माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
ولم يكن الصراع الفكري حينئذ مقصورا على هذا التضاد بين الخوارج من ناحية والشيعة من ناحية أخرى، ولا مقصورا على تضاد آخر بين المرجئة التي دعا أصحابها إلى إرجاء الحكم ليتولاه إله الناس، وبين الوعيدية من جماعة الخوارج الذين رأوا أن يكون الحكم هنا والآن، تأسيسا على ما قد ورد في كتاب الله من أحكام فهموها على طريقتهم. أقول: إن الصراع الفكري حينئذ لم يكن مقصورا على هذين الفرعين من التضاد، بل شمل كذلك فرعين آخرين، أولهما تضاد بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وبين المعتزلة أيضا والصفاتية (من أهل السنة) في مسألة صفات الله تعالى وكيف ينبغي أن تفهم، وأما التضاد الثاني فهو بين القدرية الذين يجعلون للإنسان إرادة حرة مسئولة (وهم أيضا من المعتزلة) وبين الجبرية الذين لم يتركوا للإنسان حرية في فعله؛ لأن كل فعل هو بمشيئة الله تعالى وحده، فلنقف وقفة قصيرة من هذين الفرعين الأخيرين، كما وقفنا فيما سبق عند النوعين الأولين من التضاد.
إني أحب لنفسي وللقارئ معي أن نستحضر في أذهاننا أنواع المسائل التي طرحتها أمام الرعيل الأول من آبائنا العرب الأقدمين حوادث حياتهم عندئذ - وما زلنا نعيش معهم في أعوام القرن الثامن الميلادي - لنرى بأجلى وضوح أن أمثال هذه المسائل لم يعد مطروحا أمامنا نحن المعاصرين؛ لأن الحوادث التي ولدتها لم تعد شبيهة بحوادث حياتنا، والمسائل التي طرحت يومئذ تتلخص في أربع رئيسية، هي: ماذا يكون موقفنا من علي؛ أنؤيده أميرا للمؤمنين أم نخرج عليه بسبب حادثة التحكيم؟ قال الشيعة: نؤيده، وقال الخوارج: نخرج عليه، والمسألة الثانية هي: ماذا نصنع بمن نجده مسئولا عن القتال الذي مزق المسلمين في واقعتي الجمل وصفين، أننزل بهم ما يستحقونه من عقاب، أم نرجئ ذلك إلى يوم يبعثون أمام ربهم؟ قال الوعيدية من الخوارج: نتولى عقابهم هنا والآن، وقال المرجئة: بل نتركهم إلى ربهم يوم الحساب، والمسألة الثالثة هي: ما دمنا نتحدث عن المسئولية والعقاب، فهل للإنسان حرية اختيار ما يفعله فيكون مسئولا عنها، أو الإنسان مكتوب عليه منذ الأزل أن يفعل ما يفعله؟ يقول القدرية وهم من المعتزلة: بل هو حر ومسئول، ويقول الجبرية: إن ما يفعله الإنسان إنما هو بمشيئة من الله، والمسألة الرابعة تتعلق بفكرتنا عن الذات الإلهية وصفاتها، فهل هذه الصفات جزء من الذات لا يتجزأ، بحيث يكون الله تعالى عالما بذاته وقادرا بذاته وهكذا، لا بعلم وقدرة نتصورهما منفصلين عن ذاته، كما قد نتصور الذات مستقلة عنهما؟ يقول المعتزلة إنه ليس أزليا سوى الذات الإلهية التي هي نفسها صفاتها، ويقول «الصفاتية» بل الصفات تشارك الذات في أزليتها، فهنالك الذات الإلهية وهنالك علمها وقدرتها إلخ.
ولقد سبق لنا أن عرضنا القول في المسألتين الأوليين، وبقي أن نضيف شيئا عن المسألتين الأخريين؛ لتكتمل لنا صورة النشاط الفكري إبان الفترة التي جعلناها موضع النظر والتعليق، مع ملاحظة عابرة أبديناها، وهي أنني لا أتصور زائرا يعود بالزمن القهقرى مع القرن العشرين قافلا إلى القرن الثامن؛ ليقف مع الناس متفرجا متعقبا، كأنه الصحفي أراد أن ينقل إلى صحيفة صورة عن معارك أرسلته الصحيفة ليصورها، أقول: إنني لا أتصور زائرا كهذا يستطيع مهما حاول أن يتقمص هذه المشكلات ليجعلها مشكلاته، اللهم إلا واحدة ربما وجدها ذات صلة بحياته الراهنة لم تنقطع، وهي الخاصة بإرادة الإنسان في فعله ومدى ما يقع عليه من تبعة ما قد فعل.
