माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
وهنالك المتطرفون إلى يمين، وهم أهل السنة والجماعة، الذين قالوا بصحة إسلام الفريقين معا.
على أن هذه الشعب الثلاث، وإن تكن قد بدأت طريقها من هذه المشكلة المحددة الناشئة عن موقف معين، فقد امتدت ونمت وتطورت وتكاثرت مشكلاتها وتنوعت، لكن بقيت لكل منها روحها الأولى وطابعها المميز، وسوف يكون لنا عودة لها في مواقف أخرى وظروف مباينة.
وإنك لترى في هذه البداية كيف بدأ «العقل» بحجاجه واستدلاله، وبهذا نستطيع أن نفهم قول القائلين عن مدينة البصرة في ذلك العهد الذي أوقفنا أنفسنا وسط حوادثه، إنها تتميز بالنظرة «العقلية»، خصوصا إذا قورنت بمدينة الكوفة وطرائق أهلها في تناول المشكلات، فبينما البصريون «يعقلون» المسائل بحدود المنطق ومنهاجه، كان الكوفيون يكفيهم الأخذ بالراوية عن الأسلاف كما تروى، بغير حاجة منهم إلى تعليل أو استدلال، أو إن شئت فقل: إن البصريين أميل إلى الواقعية العلمية التي تنشد دليل العقل، على حين كان الكوفيون أقرب إلى وجدانية أصحاب العاطفة والخيال، فالبصريون ينقدون ما يروى لهم نقدا يميز صحيحه من باطله، على حين كان أهل الكوفة يؤمنون تصديقا لما يروى عن السلف، بلا تحليل ولا تشكك، وفي ذلك يقول ماسينيون (وأنا أنقل النص عن كتاب شارل بلا الذي سبقت الإشارة إليه، ص175 من الترجمة العربية): «إن الصفة المميزة لمدرسة الكوفة في ميادين الثقافة العربية جميعها هي أصالة الخيال، في حين أن مدرسة البصرة تستمد قوتها من واقعية دءوب ونقدية؛ فهي تكثف النحو والتفسير في عدد محدود من المعطيات الثابتة، وإن شعراءها الساخرين الارتيابيين ليعكسون أسلوب المدن، ذلك الأسلوب الذي يتصف به النثر العربي، والذي وجد في البصرة، بفضل نضج الأفكار التي جاءتها من الخارج، ولقد شبه الحجاج البصرة بامرأة عجوز، تزينت بأنواع الحلي، وشبه الكوفة بفتاة بكر ذات عنق عاطل» لكن المرأة العجوز التي زينت نفسها بزينة خارجية، لها من تجاربها ما يعصمها من أن تجرفها أمواج العاطفة.
فلا عجب - إذن - أن نتلفت حولنا في أنحاء البصرة (ولنذكر أن البصرة هي التي اخترناها لوقفتنا الثانية) فنراها تعج بالمذاهب العقلية جميعا؛ ففيها نشأ الاعتزال على يدي الحسن البصري (توفي حوالي 727 ميلادية)، وفيها نشأت الدراسات العقلية الأولى للنحو واللغة، التي هي من أروع الأمثلة التي نسوقها برهانا على حدة النظرة العقلية التحليلية في تراثنا الفكري، وحسبنا أن يكون من تلك الجماعة الأولى سيبويه والخليل بن أحمد؛ الأول بمؤلفه «الكتاب» والثاني بمعجمه «العين»، اللذين - كما يقول شارل بلا - «يعدان مع كتابي «البيان والتبيين» و«الحيوان» للجاحظ، مفخرة أهل البصرة.»
فلنقف وقفة قصيرة مع كل جماعة أو رجل من تلك الزمرة العقلية العجيبة، التي مثلت سلطان العقل في مرحلة مبكرة من تراثنا الفكري، وهي في اعتصامها بالعقل في نظراتها تجعل من البصرة عندئذ أثينا اليونان الأقدمين، أو باريس الموسوعيين خلال القرن الثامن عشر، أو هي والكوفة في تباينهما، كأنهما كيمبردج وأكسفورد، حيث تميزت الأولى بدراساتها العقلية من رياضة وعلوم، بينما تميزت الثانية بدراساتها ذات المسحة الفنية الأدبية التي تعتمد على ذوق وخيال.
15
قلنا: إن المشكلة العقلية الأولى التي عرضت للأولين، والتي أنشأتها حوادث «الجمل» و«صفين»، كانت مزيجا من دين وسياسة، ألا وهي مشكلة الذين اتهموا باقتراف ما أسماه المتهمون بالذنوب الكبيرة؛ ذلك أن فريقا من الناس - هم الخوارج - كانوا قد رأوا في المتقاتلين من كلا الجانبين خروجا على أصول العقيدة؛ ولذلك فهم في رأيهم من الكافرين، لم يفرقوا في هذا الحكم بين كبير وصغير، ولقد سمي «الخوارج» بهذا الاسم؛ لأنهم خرجوا على أمير المؤمنين الذي اتفقت الجماعة على إمرته، وقد امتد منهم هذا الخروج إلى الماضي حتى شمل اثنين من الخلفاء الراشدين أنفسهم، هما عثمان وعلي، غير أن ظهورهم الواضح لم يقع إلا أيام التحكيم، حين دعا معاوية وأصحابه إلى احتكام المتحاربين لكتاب الله، ولم يكن علي بادئ الأمر متقبلا بالرضى عن هذا التحكيم، فها هنا خرج عليه خوارج من أتباعه يحملونه على القبول، قائلين: القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف؟! ثم حملوه وهو كاره؛ على أن يجعل أبا موسى الأشعري نائبه في هذا التحكيم، مع نائب معاوية وهو عمرو بن العاص، فلما أن تكشفت عملية التحكيم عن خدعة من عمرو خلع بها علي من الإمارة وثبت معاوية، اقتنع الخوارج بأنهم بقبولهم التحكيم كانوا قد أخطأوا، فتابوا إلى الله من هذا الخطأ، ثم أرادوا لعلي مثل هذا الاعتراف بالخطأ ومثل هذه التوبة إلى الله، قائلين له: لم حكمت الرجال؟ إنه لا حكم إلا لله! على أن خلاصة موقفهم، وهي التي تهمنا من حيث هي فكرة سياسية كان ينبغي أن يكون لها أعمق الأثر في حياة الأجيال العربية من بعدهم، لكنها ذهبت أدراج التاريخ بغير أثر في الحياة العملية، هي مبدأهم القائل بوجوب الخروج على الإمام، أو الحاكم، أو الزعيم، أو ما شاءت له الأيام بعد ذلك من أسماء، إذا أخطأ أو خان أمانة الإمامة أو الزعامة أو الحكم.
