وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حد التخليع إلى منزلة التقريب إلا بعد الرياضة؛ وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته، في تمام ثقافته.
وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالًا، والإيجاز له مجالًا، لم يند عن الأذهان، ولم يشذ عن الآذان.
وقال المخنث: خير الكلام ما تكسرت أطرافه، وتثنت أعطافه، وكان لفظه حلةً، ومعناه حليةً.
وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفاه راووق الفهم، وضمته دنان الحكمة، فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول حدته.
وقال الفقاعي: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك، ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته، وعذب مص جرعته.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر بيانه سقم الشبهة، استطلقت طبيعة الغباوة؛ فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فالشبهة قذى الأبصار، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
ثم قال: أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام، ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا صدقت أنواؤه، اخضرت أحماؤه.
وهذا المعنى كثير، وإنما آخذ من كل فن اليسير.
من مستطرف الأخبار
وقال رجل لغلامه: التمس لي دارًا لا تكون بجوار مسجد فإني أحب الأفراح، فاكترى له دارًا بين مسجدين. فقال له: ما هذا؟! قال: يا مولاي، لا تدري المعنى؛ أهل هذا المسجد يظنونك في هذا، وأهل ذا يظنونك في ذا، وأنت قد ظفرت بما تحب.
وقال أبو الجهم أحمد بن بدر للمتوكل وذكر نجاح بن سلمة أو غيره:
إمام الهدى وابن الدعاة إلى الهدى ... ومنهج خير العالمين محمّد
أعنّي على والٍ يجوز تعبّدًا ... عليّ عسوف الظلم غير مؤيّد
وما لي ذنبٌ عنده غير أنني ... عليم بما يختار لليوم والغد
ولا خير للطّرار في قرب نائب ... ولا للمريب الفعل في قرب مسجد
صحب الغاضري رجلًا من قريش من مكة إلى المدينة فقال القرشي: يا غلام؛ أطعمنا دجاجةً، فأتى بها باردة، فقال: ويحك أسخنها. ورفع غداؤهم ولم يؤت بالدجاجة، فلما كان العشاء قال: يا غلام، عشاءنا. فلما أتاهم العشاء قال: هات تلك الدجاجة، فأتى بها باردة، فقال: أسخنها. فقال الغاضري: أخبروني عن دجاجتكم هذه أمن آل فرعون هي؟ فإني أراها تعرض على النار غدوةً وعشيًا.
فقال: ويحك يا غاضري اكتمها علي، ولك مني مائة دينار. فقال: والله مما كنت لأبيعها بشيء.
طيلسان ابن حرب
أخذه الحمدوني فقال في طيلسان ابن حرب:
يابن حرب أطلت ظلمي برفوي ... طيلسانًا قد كنت عنه غنيّا
هو في الرّفو آل فرعون في العر ... ض على النار بكرةً وعشيّا
زرت فيه معاشرًا فازدروني ... فتغنّيت إذ رأوني زريّا
جئت في زيّ سائلٍ كي أراكم ... وعلى الباب قد وقفت مليّا
وكان أحمد بن حرب المهلبي من المحسنين إليه، المنعمين عليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهبه طيلسانًا أخضر، فوجد فيه فزرًا ولم يرضه. قال أبو العباس المبرد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات ضمن أواخرها أبيات أغان ملاحًا، فاستحلينا مذهبه فيها فجعلها خمسين شعرًا فطارت كل مطير، وسارت كل مسير، حتى قال:
طيلسان لابن حربٍ ... ذو أيادٍ ليس تحصى
أنا فيه أشعر النّا ... س إذا ما الشعر نصّا
وأراني صرت أدنى ... بعد ما قد كنت أقصى
واتقاني النّاس وازدا ... دوا على شعري حرصا
ولكم قد حاز لي ... أردية تترى وقمصا
كان دهرًا طيلسانًا ... ثم قد أصبح شصّا
وقال ابن الرومي في هجائه عمرًا الكاتب الملقب بخرطوم، وكان من خاصة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير:
أغلقت حانوتي لطو ... ل كساده وفتحت عمرا
يا طيلسان الحمدن ... يّ شفعت فيّ وكنت وترا
عمرا أخوك جعلته ... لي مكسبًا فأفدت وفرا
لا تبعدا من صاحبي ... ن لقيتما ضعةً وفقرا
1 / 57