إنه لم تكد تطرح على الناس إبان القرن الثامن مسألة الفعل الإنساني وتبعاته، حتى أجمع فريق «المعتزلة» على أن الإنسان ذو قدرة على خلق أفعاله، خيرها وشرها على السواء، ومن ثم استحق إما العقاب وإما الثواب على ما قد فعل؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وبغير هذا لا تقوم «للعدل» قائمة ولا يكون له معنى مفهوم، وكان واصل بن عطاء (700-749م) ذلك الغزال الألثغ، أول من اتخذ هذا الموقف من وقوع التبعة على فاعل الفعل؛ لأنه كائن حر الإرادة، يستطيع أن يختار لنفسه ما يفعله وما لا يفعله.
فقد حدث إذ هو جالس في حلقة شيخه الحسن البصري، أن طرح السؤال عن مرتكب الذنب الكبير ماذا يكون الحكم في أمره، أنعده مؤمنا برغم ذنبه، أم نعده كافرا؟ - وهي مشكلة كانت تملأ الجو الفكري كله كما بينا - فظهر واصل بن عطاء برأي وسط جديد، هو القول بالمنزلة بين المنزلتين؛ فصاحب الكبيرة ليس مؤمنا كل الإيمان، ولا كافرا كل الكفر، بل هو في موضع وسط بين الطرفين؛ إذ ليس الإيمان صفة واحدة وحيدة، إما أضيفت إلى الشخص أو رفعت عنه، بل الإيمان مؤلف من مجموعة كبيرة من خصال الخير، إذا اجتمعت كلها لشخص، كان مؤمنا كل الإيمان، وإذا امتنعت كلها عن شخص، كان كافرا كل الكفر، أما إذا توافرت له بعض تلك الخصال دون بعض، فهو عندئذ لا هو بالمؤمن على إطلاق المعنى ولا هو بالكافر على إطلاق المعنى، وهكذا يكون الرأي فيمن ارتكب ذنبا من الكبائر، أفليس عنده من أركان الإيمان الشهادة؟ ألم يعمل في حياته أعمالا كثيرة مما يعد خيرا؟ إنه إذن مؤمن بهذه الجوانب، ولا تذهب الكبيرة التي اقترفها هذا الإيمان عنه، لكن لما كانت الآخرة ليس فيها إلا طريقان، ولا وسط؛ طريق لأهل الجنة، وآخر لأهل النار، ففي أي الطريقين يا ترى نضع صاحب الكبيرة؟ أيكون من أهل الجنة كأنما لا ذنب، أم نضعه بين أهل النار كأنما لا شهادة ولا أعمال خير أخرى أتاها؟ الرأي عند ابن عطاء في هذا، هو أن صاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا على كبيرته هذه من غير توبة، فهو من فريق السعير على أن يخفف عنه عذابها فلا يكون في منزلة واحدة مع الكافرين - رأي لم يعجب أستاذه الحسن البصري، فابتعد ابن عطاء عن حلقة الدرس بضع خطوات ليجلس وحده، وليتبعه من أراد، فقال الحسن: لقد اعتزل عنا واصل، ومن ثم جاءت كلمة «المعتزلة»، أو على الأقل هذا أحد التعليلات التي يفسرون بها اسم «المعتزلة»، وهي كثيرة.
ولقد جاء هذا الحكم من «واصل»، تأسيسا على مبدأ أخذ به، وهو قوله «بالقدر»، أي بحرية الإنسان في اختيار فعله (لاحظ أن معنى كلمة «القدر» الصحيح هو نقيض ما قد جرى به العرف بين الناس؛ إذ تقال كلمة «قدر» كلما كان الموقف أو الحدث بحيث لا تكون للإنسان حيلة فيه)؛ ذلك أن واصل بن عطاء قد رتب حجته على نحو كهذا: إن الله تعالى حكيم عادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، وإذن فلا يجوز أن يريد من عباده شيئا غير ما يأمر به، أو أن يحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه؛ وعلى ذلك فالعبد هو الفاعل للخير وللشر على السواء، أي إنه هو الفاعل لما يسلكه مع المؤمنين أو مع الكافرين، فإذا جوزي فإنما يجازى على فعله ، ولقد أقدره الله تعالى على ذلك كله.