وليس من قبيل الاستطراد الذي لا ينفع، أن نقول في هذا الموضع من سياق الحديث: إن موقفا كهذا هو الذي ثبت الحقوق السياسية للأفراد في إنجلترا الحديثة؛ وذلك أن فريقا من الشعب الإنجليزي إبان القرن السابع عشر اعتقد بأن الملك شارل الأول قد اقترف الآثام في حكمه وافتات على حقوق الناس، فما هو إلا أن ثاروا عليه وشقوا عصا الطاعة وحكموا بإعدامه، وتم إعدامه، وهنا نهض فيلسوفان في تاريخ الفكر الإنجليزي؛ أحدهما يدافع عن حق الملك في أن يحكم كيف شاء، والآخر يدافع عن حق الشعب في أن يراقب الملك ويعزله عن الحكم إذا أخطأ، أما أول هذين الفيلسوفين، فهو تومس هوبز، الذي أفاض القول في أن الملك صاحب حق في ملكه، ولم يكن ملكا بانتخاب الشعب، وإذن فلا معنى لقولنا إنه أخطأ؛ لأن الخطأ إنما يقاس إلى معيار خارجي عن الفعل الذي نصدر فيه الحكم بالخطأ، فأين هو هذا المعيار إذا كان الملك هو السلطة العليا التي لا سلطة فوقها؟! إن ما ينطق به وما يتصرف به إن هو إلا القانون والنموذج، مهما يكن رأي الناس فيه، وأما الفيلسوف الآخر، وهو جون لوك، فقد أفاض بدوره في القول بأن الملك إنما هو في التحليل الأخير من انتخاب الناس ليرعى مصالحهم، فإذا رأى هؤلاء الناس أنه قد ضل سبيله فمن حقهم أن يعزلوه ليولوا عليهم غيره.
فموقف الخوارج في أساسه هو نفسه موقف جون لوك في القول بحق الشعب في عزل الحاكم إذا ضل سواء السبيل، وفي أن يختار من شاء من أبناء الأمة ممن يرونه جديرا بالثقة، لولا أن الخوارج قد أساءوا إلى هذا المبدأ السياسي العظيم، الذي حدث لمثيله في أوروبا أن يقيم ثورتين كبريين ما نزال نعيش في ظلالهما إلى حد كبير ، وهما الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، وكلتاهما في القرن الثامن عشر. أقول: إن الخوارج قد أساءوا إلى هذا المبدأ السياسي العظيم بما أحاطوه من تزمت ديني وضيق أفق يجاوزان حدود المعقول.
والعجب الذي يلفت أنظارنا هو أن هذه الفكرة البسيطة في ظاهرها، سرعان ما تشققت وتشعبت بين الخوارج أنفسهم، حتى انقسموا فيما بينهم عشرين فرقة، كل منها تختلف عن سائرها في أشياء، وإن اتفقت جميعها على أساس واحد، وحتى هذا الأساس الواحد الذي كان موضع اتفاق بينهم، قد اختلف عليه المؤرخون بعد ذلك: ماذا عساه أن يكون؟ لكنهم - فيما يبدو - مجمعون على أن أحزاب الخوارج كلها تتفق على إكفار علي وعثمان من الخلفاء الراشدين، وإكفار الحكمين أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وإكفار أصحاب واقعة الجمل جميعا، وإكفار كل من رضي بحكم الحكمين، وبوجوب الخروج على السلطان الجائر، وأما الذي اختلف فيه المؤرخون عند روايتهم عن الخوارج، فهو موقفهم إزاء مرتكبي ما يسمى بالذنوب الكبيرة، فمنهم من يقول: إن مرتكبي هذه الذنوب الكبيرة هم في رأي الخوارج من الكفار، ومنهم من يقول: بل إن الخوارج تفرق بين ذنب كبير ورد له اسم معين في القرآن، كالسرقة مثلا أو الزنا، وفي هذه الحالة لا يقال عن المخطئ إنه كافر، بل يقال عنه اسمه الذي ورد ذكره، كأن يقال: إنه سارق أو إنه زان، على أن من الخوارج فرقة تقول عن صاحب الكبيرة إنه كافر نعمة، وليس هو بكافر دين (راجع في ذلك عبد القاهر البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق»).
अज्ञात पृष्ठ