمما يلاحظ عند تتبع الفرق المختلفة التي تتابعت على مذهب الخوارج، أنها تزداد ميلا نحو التسامح كلما تقدم معها الزمن؛ فأولهم ظهورا هو أشدهم تزمتا، وأواخرهم أكثرهم تساهلا في معاملة مخالفيهم؛ فبينما «الأزارقة» تضيف في الحكم بقتل المخالف نساءه وأطفاله، ترى «الصفرية» من بعدهم لا يقرون أخذ النساء والأطفال بجريرة الرجل المخالف، كما ترى كذلك قصر الذنوب الكبيرة التي تستدعي الحكم بالكفر أو بالشرك على تلك التي لم يرد بشأنها حد في الكتاب، وتأخذ فرقة «النجدات » بتسامح «الصفرية» وتضيف إليه تسامحا آخر، وهو ألا يتهم المذنب بالكفر أو بالشرك إلا في حالة تجمع عليها الأمة، أما إذا ما اختلف الرأي فعندئذ يترك أمر المذنب لاجتهاد الفقهاء، وأخيرا تجيء «الإباضية» بتسامح جديد، حين قالت عن صاحب الذنب الكبير - مع إيمانه بالله وبكتابه - إنه كافر نعمة وليس هو بكافر دين.
على أن الوقفة المتسامحة التي تليق بصاحب الإيمان، سواء كان من السلف أو من المعاصرين، فهي وقفة فريق آخر عارض الخوارج في تزمتهم، وأعني به فريق «المرجئة» الذي دعا أصحابه إلى وجوب إرجاء الحكم على أصحاب الذنوب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن يقضى عليهم بحكم في هذه الدنيا، على أن الإرجاء الذي من أجله سميت المرجئة بهذا الاسم، قد فهم على معنيين - كما يقول صاحب «الملل والنحل» - أحدهما: بمعنى التأخير، والثاني: بمعنى إعطاء الرجاء، والمعنيان معا مطابقان من الناحية الفعلية لجماعة المرجئة؛ إذ هي بالمعنى الأول جماعة ترى وجوب تأخير الحكم على الناس إلى يوم الحساب، وقيل كذلك: إنها أيضا ترى تأخير العمل عن نية العمل، وأما بالمعنى الثاني: فالمرجئة جماعة تعتقد بمبدأ هو أنه «لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، أي إن المؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، لا يخرجه عن هذا الإيمان معصية يقترفها، كما أن الكافر بهذه الأشياء لا تدخله في زمرة المؤمنين طاعة.
وواضح أنه إذا خرجت خوارج على علي، فلا بد أن يكون هنالك من يشايعونه، وهؤلاء هم «الشيعة» التي دعت إلى إمامته وخلافته؛ إما لأن ثمة نصوصا تحتم ذلك، وإما لأن النبي عليه السلام قد أوصى بخلافته، واعتقد هؤلاء المشايعون لعلي بأنه إذا مات، فلا يجوز أن تخرج الخلافة من أولاده، فإذا خرجت كان ذلك إما لأن آخرين قد اقترفوا في حقه ظلما، وإما لأنه هو أو أحد أولاده قد آثر التقية، وكذلك اعتقدت الشيعة بأن قضية الإمامة ليست قضية مصلحة تناط باختيار العامة، بل هي قضية تمس أصول العقيدة، ومن ثم فهي عندهم أحد أركان الدين، (راجع الملل والنحل للشهرستاني، الجزء الأول) وللشيعة فروع كثيرة قد نعود إليها في وقفة أخرى.
16
نذكر القارئ بأننا ما زلنا في وقفتنا الثانية على خط تراثنا الفكري، وهي وقفة اخترناها في مدينة البصرة خلال القرن الثامن الميلادي (الثاني بعد الهجرة)، حيث أخذت الآراء تتفرع وتتشعب حيال المشكلات العقلية الأولى، التي نبتت للناس عندئذ نباتا طبيعيا من حوادث المعركتين - معركتي الجمل وصفين - اللتين دارتا حول حق الخلافة لمن يكون، ثم سرعان ما نجم عن هذا الخلاف مسألة خاصة بالمخطئ الذي ارتكب الذنب؛ إذ لا بد أن يكون من الفريقين المتحاربين فريق واحد على الأقل قد أخطأ؛ لأنه لو كان الفريقان على صواب لما نشب بينهما قتال، وعندئذ كان الحرج كل الحرج على من أراد أن يقضي في هذه المسألة برأي؛ لأن كلا الفريقين المتحاربين فيه من صحابة الرسول، لكن المشكلة ألحت على العقول، بحيث لم يتراجع أولو الرأي أمام هذا الحرج، فرأينا الخوارج يكفرون من أذنب باختياره الموقف الباطل من وجهة نظرهم، ثم رأينا خلافا بين الخوارج أنفسهم يتراوح بين التزمت واصطناع شيء ولو يسير من الاعتدال، ثم رأينا المرجئة وهي تخفف من حدة الخوارج في تزمتهم، فجعلوا الحكم في الذنوب لله تعالى يوم يكون الحساب، كما رأينا جماعة الشيعة التي وقفت إلى جانب علي أمام هجمة الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة.
अज्ञात पृष्ठ