لكن مسألة الفعل وجزائه حين طرحت، لم تكن مسألة نظرية مجردة تلوكها الألسن في نقاش مبتور الصلة بالحياة الجارية من حول الناظرين والمتناقشين، إنما طرحت المسألة على المفكرين؛ لأن هنالك موقفا بعينه وأشخاصا بذاوتهم يراد فيهم الرأي السديد والحكم المنصف، فلقد كان مما يؤرق الناس عندئذ هو ما يمكن أن يحكم به على الفريقين من أصحاب الجمل وأصحاب صفين، فماذا يقول واصل بن عطاء فيهما؛ تطبيقا لمبادئه النظرية التي أسلفناها؟ يقول: إن أحدهما مخطئ لا بعينه، أي إنه من الوجهة النظرية الرياضية البحتة، لا بد أن يكون أحد النقيضين هو الصواب دون الآخر؛ لأنه لا يجتمع على صدق نقيضان، ولما كان على غير علم يقيني أي الفريقين هو المصيب؛ ليكون الفريق الآخر هو المخطئ، لم يستطع أن يحدد تطبيقا لحكمه، ومن ثم فلا يجوز قبول الشهادة من أيهما، أو على حد قوله: إنه لا يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل (تذكر أن عليا في وجهة، وطلحة والزبير في وجهة أخرى، كانا في مكان القيادة من الفريقين المتحاربين في واقعة الجمل)؛ فلقد جوز واصل أن يكون علي على خطأ، وكذلك فعل بالنسبة لعثمان، ولم ير استحالة لا منطقية ولا فعلية في أن يقع الخطأ من أمثال هؤلاء على رفعة مكانتهم من المسلمين.
وكان من الطبيعي ألا يمضي رأي ابن عطاء في حرية الإنسان من حيث إرادته وفعله، بغير معارض يتصدى له، وكان ذلك المعارض هو جهم بن صفوان (ت745م) وإليه تنسب «الجهمية» التي هي الفرقة القائلة بمبدأ الجبرية، والجبر معناه: نفي الفعل في حقيقة أمره عن العبد، وإضافته إلى الله تعالى.
ولقد صدر جهم بن صفوان هذا في حكمه عن مبدأ أخذ به، وهو أنه لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها عباده، فإذا كان من صفاته تعالى أنه قادر وفاعل وخالق، وجب ألا يكون لأحد من عباده قدرة ولا فعل ولا خلق ، ومن ثم كان الإنسان - من وجهة النظر الجهمية - غير قادر على شيء يفعله هو، وليس له الاستطاعة في أن يفعل، فإذا رأيناه يفعل شيئا فإنما هو مجبر على فعله، لا قدرة له بذاته، ولا إرادة، ولا اختيار؛ الله تعالى هو الذي يخلق الأفعال فيه كما يخلقها في سائر أنواع الجماد، ولا تنسب الأفعال إلى الإنسان إلا مجازا، كما تنسب أفعال الجمادات إليها مجازا كذلك، كأن يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغابت، وغامت السماء أو أمطرت، وإذا كان ذلك هو الشأن في أفعال الإنسان، كان ثوابه أو عقابه متعلقين بمشيئة الله وحده، فهو الذي يدخل الإنسان الجنة أو النار كما يريد، فالأمر كله في هذه الدنيا أو في الحياة الأخرى هو لله وحده، وليس للإنسان فيه إلا أن يطيع.
بقيت المسألة الرابعة مما عرض للفكر العربي إبان القرن الثامن الميلادي، نوجز القول فيها ولا نطيل، ولعلها مسألة قد تأخر ظهورها بعض الشيء عن المسائل الثلاث الأخرى؛ لأنها لم تكن كهذه المسائل الثلاث وثيقة الصلة بأحداث يومهم المباشرة، بل هي من درجة أوغل في عالم الفكر الفلسفي المجرد، وأعني بها مسألة الصفات الإلهية، كيف نفهمها بالنسبة إلى الذات الموصوفة بها؟ أنفهمها قائمة وحدها، أزلية، وكل ما في الأمر أنها تصف الباري سبحانه وتعالى؟ يجيب المعتزلة من فرقة واصل بن عطاء بالنفي؛ لأن ذلك - في رأيهم - معناه تعدد الآلهة، وإنما هذه الصفات هي الذات نفسها، لكن فريقا آخر، يؤثر أن تؤخذ آيات القرآن الكريم بظاهر معانيها، وإذن يجوز لنا القول بأن لله صفات غير ذاته، وإن تكن أزلية فله علم وله قدرة وله حياة ... إلخ؛ من أجل هذا سمي هذا الفريق «بالصفاتية» على حين يسمى المعتزلة أحيانا «بالمعطلة» أي الذين ينفون وجود الصفات وجودا منفصلا عن الذات الموصوفة بها.
अज्ञात पृष्ठ