ويبيع الأب جثة ابنه لخفير المقابر، الذي يبيعها للحانوتي، الذي يبيعها لفراش المشرحة، وهذا بدوره يبيعها لعميد كلية الطب، أو للطلبة الأثرياء الذين يذاكرون في البيت ويحتقرون الذهاب اليومي إلى المشرحة.
تأملت بهية الجمجمة، ورأت الشقوق الطويلة بين العظام كالجروح الغائر العميقة وعظام الخدين بارزة، والعينان حفرتان غائرتان في الجبهة، والفكان مدببان من فوقهما فجوات الأسنان العميقة.
كوجه الطفل الذي يتسلق على الترام بجلبابه الممزق، وفوق يده علبة الدبابيس وعلب الكبريت وأمشاط الشعر، ينادي بصوته الممزق المبحوح، ويقفز من ترام إلى ترام، بساقه الوحيدة، وينظر إلى الناس بعينيه الغائرتين، يبحث في الوجوه عن وجه له ملامح الأب والأم، يدس يده في جيبه ويخرج قرشا أو قرشين ويشتري منه مشطا أو علبة دبابيس.
لكن الوجوه الجالسة في الترام ليس فيها آباء ولا أمهات، وإنما تلك الوجوه المتشابهة بقدرة قادر، المصكوكة بمطرقة الحكومة كالنقود، جالسين متلاصقين في صمت، أنصافهم السفلى ثابتة متحجرة فوق المقاعد، وأنصافهم العليا تهتز بحركة بطيئة منتظمة كحركة الترام، جماجمهم الكبيرة تتذبذب كبندول الساعة، وأكتافهم العريضة «بسبب حشو البدلة السميك» متلاصقة، والكرافتة ملتفة حول أعناقهم كالمشنقة، وحين يقف الترام فجأة تتراجع رءوسهم إلى الخلف بقوة وترتطم بالترام فينتفضون في مقاعدهم، قابضين بأيديهم على رءوسهم ومحملقين حولهم بعيون واسعة صفراء مليئة بالذعر، وترن في الجو صرخة طفل.
تسقط العيون كالدوائر فوق الجسد الممزق تحت عجلات الترام، ومن حوله تناثرت الدبابيس وعلب الكبريت والأمشاط، وفوق الأسفلت البقعة الحمراء تفترش الأرض وتتسع الدائرة الحمراء كقرص الشمس، والعينان الغائرتان تطلان من تحت العجلات الحديدية كحفرتين عميقتين في بطن الأرض.
يتحسس كل واحد رأسه وعنقه وذراعيه وفخذيه، وحين يطمئن إلى أن رأسه لا يزال فوق عنقه، وجسده لا زال في مقعده، ودمه لا زال في عروقه، تنفرج الشفاه عن تنهيدة طويلة عميقة، وتلمع العيون بفرحة خفية، وقد يصافح بعضهم البعض مهنئين حامدين الله شاكرين فضله لأنه مزق تحت العجلات جسدا آخر غير جسدهم، ويرفعون كفوفهم إلى السماء متمتمين بآيات الحمد، متوهمين أنهم يرشون الله بهذه التمتمة فلا يبطش بهم في أي وقت، وتظل رءوسهم فوق أعناقهم إلى الأبد.
مدت بهية يدها وحركت الجمجمة، فأصبحت العينان الغائرتان ناحية الحائط، وأغلقت كتاب التشريح، ومدت يدها وراء السرير وشدت اللوحة البيضاء، أسندتها على الجدار وجلست على الشلتة الصغيرة فوق الأرض وإلى جوارها الفرش والألوان.
حجرتها مظلمة تماما إلا من دائرة ضوء بيضاء مسلطة فوق اللوحة من لمبة صغيرة، والسماء من خلال نافذة سوداء، والليل صامت وأبوها نائم، ولا صوت يسمع ولا حركة، إلا حفيف الفرشاة تروح وتجيء فوق السطح الأملس، بتلك الحركة الخفيفة بأصابعها، تحرك يدها بإرادتها في أي اتجاه، وترفع جفنيها بكل قوتها من فوق عينيها لتقاوم النوم، وتظل شاخصة إلى خطوطها، وبقع الألوان، لا تكف عن الحملقة، ومن حين إلى حين تمتد يدها بتلك الحركة الإرادية تصفع الوجوه المتشابهة بضربات الفرشاة، وتنزع بأصابعها قناع اللحم المشدود، وتسحب الجسد الممزق من تحت العجلات، وتكسو الجمجمة النحيلة باللحم وتصبح الحفرتان الغائرتان عينين سوداوين تشبهان عينيها.
في الصباح تفتح عينيها على صوت أبيها الحاد كصوت المنبه، وترتدي البنطلون الأسود والبلوزة البيضاء، وتحمل الحقيبة الجلدية المنتفخة وتسير نحو الترام. تدب على الأرض بقدميها وتفصل بين ساقيها في خطوتها، وحين ترى الوجوه المتشابهة في الترام تزم شفتيها في غضب، وحين ترى زميلاتها يسرن بسيقانهن الملتصقة بتلك الحركة الدورية الغريبة تدرك أنهن من فصيلة وهي من فصيلة. وتقف في المشرحة ترفع قدما فوق حافة المنضدة الرخامية، وتنتصب ساقها الثانية فوق الأرض طويلة، عظامها مستقيمة وعضلاتها مشدودة، ترمق بطرف عينها سيقان الطلبة المعوجة، ونظاراتهم السميكة داخل كتب التشريح، وأنوفهم الحمراء المتورمة، وظهورهم المحنية المنكفئة فوق الجثث، تتلفت حولها في دهشة كالذي ضل الطريق. لكن المشرط بين أصابعها وكتاب التشريح غلافه أزرق، ومن فوق التكت البيضاء الاسم: «بهية شاهين»، الفصل: أولى مشرحة، تندهش، وتحرك المشرط من أعلى إلى أسفل في كتلة اللحم الغارقة في الفورمالين، ويصطك المشرط بشيء صلب، أخرجته من التجويف بطرف المشرط، فسقط فوق المنضدة الرخامية محدثا صوتا كقطعة زلط، شقها المشرط نصفين، فإذا بها جلطة دم تجمدت، واسودت. ضحكت زميلة من زميلاتها ضحكتها الأنثوية المكبوتة وهي تقول: يا خبر! ظننت أنها رصاصة! مدت زميلة أخرى عنقها ونظرت إلى القلب المشطور وتساءلت بدهشة: في القلب رصاصة؟ وأخفت واحدة فمها بكفها وشهقت: يا عيني! وتنهدت أخرى بصوت مسموع: يا ريتني أنا.
إن شيئا من هذه المعاني المألوفة عن الموت لا يمكن أن يوجد في المشرحة، فالموت هنا ليس موتا، والجثة ليست شخصا ميتا، وجلطة الدم متجمدة كقطعة رصاص في جوف القلب قد تكون شيئا مثيرا لرغبة مكبوتة مدفونة في أغوار النفس، كأن ينشطر القلب، أو يكف الدم عن دورانه العبثي ويتجمد في العروق، أنه الموت الذي يرغبه الإنسان ويرهبه، ويبحث عنه ويهرب منه، ويتصوره في كل مكان ولا يجده في أي مكان ولا في المشرحة.
अज्ञात पृष्ठ