فرش الهجر لي بيوت مسوحٍ ... متّكاها مطارح الحصباء
رقّ للصبّ من بواعث وجدٍ ... قد تخالسنه صباح مساء
يا أمير المؤمنين: إنما ينطق اللسان بما يتصور الجنان، ويظهر في الكلام ما يخطر على الأوهام، فمن لم يعرف إلا شيئًا واحدًا لم يتكلم إلا عليه، ومن كثر علمه كثرت خواطره، واتسعت مذاهبه، ورب هزل أنفع من جد؛ إذا أصيب به موضع الحاجة إليه، ووضع بحيث تقع همم النفوس عليه، والسلام.
والجاحظ صنع هذه الأشعار لما وضع هذه الأخبار، وكان قديرًا على الشعر سراقًا له. روى أبو مسلم الكشي قال: حدثني إبراهيم بن رباح قال: مدحني حماد بن أبان اللاحقي بشعر فيه هذان البيتان:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلّل فيهم شباة العدم
وذكّره الحزم غبّ الأمور ... فبادر قبل انتقال النعم
فروي هذا الشعر وعرف بالبصرة، ثم جاءني الجاحظ فمدحني بشعر أدخل فيه هذين البيتين، فاحتملت ذلك وأثبته؛ فبينما أنا جالس يومًا في مجلس أحمد بن أبي دواد والجاحظ في مجلسه، إذ قال لي أحمد ما وصفت بشيء أحسن مما مدحني به أبو عثمان، وأنشدني البيتين. فقلت: إن مادحك أعزك الله يجد فيك مقالًا والجاحظ ملأ عينيه مني ولا يستحي مني.
وله في رسالة إلى أبي الفرج محمد بن نجاح قصيدة مستحسنة أولها:
أقام يدًا والخفض راضٍ بحظّه ... وذو الحظّ يسري حيث لا أحد يسري
يظنّ الرضا بالقوت شيئًا مهوّنًا ... ودون الرضا كأسٌ أمرّ من الصبر
وقد طعن أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني بديع الزمان على بلاغة الجاحظ فقال: هو في أحد شقي البلاغة يقف، وفي الآخر يقتطف، والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره ولم يزر كلامه بشعره، أفترون للجاحظ شعرًا رائقًا؟ قالوا: لا. قال: فهلموا إلى نثره تجدوه قريب العبارات، بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله.
وليس هذا موضع الكلام على بلاغته، وإلا فكنت أنبه على معايب كلامه ومقابحه، ومحاسن خطابه وممادحه.
وهذه أوصاف بليغة في البلاغات، على ألسنة قوم من أهل الصناعات
اجتمع قوم من أهل البلاغات، فوصفوا بلاغاتهم من طريق صناعاتهم: فقال الجوهري: أحسن الكلام نظامًا ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ونضد جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه؛ ففاح نسيم نشقه، وسطت رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكور الفكرة، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز في معنىً وجيز.
وقال الصيرفي: خير الكلام ما نفدته يد البصيرة، واجتلته عين الروية، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيفه، ولا سماع يبهرجه.
وقال الحداد: خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية، وأشعلت فيه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم الإفحام، ورققته بفطيس الإفهام.
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار بابًا لبيت البيان، وعارضةً لسقف اللسان.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه؛ فتنزهت في زرابي محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين.
وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب معانيه، ثم أرسلته بقليب الفطن، فمنحت به سقاءً يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات.
وقال الخياط: البلاغة قميص فجربانه البيان، وجيبه المعرفة، وكماه الوجازة، ودخاريصه الإفهام، ودروزه الحلاوة، ولابسه جسد اللفظ، وروحه المعنى.
وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنصل بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.
وقال البزاز: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طي.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفًا منيرًا، وموشى محبرًا.
1 / 56