التفتت بهية إلى زميلتها التي قالت «يا ريتني أنا» وسألتها: ترغبين في الموت؟ فشهقت الزميلة بدهشة واستنكار: الموت؟ بعيد الشر عني يا أختي. وأدركت بهية المأساة ، وعرفت لماذا يخفي الإنسان رغباته الحقيقية؛ لأنها الرغبات العنيفة الساحقة في عنفها، ولأن الإنسان لا يريد أن ينسحق، فهو يفضل الحياة الفاترة بغير رغبات حقيقية.
وأمسكت بهية بهذا الطرف من الخيط، وبدأت تسير نحو الطرف الآخر، وهي تدرك أنه ليس هناك طرف آخر، وإنما هي الهاوية السحيقة بعينها. لمت مشارطها وأدوات تشريحها في الحقيبة الجلدية وخرجت من المشرحة. سارت في الفناء بخطواتها الواسعة السريعة، وفي كل خطوة يتزايد إحساسها بالقرب من الخطر، ودت لو تستدير وتعود إلى المشرحة لكنها مشدودة، بإحساس خفي، إلى هذا الخطر بعينه، إلى هذه الحافة على شفا الهاوية.
بهية! رن الاسم في أذنها فانتفضت، وفي انتفاضة جسدها أدركت أن لها جسدا خاصا يمكن أن تحركه وتهزه فلا يهتز معه الكون، وأن لها اسما خاصا، حين يرن في الجو تنتفض. في كل مرة تسمع النداء تندهش. أية قوة خارقة استطاعت أن تميز اسمها من بين الأسماء الأخرى، وأية معجزة تلك التي التقطت جسمها من بين ملايين الأجساد السابحة في الكون.
حين توقفت وجدت أنها لا تزال في فناء الكلية، وأنها أمام لوحة كبيرة معلقة فوق باب صغير أخضر داكن. هذه الوقفة لم تزد عن نصف دقيقة، وكانت على وشك أن تستدير وتتجه إلى باب المشرحة وتعود إلى ما كانت فيه وتظل فيه إلى الأبد، لكن نصف دقيقة قد تغير مجرى حياة الإنسان، قد تنفجر قنبلة في نصف دقيقة، ويتغير شكل المدينة والأرض، الأحداث الخطيرة في الحياة تحدث دائما بسرعة شديدة في ثوان، وأحيانا في غمضة عين، أما الأحداث التافهة فتحدث ببطء، وفي وقت طويل قد يمتد طول العمر.
حين رفعت عينيها من فوق اللوحة أدركت أن أحدا أمامها، ليس أي أحد، وإنما هو هذا النوع من البشر، الذي لا يمكن أن تمر عليه عيوننا دون أن تتوقف وربما لا تتوقف إلا بضع ثوان أو ثانية واحدة، بسبب ضيق الوقت أو التحرج من الحملقة الطويلة، لكنها تكفي لأن تجعل هذه الملامح أمام عيوننا إلى الأبد. استطاعت بعد أن مرت الدقيقة الأولى أن تتغلب على المفاجأة وأن تقوى على الحملقة. وباستطلاع غريزي بحثت في الملامح غير العادية عن السبب الذي جعلها غير عادية، ورأت الجبهة عادية والعينين عاديتين، والأنف عاديا والفم عاديا، ودهشت كيف يتكون من مجموع هذه الملامح العادية ذلك الوجه الغريب غير العادي.
في تلك اللحظة كان قد أصبح أمامها تماما، يضع قدمه اليمنى على عتبة باب المعرض، وكاد يصطدم بها لولا أنه رفع رأسه ورآها، وحينما التقت عيناها بعينيه أدركت أن سر غرابة الوجه هو في حركة العينين حين تنظران، فهي حركة غريبة، تختلف عن حركة عيون الطلبة حين ينظرون. عيونهم تبدو وكأنها لا تنظر، وكأنها لا تفعل شيئا، وإنما هي مفتوحة فحسب، كمرآة تنعكس على صفحتها الأشياء. وبمعنى آخر عيون الطلبة لا تمارس النظر الحقيقي، وبالتالي فهي لا ترى الأشياء، أو لا تراها على حقيقتها.
حينما تحركت عيناه أمام عينيها أحست أنه يراها، وأنها لأول مرة تصبح مرئية بعينين أخريين غير عينيها، أمام المرآة فقط كانت تدرك أنها مرئية بعينين سوداوين هما عيناها، وفي الشارع أو في الترام أو في الكلية ترى العيون عاجزة عن رؤيتها، عاجزة عن تمييزها من بين الآلاف، وأنها تضيع وسط الأجساد المتشابهة، ولا شيء ينتشلها من الضياع إلا يدها حيت تلامس جسدها، وتعرف عن يقين أن لها جسدها الخاص، وعيناها حين تلوذان بخطوطها فوق اللوحة البيضاء، وتصبح حركة يدها مرئية، وخطوطها واضحة، منفصلة عن الكون بحدودها الخارجية، واستدارتها الخاصة بحركتها الإرادية القوية، تحطم بها الإرادات الأخرى، وتنزع الغطاء عن الجسد وتشد القناع عن الملامح، وتخلع «التكت» البيضاء بالاسم المستعار من فوق الغلاف الأزرق.
رأت عينيه الغريبتين تفصحان وجهها كما تفصحه هي في المرآة، وتنفذان من خلال عينيها إلى السرداب الطويل الضيق في أعماقها. إن لحظة أخرى واحدة كافية لأن يصل إلى النهاية، لكنها حركت رأسها إلى الناحية الأخرى. كانت تخاف من الوصول إلى النهايات، تستشعر خطر الوصول، وتدرك استحالة العودة إلى حيث كانت، وأنها بطريقة سحرية ستصبح إنسانة أخرى غير «بهية شاهين»، أي أنها ستصبح نفسها الحقيقية.
لم تكن تعرف بدقة ما هي نفسها الحقيقية، لكنها كانت تعرف عن يقين أنها ليست «بهية شاهين»، طالبة الطب المجدة حسنة السير والسلوك، هذه الفتاة السمراء الشاحبة التي تقف مترددة أمام الباب.
إن كلمة مترددة هنا غير دقيقة، وغير صحيحة أيضا، فالحقيقة أنها لم تتردد لحظة، كانت مشدودة برغبتها المبهمة في السير إلى الأمام وعدم التوقف، والوصول إلى النهاية الخطرة، تدرك أنها ذاهبة إليها لا محالة، فهي مصيرها، وأنها ليست ذاهبة ذهابا عاديا، وإنما هي مدفوعة دفعا بشدة رغبتها في معرفة مصيرها، وبشدة الخوف من هذه المعرفة إلى حد الاندفاع في الاتجاه المضاد.
अज्ञात पृष्ठ