لو كانت بهية شاهين حقيقة لاستدارت وسارت خطوة إلى الوراء ودخلت المشرحة وأصبح اليوم كالأمس، كالغد، ولسقطت في دوامة الأيام العادية، والحياة العادية، والوجوه العادية، لكنها لم تكن بهية شاهين، كانت إنسانة أخرى شيطانية لم تلدها أمها ولا أبوها، ملامحها تشبه الملامح التي تطالعها في المرآة، ولكنها أكثر حدة، والعينان سوادهما أكثر سوادا، والأنف ارتفاعه أشد ارتفاعا، والبشرة سمراء ليست شاحبة، وإنما هي متقدة حمراء بلون الدم.
لم تكن بهية شاهين تعجبها، كانت ترى عيوبها بسهولة، وتكره ذلك الصوت المطيع المؤدب، وتضيق بتلك النظرة الهادئة الوادعة التي لا تنظر إلى الأشياء، وإنما تترك الأشياء تنعكس عليها كصفحة ماء، وتكره ذلك الأنف الذي لم يرتفع بدرجة كافية، وتزدري ذلك الشحوب الذي تعرف سببه الحقيقي، فهو شحوب البشرة حين يهرب منها الدم بسبب الخوف الذي يحاول الإنسان أن يخفيه.
كانت بهية شاهين تخفي خوفها بتلك البشرة الشاحبة، لكن بشرة بهية شاهين لم تكن تخدعها، كانت تعرف أعماقها الحقيقية، وتدرك كيف تخاف ومن أي شيء تخاف.
بهية شاهين كانت تخاف من نفسها الحقيقية، من هذه الإنسانة الأخرى التي تعيش داخلها، تلك الشيطانة التي تتحرك وتنظر إلى الأشياء بكل قدرتها على الرؤية، ولأنفها ارتفاعة حادة غريبة، كحد السيف، تشق به الكون نصفين وتمشي إلى الأمام، إلى الأمام بغير رفق، ولا تردد، لتصل إلى النهاية ، نهاية النهاية، وإن كانت هي الهاوية السحيقة ذاتها.
لكن بهية شاهين كانت تتردد، تتوقف في المنتصف، تخاف من النهايات، فالنهاية في نظرها هي النهاية، هي الذروة الشاهقة المخيفة، هي النقطة المعلقة في الفضاء لا شيء أمامها ولا شيء خلفها، القمة الساحقة ومن بعدها الفناء.
في منتصف الطريق كانت تقف، تعرف أنها واقفة، لكنها آمنة في تلك النقطة المتوسطة، نقطة الوسط في الحبل المشدود حيث تتعادل قوتا الشد، نقطة الصفر. قوتها تساوي صفرا ومقاومتها تساوي صفرا. هي نقطة السكون الكامل والأمن الكامل الذي لا يهدده شيء، بمعنى آخر هي نقطة الموت.
لم تكن بهية شاهين تعرف أنها تقف في جوف الموت ذاته، وأنها ميتة لا محال. عقلها كان عاجزا عن إدراك هذه الحقيقة. كانت تظن بطريقة ساذجة مضحكة أنها ستنجو أو أن في استطاعتها أن تنجو بالابتعاد عن الخطر، بالامتناع عن الحركة نحو الحياة الخطرة. لم يكن عقلها قادرا على إدراك أنها في قلب الخطر، وأن أي حركة إنما هي حركة نحو النجاة، نحو الحياة، لكنها لم تكن تعرف كيف تنقذ نفسها، ولماذا تنقذ نفسها، وبمعنى آخر لم تكن تعرف ما الهدف من حياتها.
حين حركت رأسها إلى الناحية الأخرى ابتسم تلك الابتسامة الغريبة، لم ترها في تلك اللحظة. همس بصوت خافت: بهية شاهين؟
فاجأها السؤال، فتلعثمت لكنها تداركت الخطأ بسرعة، ورأت الاسم فوق اللوحة البيضاء، فردت بصوت متردد: نعم.
ومد يده إليها وصافحها قائلا: سليم إبراهيم.
अज्ञात पृष्ठ